لقد شاهدت في إحدى مجموعات الواتسآب التي تجمعني مع عدد من الأصدقاء،  شريطا تصويريا  قصيرا جدا مُسجلا بواسطة تطبيق تيك توك. يظهر فيه   رجل يهودي، في الستينييات من عمره،  أبيض البشرة، تسلل الشيب الى ما تبقى من شعره القصير. يجلس على كرسي ويرتدي “فانيلا” سوداء، يتسم وجهه بجدية متكلفة وغضب مفتعل يُبرز تجاعيد وجهه ورقبته الوردية. يتكلم بأنفة اقطاعية واستعلاء موهوم،  مصوبا عيناه الى  الكاميرا وكأنه يدلي بتصريح للأمة باللغة العبرية  قائلا:” لقد شَغَّلتُ ثلاثة عمال فلسطينين وثلاثة من عرب إسرائيل. فصلتهم جميعاً. إنتهت الحفلة. ونحن غير معنيون بكم أكثر”.

خطاب لا يزيد على عشرين كلمة. حاولت معرفة من هذا الشخص، وبماذا يعمل،  وهل التسجيل حقيقيا أم مفبركا، ولكن لم تسعفني وسائل التواصل الإجتماعي، رغم  كثرة وازدياد نشاطها وتفعيلها وتغذيتها وخصوصا في هذه المرحلة الزمنية.

ولكن لنفترض أن هذا التسجيل حقيقيا. وممكن ترجيح هذه الفرضية، نتيجة للظروف التي نعيشها في هذه الأيام في البلاد فهي واردة وغير مستبعدة، على أثر  كل  ما يحدث من أعمال تنكيل واعتداء وتهديد وتخويف تمارسه الدولة وغالبية المجتمع اليهودي اتجاه المجتمع الفلسطيني.

لم يفصح هذا الشخص الذي سنطلق عليه من الآن ولاحقا كنية  “المشغل”،  الذي يخبر أبناء مجتمعه بصورة واضحة، لا لبس فيها، بشأن تشغيل وطرد “العمال”العرب في أي مجال يعمل، ومن هم عُماله العرب والفلسطينون(عدا عن أنه سيقول ستة، ثلاثة من الأراضي المحتلة ويسميهم فلسطينيون وثلاثة عرب آخرين ينسبهم إلى إسرائيل)،  ومنذ متى  يعملون معه، وما طبيعة علاقته بهم، ولماذا فصلهم، وهل كان لهم أي دور بالأحداث الأخيرة، وهل سببوا له أو لغيره  أي ضرر، وماذا ربح حتى الآن من

تشغيلهم، وهل تحدث اليهم بعد الأحداث الأخيرة،  أم أنهم علموا بأمر فصلهم من وسائل التواصل الإجتماعي أيضا، وهل تحدوا سلطته وهيمنته.  أسئلة كثيرة تطرح نفسها وتستصرخ  الإجابة.

ولماذا اختار أصلا نشر هذا الشريط المصور.

هذا التسجيل، رغم قصره إلا أنه يعكس الصورة العامة سواءً الممارسة أم المتخيلة لعلاقة القامع والمقموع والمُضطهد والمَضطهد والقاهر والمقهور في سياق الصراع الإسرائيلي- الفلسطيني.

على ما يبدو فإن “المشغل” يرى بنفسه سيدا يتعامل مع عبيد كما يقول الفيلسوف  هيجل في إطار تحليله لجدلية السيد والعبد والتي  تترجم حرفياً إلى (الهيمنة والاستعباد) وهي موضوع في كتابه  ظواهرية الروح الصادر عام 1807. كما ذكر في موقع ويكبيديا يشرح “هيغل مفهوم الجدلية في تطور الوعي الذاتي للإنسان بطريقة سردية، حيث يواجه وعيان ذاتيان بعضهما البعض وينظر إلى الآخر عبر ذاته. لا يتحدث هيغل عن شخصين بعينهما ولا عن أفراد فعليين، يستعمل التجريد للحديث عن نوعين من الوعي الذاتي: وعي السيد مقابل العبد. يريد هيغل شرح الفروقات بين ضمير السيد والعبد والجدل بينهما وكيفية تفاعلهما تبادلياً. يتطلب فهم الجدلية تخيل رجلان يقفان قبالة بعضهما، أحدهما يمثل السيد أو الأمير والآخر يمثل العبد أو الخاضع، وبداخل رأس كل منهما وعي أو ضمير يستوعب الكينونة الذاتية”.

ولا يكتفِ المشغل بتنصيب نفسه في موضع السيد بل، يُشعر المشاهد، بقوله “إن الحفلة قد انتهت” بأنه قد مَنًّ وأفضل وأحسن وأزجل من خيراته على هؤلاء العمال واهتم بهم وأكرهم، متناسيا أنهم يقومون بعملهم وقد يكونوا  قد حرموا من حقوقهم الأساسية وقد يكون تم ابتزازهم واستغلال وضعيتهم ومكانتهم الخاصة. ولعل بقوله” انتهت الحفلة” يقصد أن الحفلة التنكرية قد وصلت الى نهايتها، وها هو يخلع القناع الذي غطى به وجهه ليتستر على ما كان يعتقده أو يضمره من تعايش موهوم.

من خلال الجمل الأولى التي يقولها المشغل وكأنه يعبر عن خطأ كان قد ارتكبه وندم على تشغيله عربا فلسطينين بل اتهامهم لاضطراره فصلهم،  وهذا  تجسيدًا للنهج والأسلوب الذي يستعمله المضطهد، القامع  والقاهر (كما يظهر في كتابات فرانس فانون، باولو فريري وإدوارد سعيد)- اتهام المقهور بأنه هو السبب فيما يقوم به القاهر ضدّه. وبذلك يحرر نفسه من المسؤولية الأخلاقية.

أما الجملة الأخيرة والتي يختم المشغل تصريحه بها والتي يقول بها:” لم نعد معنيون بكم أكثر” فهو ينتقل للحديث بلغة الجماعة وممثلا لها وموجها كلامه الى المجموعة الأخرى معلما إياها بالقطيعة والإنفصال المطلق وفك الارتباط. ففي هذه الجملة لم يعد يتحدث كفرد ومشغل وإنما ممثل للمجموعة العرقية اليهودية  التي تعبر عن رغبتها بالأنفصال عن المجموعة القومية الفلسطينية، وذلك نتيجة للإختلاف في الإنتماءات القومية فحسب،  وهذه هي العنصرية بعينها وهذا هو الأبرتهايد بعينه. ولو توفرت له الإمكانيات لطرد وتهجير ومحو الآخر لفعل ذلك.

وفي هذا السياق، من الجدير، استحضار ابن خلدون ومفهومه للعصبية التي تتكون بحسبه من ثلاثة مركبات: النعرة والملامة والاستماته. وفي حالة المشغل تتوفر المركبات الثلاثة.

أما مهمتنا نحن فهي البحث عن الغائبين المغيبين بحضورهم من أجل الاستماع الى روايتهم الشخصية وسرديتهم الجماعية وضمان حقوقهم وتوفير الحماية وظروف العيش الكريم لهم  وفضح وملاحقة حالات كهذه والحد من تفشيها.

About The Author

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *