فاطمة برناوي ، سيدة الفعل والقول

يمر أربعون يوما على رحيلك الموجع يا فاطمة . ويضاعفه أيتها الكنعانية – النيجيرية أن حلم تحرير فلسطين وتحقيق العدالة على كوكب الأرض الذي نذرت حياتك لبلوغهما ما يزال بعيدا .

ويشتد الوجع لاستمرار عجز الطبقة السياسية الفلسطينية عن الارتقاء إلى مستوى المسؤولية التاريخية التي يفرضها الصراع الوجودي المحتدم مع العدو الصهيوني ،وتشبثها بالبقاء رغم تنامي إخفاقاتها. وتمترس مكوناتها خلف ذات الشعارات الجوفاء ، وتعذر استعادة اللحمة بين أطراف النظام السياسي الفلسطيني في اجتماعهم الأخير بالجزائر، الذي تزامن انعقاده مع رحيلك .

ويفاقمه يا فاطمة، هذا التقاعس الملفت لكافة مكونات النظام السياسي الفلسطيني عن القيام بفعل مؤثر لدرء الأخطار المتنامية المحدقة بجماع الشعب الفلسطيني. وتخاذلهم اللافت في الدفاع عن شعبهم ومواجهة جرائم جيش العدو الصهيوني ومستوطنيه التي تجاوزت كل الحدود بإبادة البشر والحجر والشجر، لاستكمال استبدال فلسطين بإسرائيل واستبدال شعبها العربي الأصيل بالغزاة المستوطنين الصهاينة، واجتثاث الحضارة الرحبة التي استظلت بها فلسطين وعموم المنطقة على مر العصور ، وقادت والدك النيجيري وآلاف المؤمنين الذين وفدوا الديار المقدسة ، وعاشوا في أكنافها مع شعبها الفلسطيني الأصيل المضياف، وصاهروه فباتوا كأهله. واشتركوا في التصدي للغزاة الذين يستظلون هذه المرة بالدين اليهودي لفرض حضارتهم المادية الغربية، ويستنسخون تجربة الاستيطان الإفرنجي / الصليبي / الذي آل إلى الزوال. بالاستيلاء على فلسطين التي تقع في مركز الوصل والفصل الجغرافي والديموغرافي والحضاري بين آسيا وإفريقيا. من أجل إخضاع عموم المنطقة العربية الممتدة، التي تقع في مركز العالم وتشرف على خطوط التجارة والملاحة الدولية، وتمتلك ثروات طبيعية ومعدنية وفيرة، وتسكنها أمة واحدة متعددة الأعراق والألوان والثقافات والعقائد والطوائف، تتشارك التاريخ والجغرافيا، وتؤمن شعوبها بوحدة المستقبل والمصير .

يشتد الوجع لرحيلك يا فاطمة خارج الوطن الفلسطيني الذي ولدت فيه وعشقتيه، وبعيدا عن القدس التي سكنت روحك وتسابقت مع الزمن للعودة إليها منذ كنت طفلة في مخيم اللجوء قرب عمان بعد النكبة الأولى عام 1948. فغافلت أمك وأشقاءك الذين تم ترحيلهم مع مئات الآلاف من الفلسطينيين، وغادرت المخيم خلسة مختبئة تحت كرسي حافلة مسافرة للقدس للحاق بأبيك الذي تشبث بالبقاء مع أهلها الصامدين، يدفعك الأمل – كما قلت – بإيجاد خاتم سليمان لتحرير فلسطين من الغزاة الأجانب.

فقد أدركت بوعيك الفطري رغم حداثة سنك ، أن فلسطين قد استباحها مع الغزاة الأجانب ، بعض ذوي القربى من النخب المتغربة المفتونة بالحداثة المادية الغربية ، عندما ارتضوا مقايضة عروبتها ووحدة بلادهم وأمتهم وحرية شعوبهم بكيانات قطرية رسم حدودها الغزاة الغربيون الطامعون فيها كلها. فولوهم على الأقطار المستحدثة لإدارتها بالوكالة، والاضطلاع بمحاصرة وتكبيل شعوبها التي تتشارك التاريخ والجغرافيا والإيمان بوحدة المستقبل والمصير . فأسسوا لانهيارات ما تزال وقائعها تتوالى تباعا على امتداد الوطن العربي من مشرقه إلى مغربه، ومن شماله إلى جنوبه .

واستوعبت ،آنذاك، ما تزال ذات النخب تعجز عن فهمه وتؤكده كل الشواهد التاريخية، بأن فلسطين هي أم البدايات وأم النهايات، وأنها مفتاح النصر والهزيمة لعموم المنطقة العربية – الإسلامية الممتدة .

رثاء فاطمة برناوي ، الرمز النضالي المتفرد في سماته، مهمة بالغة الصعوبة . فلشهادة مهما قيل فيها وعنها تبقى قاصرة . لأننا بحضرة نموذج إنساني استثنائي ونضالي فريد .

فهي سليلة عائلة مناضلة ، والدها محمد علي برناوي، ابن قبيلة برنو النيجيرية، قصد فلسطين في عشرينيات القرن الماضي مشيا على الأقدام لأكثر من ثلاثة أشهر قادما من الحجاز لتقديس حجته بالصلاة في أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين. وكالعديد من الحجاج القادمين من نيجيريا والسنغال وتشاد والسودان والمغرب والهند لأداء الحجة المقدسية . قرر الاستقرار بجوار الحرم القدسي، وسكن الحي الإفريقي بالقرب من باب الناظر / باب المجلس / الذي يقع في الجدار الغربي للمسجد الأقصى . وتزوج من الفلسطينية – الأردنية سارة حمد الله ، من غورالمزرعة في الكرك ( إذ كان الجزء الجنوبي من بلاد الشام واحدا قبل أن يفصل الانتداب البريطاني عام 1923 شرق الأردن عن فلسطين ). وشارك أهل البلاد في التصدي لجرائم الغزاة المستعمرين البريطانيين والصهاينة الساعين لإقامة كيان استعماري استيطاني غربي يهودي في فلسطين . فانخرط للقتال في صفوف الثورة المسلحة عام 1936 التي قادها عزالدين القسام. ورغم تعرضه للملاحقة، آثر البقاء والدفاع عن أهله وشعبه ، والتحق بالثوار بقيادة عبد القادر الحسيني ، واستبسل في معركة جبل المكبر التي قادها محمد طارق الإفريقي ، ونجحوا مع المقاتلين الفلسطينين والأردنيين في صد العصابات الصهيونية ، وإنقاذ الجبل ومحيطه من الاحتلال الصهيوني عام 1948.

وهي ابنة القدس الفخورة بفرادة مدينتها الأثيرة، التي استوعب أهلها الفلسطينيون عبر تاريخهم الممتد لآلاف السنين المؤمنين الوافدين إليها من مختلف الأعراق والألوان والإثنيات والعقائد ، وأمنوا بالعيش فيها .

فمنذ ولادتها في مدينة القدس عام 1939، ألفت فاطمة اختلاط أصوات الأذان بأجراس الكنائس. وفي طفولتها جابت حارات وأحياء القدس القديمة، ولعبت مع أقرانها الفلسطينيين مسلمين ونصارى ويهود. وشاركت المقدسيين عربا وأكرادا وأفارقة وأرمنا وسريانا وهنودا وأفغانا أفراحهم وأتراحهم، وقاسمتهم طعامهم . ووسع هذا التنوع مداركها، وعمق وعيها الإنساني بثراء التعدد والاختلاف الذي أكسب الهوية الوطنية الفلسطينة الجامعة تميزها وفرادتها .

وهي الابنة البارة بأهلها ، التي أنضجتها مرارة الحرب واللجوء ما اضطرها إلى مغادرة حياة الطفولة مبكرا . ووعت في صباها تداعيات النكبة الكبرى التي ألمت بشعبها الفلسطيني عام 1948 واحتلال 78% من وطنها ، واقتلاع وتشريد غالبية أبناء شعبها الفلسطيني خارجها . وأدركت ثقل الأعباء الملقاة على عاتق والدها لإعالة الأسرة . فهي الثالثة في ترتيب الأبناء، يكبرها عثمان ، أخاها من والدتها ، وشقيقتها حواء، ويصغرها علي وإحسان وإنعام ، فتأهبت لمساعدته في حمل المسؤولية . وخلافا للأعراف آنذاك ، قررت فاطمة ، ابنة الثامنة عشر السفر إلى المملكة العربية السعودية عام 1957. التي كانت قد فتحت أبوابها للعمالة الوافدة ، وقصدها آلاف الفلسطينيين الذين تقطعت بهم السبل وفقدوا موارد رزقهم بعد النكبة . فامتهنت التمريض ، وعملت مع الطبيب اللبناني الدكتور عبد الله سعادة في المستشفى الذي كان قد أسسه مع زملائه في الظهران. وتروي فاطمة أن احتضانه الأسري قد خفف ثقل إحساسها بالغربة ، وأن رعايته المهنية والسياسية خلال سنوات عملها معه (1957-1960) قد أكسبتها خبرة مهنية ، وأنضجت في الآن ذاته وعيها السياسي بوحدة الشعوب العربية في مواجهة الهجمة الاستعمارية الغربية الصهيونية التي تستهدفهم جميعا.

وعندما استدعى المجلس الأعلى للحزب السوري القومي الاجتماعي الدكتور عبد الله سعادة إلى لبنان، لتسلم مسؤولية رئاسة الحزب والتفرغ للسياسة عام 1960 . شدت فاطمة الرحال عائدة إلى وطنها. فعملت بالتمريض في مستشفى قلقيلية . وهناك التقت بالطفلة اليتيمة هند ، فتعلقت بها وتعهدت برعايتها، وأصرت على والديها لتبنيها. وأكسبتها أمومتها المبكرة فائض حنان غمرت به كل من عرفها .

تميزت فاطمة خلال عملها بالتمريض بمهنية عالية، وعرفت بانتمائها الوطني وإنسانيتها وجرأتها وعطاءها وطيبتها، فأحبها الجميع وباتت ابنة وصديقة لأهالي قلقيلية كبيرهم وصغيرهم .

وخلال عدوان حزيران عام 1967 لم تبارح فاطمة المستشفى، وأبدت صلابة وشجاعة لافتة ، فأنقذت عشرات الجرحى، وشاركت في تهريب وإنقاذ الجنود المصرييين من فرقة الصاعقة .

ولم ينل من عزيمتها هول الصدمة التي أحدثتها الهزيمة، والسرعة الهائلة التي احتلت بها الدولة الصهيونية المستحدثة بقية أجزاء وطنها الفلسطيني مع أراض عربية أخرى تفوق في مساحتها ما سبق احتلاله عام 1948. بل زادتها الهزيمة إصرارا على الصمود والمقاومة. فكانت من أوائل النساء اللواتي التحقن بحركة التحرير الوطني الفلسطيني فتح بعد الاحتلال مباشرة . وانضمت إلى صفوف الفدائيين .

زارها القائد ياسرعرفات – الذي نجح بالتسلل إلى الضفة الغربية بعيد الاحتلال لتنظيم الشباب وتفعيل المقاومة والتخطيط لتنفيذ عمليات عسكرية ضد العدو المنتشي بانتصاره – وكلفها بمهمة وضع متفجرات في سينما صهيون في القدس الغربية، إذ كانت تعرض أفلاما تروّج لأسطورة الجيش الذي لا يقهر، وكان مقررا أن تعرض يوم العملية فيلما يحتفي باستكمال احتلال فلسطين .

وبجراة لافتة ، حملت فاطمة حقيبة المتفجرات واصطحبت معها شقيقتها إحسان. وتروي ضاحكة ذكرياتها عن ذلك اليوم فتقول أنها ارتدت ملابس جميلة وتزينت على غير عادتها ولبست الكعب العالي . ما دفع والدها للتساؤل بسخرية : ” أهذا منظر فدائية ذاهبة لتنفيذ عملية ؟ ” لترد عليه بأن ذلك من مستلزمات التمويه لدرء الشكوك بنواياها .

دخلت الشقيقتان السينما بثقة، ومع بدء تشغيل الفيلم، وضعت فاطمة الحقيبة المليئة بالمتفجّرات على المقعد، وخرجت وشقيقتها بهدوء . لكن صحافياً أميركيا انتبه للحقيبة، فأبلغ جنود الاحتلال وقاموا على الفور بنقل الحقيبة وفجروها خارج السينما .

ونجحت العملية ،رغم فشل التفجير، في إثارة رعب جيش الاحتلال المزهو بانتصاره الساحق على الدول العربية . وأدرك تعذر إخضاع الشعب الفلسطيني واستعصاءه على الاستسلام فاستنفر جنده وطوقوا مدينة القدس بحثا عن الفتاتين السمراوتين اللتين تجرأتا على تحدي قوته الغاشمة وتمكنتا من الهرب .

وظنت الشقيقتان أنهما قد أفلتتا فافترقتا، وقررت إحسان العودة إلى منزلها بالقدس ، لكنها شاهدت الجنود الصهاينة يقتحمون الحي الإفريقي في البلدة القديمة بحثا عنهما، فغيرت مسارها، ونجحت بالاختباء والفرار إلى الأردن . فيما قررت فاطمة العودة إلى عملها بالمستشفى .وفي الطريق فتح السائق المذياع ، وسمعت أنباء العملية واعتقال جنود الاحتلال كل فتاة سمراء في القدس ، وواصلت طريقها إلى قلقيلية .

اقتحم جنود الاحتلال منزل عائلتها، واعتدوا على أفراد الأسرة واقتادوهم جميعا للتحقيق، الذي لم تفلت منه سوى هند ، ذات الخمسة أعوام ، إذ كانت ما تزال في المدرسة. وتم احتجاز والدتها في المعتقل لمدة شهر. فيما أمضت شقيقتها حواء عاما كاملا في سجون الاحتلال لادعائها بأنها فاطمة ، إذ كانت تأمل إتاحة المجال أمام شقيقتها للفرار .

وبعد يومين من البحث ، تمكنت قوات الاحتلال من اعتقال فاطمة في 10/10/1967، لتكون أول أسيرة فلسطينية من سكان الجزء المحتل عام 1967 ، والثالثة بعد المناضلتين نايفة عاقلة قهوجي وإخلاص علي من المناطق المحتلة عام 1948.

وفشلت جميع محاولات العدو بسلخها عن شعبها الفلسطيني بذريعة أن أبيها نيجيري . فرفضت فاطمة المحامي اليهودي الذي عينته المحكمة للمرافعة عنها، واستبدلته بمحام فلسطيني. ورفضت إنكار التهم المنسوبة إليها . واعترفت بمحاولتها تنفيذ العملية الفدائية دفاعا عن شعبها ووطنها ، باعتبار مقاومة المحتل حق مشروع تجيزه القوانين الدولية كافة .

أثناء التحقيق معها تعرضت فاطمة لأقسى أنواع التعذيب الجسدي والنفسي لكسر إرادتها .إذ كان العدو يسعى لجعلها عبرة لكبح المقاومة . لكنها أذهلت الجميع بجرأتها وصمودها وشموخها وتشبثها بفلسطينيتها، وبحقها المشروع في مقاومة محتلي وطنها . وواجهت بثبات صدور الحكم عليها بمؤبدين لحيازة أسلحة وللشروع في عملية تفجير ، وعشر سنوات إضافية للانضمام إلى منظمة غير شرعية. فأخرجت لسانها للقاضي عند النطق بالحكم استهزاء بقراره الجائر ، وغنت لحرية فلسطين.

وبثباتها وصمودها وصلابتها، أصبحت فاطمة برناوي أيقونة للنضال الوطني الفلسطيني، ونموذجا ملهما لنساء ورجال فلسطين .

ولم تنل ظروف الاعتقال القاسية في سجن الرملة العسكري من عزيمة فاطمة ، فأخذت على عاتقها مهمة استقبال الأسيرات الفلسطينيات الجدد، وغالبيتهن العظمى من طالبات المدارس اللواتي انخرطن في النضال التحرري. فكانت تشد أزرهن وتضمد جراحهن وتبدد قلقهن وتهيؤهن لمواجهة المحققين، وتحثهن على الثبات والصمود. وتشجعهن على استكمال دراستهن في السجن. وكثيرا ما كانت تتخلى عن بعض طعامها لتغذيتهن أثناء استعدادهن لاجتياز الامتحانات. وكانت تتصدر الدفاع عنهن في مواجهة اعتداء السجانات والسجينات اليهوديات .

كانت فاطمة قائدة بالفطرة. حرصت وشجعت زميلاتها على تعلم اللغة العبرية في السجن لتطوير قدرتهن على مواجهة العدو . كانت وحدوية حتى النخاع، لم تفرق في رعايتها بين الأسيرات أيا كان انتماءهن الفكري أو التنظيمي. تساعد الجميع وتقود حملات التمرد لتحسين ظروفهن .

وكانت شديدة الثقة بالمستقبل رغم حكم المؤبد. جسورة لا تعرف المستحيل، فحاولت مع زميلاتها حفر نفق في السجن بالملاعق والمغارف للهرب، وكدن ينجحن لولا اكتشاف إحدى السجينات اليهوديات وإبلاغ إدارة السجن. وأثناء التحقيق معها ، واجهت فاطمة السجان بابتسامة ساخرة وقالت “بحفر الأرض بدي أزرع ملوخية”.

كانت مؤمنة بتفوق قوة الحق على حق القوة مهما طال الزمن . تروي فاطمة ذكرياتها في السجن خلال حرب العام 1973 ، وتصف الهلع الذي انتاب السجانين الصهاينة عندما توالت الأخبار عن نجاح القوات المصرية بعبور قناة السويس وتقدم القوات السورية في الجولان المحتل . ولمست وزميلاتها الأسيرات التحول الهائل في سلوك السجانات، ومسارعتهن لاسترضاء الأسيرات والاعتذار لهن عن سلوكهن العدواني اتجاههن، بدعوى أنهن كن ينفذن الأوامرالعليا . فزاد إيمانهن بجدوى المقاومة لصد المعتدي وإجباره على التراجع .

وبعد عشر سنوات وشهر أمضتها في الأسر ، أطلق سراح فاطمة في الحادي عشر من نوفمبر عام 1977 ، في عملية تبادل للأسرى، كإجراء وصفته إدارة السجون آنذاك بأنه بادرة « حسن نية تجاه مصر » قبيل زيارة الرئيس المصري أنور السادات للقدس في التاسع عشر من الشهر ذاته، وهي الزيارة التي مهدت لاحقا لتوقيع معاهدة السلام المصرية – الإسرائيلية عام 1979. وتم إبعادها إلى لبنان .

وفي لقائها الأول مع الصحفيين عقب تحررها، أشارت فاطمة إلى أن فرحتها بالحرية منقوصة وممزوجة بغصة كبيرة، إذ تركت خلفها 28 أسيرة وآلاف الأسرى الأبطال ، وتعهدت بحمل رسالتهم وإيلاء الأولوية الأولى لتحريرهم .

وفي لبنان ، لم تهنأ فاطمة بالتحرر من سجون العدو ، فقد وعت أن الدور الوظيفي للكيان الاستعماري الاستيطاني الصهيوني المستحدث في فلسطين لا يقتصر على احتلال فلسطين، وإنما ينطلق منها لعموم المنطقة العربية – الإسلامية الممتدة . ويستهدف منع نهوضها وتعطيل تنميتها واستكمال تفكيكها إلى دويلات عرقية وطائفية ومذهبية متناحرة تديم خضوعها وارتباطها التبعي بالمراكز الاستعمارية الغربية. ولمست منذ عبورها من فلسطين إلى لبنان عبر رأس الناقورة حضورالعدو في ساحات لبنان المدمى بحرب أهلية مدمرة . ورأت القوات الانعزالية اللبنانية تقاتل مع إسرائيل ضد الحركة الوطنية والتقدمية اللبنانية والثورة الفلسطينية. وشاهدت قوات النظام السوري تقصف وتحاصر المخيمات الفلسطينية. فسارعت للالتحاق بالثوار، ولم تترك قاعدة أو خندقا أو موقعا على امتداد مساحة لبنان إلا زارته وتعرفت على احتياجات المقاتلين اللبنانيين والفلسطينيين وشاركتهم عيشهم وقاسمتهم خبزهم وغنت معهم وأمضت الليالي في الخنادق تشد أزرهم . كانت حاضرة في كل معاركهم ، تلبي احتياجات المقاتلين وتزودهم بالوجبات الساخنة التي يعدها الأهالي ، وبالكنزات والملابس التي تحيكها النساء للمقاتلين، وتنقل رسائل أحبتهم ، وتطمئنهم على أسرهم . وكانت تضمد الجرحى وتودع الشهداء وتواسي وترعى أسرهم . وفي لحظات هدوء جبهات القتال ، كانت فاطمة تسارع الخطى إلى بيت أطفال الصمود في سوق الغرب لتفقد أبناء الشهداء وتلمس احتياجاتهم واللعب معهم .

أمضت فاطمة السنوات الخمس التي عاشتها في لبنان متنقلة بين المقاتلين في الخطوط الأمامية في الخيام وقلعة شقيف والنبطية والعيشية والبقاع . وعرفها أهالي صور وصيدا ومخيمات الرشيدية والمية ومية وعين الحلوة . وترددت على مناطق التماس في بيروت والجبل والشمال . كما عرفها المقاتلون الفلسطينيون واللبنانييون في حي السلم والطيونة وبئر حسن والطريق الجديدة ورأس النبع والمتحف وصبرا وشاتيلا وبرج البراجنة والشوف وبحمدون وبيصور وعينطورة وطرابلس وجبل محسن والتبانة والبداوي ونهر البارد. ولم تهدأ أثناء الاجتياح الاسرائيلي للبنان عام 1982، فظلت طوال الحرب التي تواصلت على مدى ثمان وثمانين يوما ، تتنقل رغم شدة القصف بين المواقع ، وتخترق الحصار ، وتنقل الرسائل وتشد أزرالأبطال. وبعد خروج الثورة من لبنان، ظلت فاطمة على عهدها وفية لأصدقائها المناضلين اللبنانيين والفلسطينيين ، دائمة التواصل معهم والاطمئنان عليهم وعلى أسرهم .

لم تهدأ فاطمة – التي انتهى المطاف بها في تونس – بعد اقتلاع الثورة من لبنان وتوزيع مقاتليها على المنافي البعيدة. ولم تخترالاستقرار في العاصمة – كما فعل كثيرون غيرها – بل اختارت في البداية ضاحية الزهراء الفقيرة القريبة من حمام الشط ، الذي اتخذه الرئيس ياسر عرفات مقرا للقيادة للم شمل شتات الثورة، وإعادة بناء مؤسسات منظمة التحريرالفلسطينية ، وحمايتها بعد أن تواطأ بعض أهلها مع بعض الأنظمة العربية لشق صفوفها .

وواصلت فاطمة النضال بذات العزيمة والتصميم ، فتنقلت بين معسكرات المقاتلين في وادي الزرقاء بتونس ، ومعسكر تبسة في الجزائر ، وتفقدت المقاتلين في ليبيا والسودان واليمن، لتحسس احتياجاتهم ونقلها للقيادة. ولم تكتف بالعون اليسير الذي كانت تقدمه القيادة المحاصرة لهم في منافيهم البعيدة ، فكانت تبذل كل ما في وسعها لحشد المساعدات من أصدقائها ومعارفها الكثر المنتشرين على امتداد العالم لتوفير الدعم لهم ولذويهم .

ورغم أن مسيرتها الكفاحية كانت تؤهلها لتولي أعلى المناصب القيادية التي حظي بها كثيرون لا يمتلكون الجزء اليسير من تاريخها النضالي . لم تسع فاطمة يوما لأي منها ، واختارت النضال في صفوف الشعب. ولم يستهوها الإعلام ، فظلت بعيدة عن منصاته التي استهوت الكثيرين. إذ كان لها مفهوما مختلفا للقيادة عبر الفعل اليومي المؤثرفي حياة الناس . وربما لا يعرف الكثيرون أن كل المواقع التنظيمية والقيادية التي شغلتها فاطمة ، كانت استجابة لطلب القواعد النضالية لتمثيلها ، سواء في الموتمرات الحركية لفتح ، أو لعضوية المجلس الثوري، أو الوطني، ولاحقا بعد إنشاء السلطة الوطنية الفلسطينية لتولي مهمة إنشاء الشرطة النسائية ولعضوية هيئة المتقاعدين العسكريين والمجلس الاستشاري .

وخلافا لمعظم القادة الذين استمدوا قوتهم ونفوذهم من المواقع التي شغلوها. فقد أكسبت فاطمة المواقع التي تولتها قوة ونفوذا ، إذ أدركت أن شغلها مسؤولية ، وأن الاضطلاع بها تكليف لا تشريف . فأكسبها ذلك قوة استثنائية مكنتها من الاحتفاظ باستقلالية لافتة ، وجرأة في الجهر بالحق ، وشجاعة في الوقوف ضد التجاوزات ،ومواجهة القادة المتنفذين بأخطائهم دون خشية من العواقب . ومكنها استعصاءها على الاستيعاب والتطويع من فرض احترامها على الجميع .

وفي حياتها الشخصية انتهجت فاطمة ذات القيم التي حكمت مسيرتها المهنية ، فاختارت شريك حياتها الأسير المحرر البطل فوزي النمر. ابن عكا الأبية، الذي ترأس في الستينيات فرقة شبابية لحماية عكا العربية من اعتداءات المستوطنين اليهود. وقاد بعد هزيمة حزيران أول مجموعة فلسطينية مسلحة في المناطق المحتلة عام 1948 (مجموعة 778 ) التي تألفت من شقيقيه مصطفى أحمد نمر ،ومنصور أحمد نمر، وصهره يوسف أبو الخير، ومحمد ذيب حسين غريفات، وعبد السلام حزبوز، ورامز خليفة، وفتح الله السقا، ومحمود أبو الصغيّر، وأحمد بشر، وراجح بشر، وعمر منصور، وقاسم أبو خضرة، وعمر السيلاوي . وقامت المجموعة بعمليات عسكرية ناجحة في عمق الكيان الصهيوني أهمها تفجير قطار محمل بالجنود الإسرائيليين، وتفجير خزانات البترول في خليج حيفا. وتم اعتقاله عام 1969 وحكمت عليه المحكمة العسكرية الصهيونية ب 21 مؤبدا و15 عام ، أي ما يعادل 710 سنة .

ومثل فاطمة برناوي ، استقبل فوزي النمر الحكم عليه بالسخرية وخاطب القاضي الذي أصدر الحكم بالقول: ” أنت من أي بلاد قدمت لفلسطين ، هذه بلادي وواجبي الدفاع عنها “. وأمضى فوزي في الأسر خمسة عشرعاما، اضطلع خلالها بدور حيوي في تنظيم الحركة الأسيرة. وعندما أفرج عنه في عملية تبادل للأسرى عام 1984، كانت فاطمة في مقدمة المستقبلين في معسكر تبسة بالجزائر ، وتلاقت أرواحهما وتعاهدا على الزواج. وكان بيتهما في تونس ملاذا للمناضلين من كل الأطياف .

عند إنشاء السلطة الفلسطينية في أعقاب توقيع اتفاق أوسلو. عاد فاطمة وفوزي عام 1994 إلى مدينة غزة التي عشقاها ، واستأنف هذا الثنائي الاستثنائي مسيرتهما النضالية فيها، فتولى فوزي رئاسة لجنة التواصل مع فلسطينيي العام 1948 ، التي نشطت بقوة أثناء انتفاضة الأقصى ، وتولت فاطمة تأسيس الشرطة النسائية الفلسطينية وقيادتها .

ربما لم يحظ أحد كفاطمة وفوزي بذات الحضورالشعبي الواسع المحبب على الساحة الفلسطينية . فهما بلا شك نموذج يحتذى في التاريخ النضالي الفلسطيني والعربي ، يستحقان أن تضمن سيرتهما ومسيرتهما الكفاحية في المناهج الدراسية لتعريف الأجيال الفلسطينية والعربية الفتية بأبطال استثنائيين أمضوا حياتهم في النضال على مدى عقود طويلة متصلة ،دفاعا عن حرية شعبهم ووطنهم ، وعن قيم الحرية والعدالة الإنسانية

لترقد أرواحكما بسلام في ثرى غزة العزة ، ولتطمئنا إلى أن أجيال فلسطين الفتية وأسودها الأشاوس في القدس والخليل ونابلس وجنين وغزة وعكا ويافا وحيفا والجليل والمثلث والنقب وكل بقعة من أرض فلسطين مصممون على مواصلة خطاكم ، بذات الهمة والعزيمة والفداء لبلوغ الحرية والعودة وتقرير المصير .

لروحيكما الطاهرتين الرحمة والسلام ، ولإرثكما النضالي الخلود في قلوب وعقول الأحرار على امتداد العالم

About The Author

1 thought on “فاطمة برناوي ، سيدة الفعل والقول

  1. تستحق أن يعمل عن سيرة حياتها فيلم
    سينمائي ‘وهذه مسؤلية وزارة الثَّقافة التي تعمل حاليا على إنشاء الهيئة العامة للسينما الفلسطينية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *