فرسان مستشفيات غزة وملائكتها – عن غسان أبو ستة
بعد ان انهى كلامه الموجوع والمُوجع التف حوله محبوه يصافحونه بحراره، يعانقونه، يشكرونه. خجل كثيرا وكان قد تحدث عن كل الناس الا نفسه. جاءت صبية سلمت عليه بصوت خافت وعيون دامعة. قالت له عمي الدكتور فلان في غزة، تعرفه؟ ابتسم بفرح طفل وقال طبعا. تابعت وقد تحشرج صوتها: استشهد اليوم! انهارت دموع الطبيب القديس وغاب صوته. راقب كثيرون دموعا صامتة عن بعد، لدعتهم سخونتها، لم يكونوا قد سمعوا الهمس الذي دار بين الصبية وغسان. كنت قد سبقتها مصافحا، لهذا سمعت.
ساعة ونصف والجراح النبيل يتحدث ثم يجيب على الأسئلة. تعرف الجمهور على غرف العمليات في مستشفيات العودة، والاندونيسي، والشفاء، والمعمداني، والاوروبي وغيرها، حيث كان وحيث ساح العرق على جبينه. أخبرنا قصصا اهالت على المدرج الكبير حزنا مُغرقا. تحدث عن روعة الممرضين والممرضات، عن الأطباء الذين لا ينامون، يتركون عوائلهم وقلوبهم وراءهم، ليقفوا مع مئات الجرحى وصراخهم يملأ ردهات المستشفيات. تحدث عن رجل كبير اضطر ان يدفع ابنه الصغير الجريح على كرسي متنقل مسافة ست ساعات من الشمال الى الجنوب في طرق ترابية وعرة … من أين جاءته كل تلك القوة، كان قلب الأب قد تحول الى فولاذ في ساعديه وساقيه. غسان لم يتمكن من اكمال القصة. غلبته دموعه، فغلبتنا دموعنا. في كل هذا الحديث الذي تقطر نبلاً وقداسة نسي غسان او تناسى ان يحدثنا عن نفسه. لم يدّع أي بطولة. تعالى تواضعه المُذهل في سماء كريمة، ولم نعرف عنه شيئا وسط القصف والحرب المجرمة. لم نعرف كيف كان ينام، كيف يأكل، كيف يشرب، وكيف كان يتواصل مع عائلته. كان حديث الجندي المجهول المعروف. بطل القصة يتحدث عن بطولة الآخرين. يختم ويقول يخشى الناس مذلة الهجرة واللجوء، يفضلون عليها الموت. لن يهاجروا.