«فرحة»… بتر النضال النسويّ وضجيج الاستعمار
أثار فيلم «فرحة» (2021) الأردنيّ، لمخرجته دارين سلّام، الكثير من الضجّة في الأسابيع الأخيرة، عبر منصّات وسائل التواصل الاجتماعيّ الإسرائيليّة، بسبب نشره عبر منصّة «نتفلكس»، ثمّ تعرُّض السلطات الاستعماريّة الإسرائيليّة له، والاعتراض على عرضه في «مسرح السرايا العربيّ- يافا». يحكي الفيلم قصّة الفتاة الشابّة فرحة، خلال أحداث النكبة عام 1948. في مركز الفيلم، يُخْفي والد فرحة ابنته في غرفة مغلقة، ليخبّئها من قوّات العصابات الصهيونيّة المقبلة. في بداية الفيلم، كان التوضيح بأنّه مستوحًى من أحداث حقيقيّة. ما أثار حفيظة الجماهير الإسرائيليّة كان مشهدًا من 15 دقيقة، يأتي في الربع الثالث للفيلم، ويشمل إعدامًا لعائلة، وترك رضيعها ليموت وحده.
إمكان لمستقبل لم يكن
قبل التطرّق للتهجّم على الفيلم، وطبيعته الدفاعيّة والهاسباراتيّة [الهاسباراه: منظمة إعلاميّة إسرائيليّة]، أودّ بدايةً التطرّق للفيلم نفسه، كونه لا يُختزَل بهذه الخمس عشرة الدقيقة، بل يشمل مقولات واستعارات أكبر وأشمل من مشهد شيطانيّة الجنديّ الاستعماريّ. فأوّلًا يمكننا تقسيم الفيلم إلى أربعة أقسام مركزيّة؛ أوّلها يعرض الحياة الفلسطينيّة بمواجهاتها الاجتماعيّة الثقافيّة، والثاني يحكي قصّة اختباء فرحة من هول الحرب في غرفة صغيرة، وهو الجزء الأطول في الفيلم، ثمّ مشهد الإعدام ثالثًا، وأخيرًا مشهد نهاية الفيلم، وخروج فرحة إلى مخلّفات التطهير العرقيّ.
كان مفاجئًا التقوقع العامّ حول مشهد الإعدام، كونه كان الأقلّ إثارة فنّيّة وسينمائيّة بالنسبة إليّ مُشاهِدًا. يمكن تلخيصه بأنّه كان تمثيلًا لقصص سمعنا مثلها عن إعدام عائلات وقتل أفرادها رجالًا ونساء وأطفالًا. مثّل هذا القسم من الفيلم محاكاة تاريخيّة للجمهور العالميّ، ولخّص له مئات من قصص التغريبة والتراجيديا الفلسطينيّة الّتي انكشفنا إليها، نحن الفلسطينيّين، في عشرات النصوص الأدبيّة (مثل أدب إلياس خوري وإبراهيم نصر الله). صورة وقوف العائلة الفلسطينيّة في سرب أمام مجموعة الجنود المتأهّبين لرميهم بالرصاص، بدت كأنّها مقتبسة مباشرة من لوحة الفنّان الإسبانيّ فرانثيسكو غويا – «الثالث من مايو 1808»، فيها أعدم جنود نابليون الفرنسيّون عائلة في جزيرة إيبريا، خلال حرب الاستقلال الإسبانيّة. وبالرغم من هذا، فأقسام الفيلم الأخرى بدت أغنى ومفعمة أكثر بالتفاصيل الفنّيّة، الّتي يمكن للفلسطينيّ التعامل الفكريّ معها بأحقّيّة أكثر، إذ ثمّة المقولة الاجتماعيّة والفردانيّة وحتّى النسويّة.
حلم مدرسة للبنات
تعرض بداية الفيلم انشغال الفتاة الفلسطينيّة، فرحة، في قضايا الحياة اليوميّة، وعلى رأسها قضايا النساء وحقوقها. فرحة تريد التعلّم، وتعبّر عن استيائها من عدم وجود مدرسة للبنات في قريتها. هذا التعبير يأتي بصورة اعتراض على دعاء الشيخ للفتيات: “عقبال ما أكتب كتابكن كلّكن”، وتجيبه فرحة مباشرة: “أو عقبال ما يصير عنّا مدرسة للبنات بالقرية، مثل الولاد”. هذا الردّ في وجه الشيخ، ونظراته الاستهتاريّة بجواب فرحة، يعرض أوّل شرارة لهذا الصراع بين مصير فرحة وزميلاتها المحتوم، وبين إمكانيّة اعتراضهنّ على عادة تزويج القاصرات من خلال تعليمهنّ. في مشهد آخر، عندما تطلب فرحة من والدها المختار أن يسجّلها في مدرسة المدينة، بدلًا من تزويجها، يجيبها والدها بذات الجواب الّذي ما زلنا نسمعه عند عرض قضايا حقوق النساء، في ظلّ تهديد الاستعمار والنضال القوميّ: “مش وقته”. وكأنّه يمكننا تجزيء النضالات أو تحرير الوطن قبل تحرير نسائه.
عرض قضايا حقوق النساء المجتمعيّة الأساسيّة، من التعليم ومناهضة زواج القاصرات، بهذه الصورة وفق المشاهد الأولى للفيلم، فيها مقولة مثقلة بالألم والأمل الكامن بالماضي المُتَخَيَّل. فهل كان من الممكن أن يستبق نضال حقوق النساء جميع القضايا المجتمعيّة الأخرى، لولا استبدل الصهاينة الإنجليز؟ إلّا أنّ الفيلم، كما الواقع، فرض على الفلسطينيّ الكتاب والقلم بالرصاص والبارود، وينتهي هذا القسم من الفيلم بأصوات دويّ الانفجارات، الّتي توقف حوار مشاركة الأحلام بين فرحة وصديقتها. بينما تعبّر فرحة عن حلمها، بل تخطيطها، بأن تصبح معلّمة لتعود إلى القرية لإنشاء مدرسة للبنات فيها، فإنّ صوت الانفجار يمنع فريدة من مشاركة حلمها، ويبقينا مع فكرة أنّ النكبة لم توقف فقط خطط ’بناء المدارس‘، وتغيير مجتمعيّ وارد، بل بترت كذلك أحلام عشرات الفتيات اللائي كنّ يحلمن بأن يصرن شيئًا ما في المستقبل.
كهف أفلاطون
تثير بداية غزو القرية الهلع والفوضى، في ما تصرّ فرحة على البقاء مع والدها، فيأخذها مباشرة إلى ملجأ، ويخبّئها في مخزن البيت لئلّا تتأذّى، وليتمكّن هو من مساعدة سكّان القرية. هنا تبدأ مرحلة طويلة وشاقّة بالفيلم، فيها تبقى فرحة محبوسة بهذه الغرفة حتّى يغيب الخطر في الخارج. لا نعرف كم يستمرّ بقاؤها في الغرفة، فقد يمرّ على انتظارها يومان أو ثلاثة، وقد يمرّ عليه عشرات السنوات المجازيّة. في انتظار انقضائها، تبحث فرحة عن طعام في الغرفة، وتحاول القراءة والنوم وإشعال النار، حتّى أنّها تجد نفسها تتبوّل في زاوية الغرفة. هذا الحبس في غرفة مظلمة تتسلّل إليها الشمس فقط من كوّة صغيرة، يذكّرنا نوعًا ما بكهف أفلاطون، وإمكانيّة أونتولوجيا الحقيقيّ والواقعيّ في الخارج. شمس الحقيقة تكشف لفرحة من كوّة الغرفة أحداث العالم في الخارج، وتكشف الحقيقة، وتمكّنها من استمرار القراءة في كتابها. لكنّ فرحة لا تشبه سجناء أفلاطون، بل هي ترى ما يحدث في الخارج، وتنتظر، كالفلسطينيّ المألوف لنا.
جلّ ما تعبّر عنه الفترة الطويلة في الغرفة، هو ذلك الانتظار الّذي يصيب الفلسطينيّ مرارًا وتكرارًا في أدبه، كما ينتظر أبطال غسّان كنفاني في الخزّان «رجال في الشمس» (1963)، وفي البُعْد عن البيت «عائد إلى حيفا» (1969)، وكما تنتظر فدوى طوقان أمام شبّاك التصاريح «عند جسر اللّنبي». هو ذاته الانتظار الّذي شهدناه كذلك في أفلام إيليا سليمان، وفي وجوديّة أبطاله في «الزمن الباقي» (2009)، ومؤخّرًا في فيلمَي مها الحاجّ – «حمّى البحر المتوسّط» (2022) و«أمور شخصيّة» (2016). فعلًا أصبح الانتظار بنفسه عاملًا مركزيًّا في الفنّ الفلسطينيّ، وهو كما ذكرت سنابل عبد الرحمن: “مقرون بشيء خطير، وشديد الأهمّيّة، وهو الأمل، والأمل مؤلم، ولكن لا بدّ منه في أيّ مشروع تحرّريّ”[1].
هذا بالضبط ما يحصل مع فرحة. في نهاية فترة انتظارها، وبعد مشاهدتها لإعدام العائلة الفلسطينيّة بالرصاص، تبلغ ولا تعود طفلة، ما يتمثّل بدورتها الشهريّة الأولى. لقد كانت طفلة، وحلمت، وحاولت أن تناضل من أجل أحلامها، لكنّ الاستعمار بتر جذع حلمها، حتّى رأته يقتل بشراسة ودون رحمة عائلة، ويترك رضيعها ليموت بنفسه. عندها بلغت فرحة، وانتهى انتظارها، وحان وقت الخروج.
لكنّ الانتظار ما زال “على عتبة الباب، مثل كلب هرم لا يقوى على النباح”، كما يصف محمود شقير الموت في قصّته «عتبة». فرحة تخرج من البيت لتجد الذباب يملأ جثّة الرضيع المجازيّ للمستقبل الّذي كان ممكنًا لولا حصول ما حصل. وتجد الطيور المهاجرة لا تزال تحاول الهرب من هول الحرب، كما لو كانت عجائز تحمل منازلها على كاهلها. تغتسل فرحة بماء النبعة القريبة من البيت، محاولة الولادة من جديد، إلّا أنّ القرية أصبحت خرابة مهجّرة ومهدومة، ولم تَعُد الولادة من جديد واردة. تنتهي قصّة بلوغ فرحة بسيرها باتّجاه الشمس الغائبة، تتأرجح كأنّها أنتيجون، ترافق والدها أوديب في مسيرته اللانهائيّة، إلّا أنّ فرحة وحدها، دون والدها.
إسرائيليّون يقاطعون
تصاعدت الأصوات في الميديا الإسرائيليّة مهاجمةً فيلم «فرحة». بناء على ادّعاء برنامج «هاتسينور» (الأنبوب)، فإنّ الاعتراض على الفيلم بدأ بأعقاب نشر عارضة الأزياء والمؤثّرة اليمينيّة نتالي دادون، على صفحتها في إنستغرام، دعوة لمقاطعة «نتفلكس» وإلغاء المشاركات؛ بسبب نشرها للفيلم في يوم 30 تشرين الثاني (نوفمبر) 2022.
ثمّ إنّ الصحافة الإسرائيليّة تجنّدت في معظمها لدعوات المقاطعة، كما في موقع «قناة 14» الإخباريّ، و«معاريف»، و«القناة السابعة»، و«غرفة 404»، وغيرها. صحيفة «هآرتس»، ركّزت في مادّتها الإخباريّة على مقولة مقتبسة عن المخرجة، تقول فيها إنّها سمعت مقارنات بين قصّة فرحة وقصّة آن فرانك: “هذا يضحكني، فعلًا لقد أجرى البعض هذه المقارنة. لم أفكّر فيها عندما عملت على الفيلم، لكن بإمكاني فهْم سبب لجوء البعض إلى تلك القصّة المريبة. الشخصيّة في فيلمي تمرّ برحلة شبيهة”[2].
بالتزامن مع النشر على منصّة «نتفلكس»، دعا «مسرح السرايا العربيّ- يافا» إلى أمسية عرض الفيلم في مساء 30 تشرين الثاني (نوفمبر)، وبأعقابها ازدادت الأصوات الإسرائيليّة المهاجمة والمحرّضة، داعيةً إلى مقاطعة المسرح، وسحب تمويل «وزارة الثقافة» الإسرائيليّة له؛ إذ هدّد وزيران إسرائيليّان بوقف التمويل عن المسرح، هما وزير الثقافة والرياضة حيلي طروبر، ووزير الماليّة أفيغدور ليبرمان. إلّا أنّ المسرح ردّ بالتزامه حقّ التعبير وحرّيّة الفنّ، واختار عرض الفيلم بالرغم من كلّ التهديدات.
نقد سينمائيّ من محلّ صهيونيّ
خارج السياق السياسيّ والهجوم الأرعن على الفيلم وعرضه. حاولت الناقدة السينمائيّة الإسرائيليّة ياعيل شوڤ عرض قراءة نقديّة للفيلم، أوّلًا بسياقه السينمائيّ، ويبدو أنّ الأيديولوجيّة الصهيونيّة الاستعماريّة تغلّبت عليها. في مادّتها عبر موقع «تايم آوت»، تحت عنوان «أشعل الفيلم الأردنيّ ’فرحة‘ حربًا على الإنترنت، هذا هو الشيء الوحيد المثير للاهتمام فيه»، تكتب لنا أنّها شعرت بأنّ مشاهدتها للفيلم كانت مجرّد مضيعة للوقت بالنسبة إليها؛ إذ إنّ الفيلم، مثله كأفلام عربيّة أخرى، هامشيّ، لكنّها مضطرّة إلى مشاهدته والكتابة عنه بسبب الفوضى حوله. قراءتها للقسم الأوّل في الفيلم، حيث الحياة قبل قدوم الجيش هي قراءة تقليديّة وعاديّة، كون الفيلم يعرض “حبكة نسويّة أساسيّة بقيادة ممثّلة شابّة آسرة”.
إلّا أنّ حال قدوم جنود العصابات الصهيونيّة ودخول فرحة للغرفة المظلمة، تبدأ شوڤ بعرض صورة أخرى للفيلم، بأنّه فيلم مملّ: “ولمدّة عشرين دقيقة مملّة نراقبها تقضي وقتها في الظلام”، ثمّ فيلم يعرض شوفينيّة أبويّة عربيّة: “بالنسبة إلى المشاهدين اليهود، يثير هذا التسلسل تذكّر آن فرانك، لكن في سياق الفيلم يبدو أشبه بصورة للمجتمع الأبويّ الّذي يحبس الفتيات في المنزل. بشكل عامّ، يبدو الأمر كأنّه مضيعة للوقت أكثر من كونه تجربة سينمائيّة ذات مغزًى”. ثمّ تتطرّق إلى قدوم الجنود، وتبدأ بكسر مهنيّتها والتطرّق إلى عدم مهنيّة المخرجة: “وبعد مرور خمسين دقيقة على الفيلم، تبدأ الأحداث الدراميّة، وتتحدّى هذه الأحداث موهبة سالم الإخراجيّة (تقصد المخرجة سلّام)، الّتي لا تثير الإعجاب في هذه المرحلة من حياتها المهنيّة”.
في نهاية المادّة، تقارن شوڤ مشهد ترك الرضيع يموت وحده واقتباس “لا تهدر رصاصة”، بمشهد من الفيلم الهنديّ المعروض في «نتفلكس» كذلك «RRR». المشهد المقارن هناك يقول فيه ضابط الاستعمار البريطانيّ لأحد جنوده جملة شبيهة، يدّعي فيه أنّه ليس عليه هدر رصاصة ثمنها ليرة إسترلينيّة على “حثالة ملوّنة”، فيقرّر الجنديّ أخذ قطعة حطب ويضربها برأس المرأة الهنديّة الّتي أمامه.
هذا طبعًا ليس ما يحدث في «فرحة»، ولكن يبدو أنّ سياق الاستعمار قد غلب على تشبيه شوڤ، الّتي تضيف أنّها متفاجئة من ردود الفعل الإسرائيليّة، كون الفيلم الهنديّ لم يُرَدّ عليه بأيّ دعاوى للمقاطعة، بالرغم من نقد بعض المؤرّخين الإنجليز لعرض الأخطاء التاريخيّة فيه.
لكن هذا بالضبط هو الفرق، المؤرّخ الإنجليزيّ لا ينكر تاريخه الاستعماريّ، بل قد يخجل به، ويدرسه، ولا يغطّي عينيه عن قسوة جنوده وطاغوتهم في المستعمرات المختلفة. بينما الإسرائيليّ الصهيونيّ ما زال يُنْكِر ما حدث في النكبة، ويتجاهل أنّه ما زال ’يُدير‘ حكمًا عسكريًّا تعسّفيًّا ’أبرتهايديًّا‘ ضدّ الفلسطينيّ، فكيف له مواجهة ذاك الماضي، والاستعداد لسماع رواية الضحيّة أو أخذها زمام أمور الراوي؟
إحالات
[1] سنابل عبد الرحمن، “مقاومة الانتظار الفلسطينيّ … “الباب” نموذجًا، فُسْحَة – ثقافيّة فلسطينيّة، نُشِرَ بتاريخ 11/07/2022.
[2] عيدو دافيد كوهن، ليبرمان وطروبر ينشطان لنزع الميزانيّات عن مسرح بسبب عرضه لفيلم يعرض مجزرة يقوم بها جنود. هآرتس، 30/11/2022.
عن فسحة- عرب 48