غصة العيد
ما كانت مراجيح العيد بالنسبة لنا من حبال تطيّرنا في الهواء، أو تطيّر فساتين البنات أو أهازيج أصحابها، بل كانت تعلو بحزننا إلى سماء الأحلام المتكسرة وتهبط بفرحنا إلى أسفل السافلين. ولا أذكر أن عيداً من الأعياد مر علينا وما شعرت بغصات في حلقي أنستني سعادة العيد وبهجته ..لكن هذا العيد يبدو مختلفاً تماماً، فهو أول عيد في حياتي تشتري امي لي ثياباً جاهزة .. جديدة كلها جديدة وحتى الداخلية… والأهم الحذاء .. نعم حذاء جديد أسود لماااااع ..
ويا ليلة العيد آنستينا وجددتي الأمل فينا… ويعلو صوت المذياع أكثر وأكثر تلبية لرغبة الجارات المشغولات بتعزيل البيوت، ويعلو صراخنا ونحن نجرب ثيابنا المتجددة من عيد إلى عيد، ونجوب بها أرجاء البيت فرحين ضاحكين متصايحين دون أن نسمع تأنيباً قاسياً من أحد، حتى والدي لم يضربني حين قفزت على سريره بحذائي الجديد، بل طلب مني النزول بصوت هادئ رزين.. رفضت بمرح وغبطة مستمتعاً بتلك اللحظات التي سيكتشف فيها أن الحذاء الجديد لا ينجّس الفراش، لكنه لم يعترف بخطئه كعادته، وأصرّ على نزولي من على سريره.
-قلت لك أنزل، الصرماي بتظل صرماي
-بس بابا الصباط جديد.. جديد
-أنزل يعني أنزل، وإلا والكعبة التي زرتها سأحرمك من العيدية.
نزلت مسرعاً إلى ذراعي أمي التي أخذتني إلى صدرها الحنون رغم طول قامتي، ووضعت في جيبي بضع فرنكات وأرباع من الليرات دون علم والدي، فلثمت وجهها الضاحك البشوش، ذاك الوجه الحنون الذي كنت أحسّه منذ صغري بشوشاً من أجل عيدنا نحن، وليس من أجل عيدها.. ففي صبيحة الأعياد تنهض مع أبي وعمتي، يلبسون ثياباً من بقايا سواد الليل، ويذهبون مع بقية العائلة لزيارة المقبرة، ودائما حين يعودون تحاول أمي العودة إلى وجهها الضاحك البشوش فتكشفها عيناها المتورمتان عندما تأخذني الى صدرها وترفعني إلى شالها الأسود و تؤرجحني بين دموعها ورائحة ريحان وبخور المقابر، فأتركها وأذهب مع غصتي إلى فراش أخي الأصغر مني، أوقظه من نومه، ونتناول إفطارنا رغما عنا، نذهب بعد ذلك لزيار الأقارب، تلك الزيارة التي لا تعني لنا أكثر من أخذ العيدية، العيدية التي كنا نحدد من خلالها كرم فلان وحبنا له وبخل فلان وتذمرنا منه، متسائلين فيما بيننا كم عيدك عمك وكم عيدك خالك وكم و كم وكم.. فيكون والدي دائماً أكثر الأقارب بخلا.
هذا العيد جمّعت إحدى عشرة ليرة ونصف تكفيني طيلة أيام العيد وتزيد، وجمّع أخي حوالي عشر ليرات، وذهبنا إلى المدينة المليئة بالفرح الطائر نحو فرح آخر يتعلق بالمراجيح ويرفرف مع الأهازيج وفساتين البنات، ويبحر مع شخاتير الصيادين التي تتحول إلى قطارات بحرية تنقلنا إلى جزر الأحلام.
لما أوصلنا ” السرفيس” الى ساحة أوغاريت دخلنا فوراً في ظلمة السينما حيث العرض المتواصل لأفلام لا تعرف بدايتها من نهايتها، كل ما أذكره من المشاهد هو ذاك البطل الفقير الذي أصبح غنياً ومحبوباً بفضل ذكائه في لعب القمار.
وكالعادة بعد خروجنا من السينما مررنا ببائع الفلافل، تاركين في بيوتنا ما كنا نفتقده في الأيام العادية من شحوم ولحوم، وفاكهة وحلويات، كي نشبع جوعنا بالسندويش والمكابيس واللغاويص، تلك المأكولات، التي سأتقيأ لو تناولتها الآن، كنا نهبشها بمتعة ونحن في طريقنا إلى حديقة ” البطرنة ” الحديقة المطلة على أفخم المقاهي والمطاعم العتيقة التي تغتسل بموج البحر، وعلى مراكب الصيادين وميناء اللاذقية القديم.. الحديقة الرحبة التي تظللها الأشجار الضخمة والمراجيح العالية الملونة بتنانير البنات، الصاخبة بجميع أنواع التسلية بما فيها ألعاب القمار المنتشرة في أرجائها على شكل قباب صغيرة من الكتل البشرية، يشدك فضولك إلى النظر من خلالها لتجد هنا وهناك أصحاب الثلاث ورقات، و أصحاب أحجار النرد والفنة طرة ونقش و … وكله كوم وصاحب الكشتبانات الثلاث كوم، فلقد رحت أتابع أصابعه تحرّك، فوق طاولة خشبية صُنعت كيفما كان، ثلاثة كشتبانات فضّية اللون، كان عند والدتي كشتباناً يشبهها، كنت أحاول مساعدتها في الخياطة كي ألعب به ، إلا أنها كانت تنهرني دائماً لضيق وقتها:
-أبعد هيك، مش فاضية للعبك
وكان أبو الكشتبانات فاضي البال، يدحرج كرة ذهبية أصغر من حبة الحمص، مصنوعة من أوراق علب السجائر الداخلية، ومن ثم يضع أحد الكشتبانات فوقها، وعلى اللاعب الآخر أن يضع نقوده بجانب الكشتبان الذي تحته الكرة، ليأخذ ببساطة مقدار ما وضع.
-حط خمسة بتأخذ خمسة، أررب وجررب، الجلّة الذهبية وين؟؟ أوانطا وزعبرا ما في أررب وجررب، حط عشرة بتأخذ عشرة، أررب وجررب…
هكذا ببساطة يمكنك أن تربح عشر ليرات، وهكذا ببساطة رحت وأخي نتابع الكشتبانات الفضية والكرة الذهبية، وفي كل مرة أقول فيها لنفسي الكرة هناك تكون فعلا هناك.
وفي كل مرة يربح الرجل الواقف بجانبي، يضع نقوده بجانب الكشتبان الذي أخمّن أن الكرة تحته ويربح، يحرضني على اللعب ويربح:
-يللا ولك ابني الدنيا حظوظ
وبدون تردد وضعت العشر ليرات المتبقية معي بجانب الكشتبان فربحت! ربحت وصار معي عشرين ليرة، عشرون ليرة معي الآن، فماذا لو صاروا أربعين؟؟ ومن ثم صاروا مئة، يا الله ومعي مئة ليرة بكاملها، سأذهب إلى دكان جارنا أبي درويش وأبدّلها بقطعة واحدة، قطعة ورقية كبيرة ما كان والدي يتركني أحملها يوماً، لا للذهاب إلى الشراء بجزء منها أو لصرفها ( هاي مية ليرة، بتعرف شو يعني مية ليرة).
نكشني الرجل الواقف بجانبي في أعلى فخذي للمرة الثانية كي أتابع اللعب، ومن ثم داس على حذائي الجديد، فأبعدته عني بعصبية ومسحت الحذاء بالبنطال وأنا أتابع الجلة الذهبية والكشتبانات الفضية من جديد، وكما في المرات السابقة عدت أخمّن أن الكرة تحت ذاك الكشتبان، تكون فعلا تحت ذاك الكشتبان، فتزداد ثقتي بنفسي، ويزداد التصاق أخي والرجل بي.
وبعد قليل من التركيز وضعت العشرين ليرة قرب الكشتبان… كيف طارت الجلة وطارت العشرون ليرة لا أدري؟ ولا أدري ما الذي دفع بأخي ليقول لي بصوت تشوبه بداية غصّة:
-خود خيّا، خود رجّع عشر ليراتك
أخذت منه التسعة ليرات المتبقية معه، وأذكر إلى الآن أن خمس ليرات منها كانت ورقية والباقي حديدية، أخذتهم كلهم بيد بدأت ترتجف، ورحت أتابع الأيادي الممدودة، وحركات أصابع أبو الكشتبانات ذات الأظافر الطويلة المتسخة، وحركات الكرة الذهبية الدائرة على الطاولة الخشبية والعائدة بسرعة كبيرة إلى جحرها تحت الكشتبان الأول، كل التخمينات صحيحة، لا داعي للتردد، لا داعي للتردد، وكان قراري الحاسم ووضعت كمشة المصاري قرب الكشتبان الأول، وأنا متأكد ألف بالمئة أن الجلة الذهبية تختفي تحته.. لكن كيف ارتفع الكشتبان الأول والثاني وأيضا الثالث لا أدري؟ كيف اختفت الكرة تحت الأظافر المتسخة، وكيف طارت كمشة المصاري لا أدري؟!
ولا أدري لماذا أصابني شعور كبير بالخوف حين لمحت الرجل الذي كان يحرضني على الاستمرار في اللعب يغمز أبو الكشتبانات الذي رأيت لأول مرة غير أصابعه الرفيعة وأظافره المتسخة، رأيت كرشه المتدلي أمامه، ورقبته المزيّنة بجنزير صدئ، ووجهه السينمائي المخيف وقد حفرت السكاكين فيه خرائط للزعرنة والسفالة، تتحرك داخلها عينان حولاوان راداريتان ترصدان طيران الكرة والنقود وفرح الأعياد.
جرني أخي وغصتي المؤلمة، وعدنا إلى حارتنا سيراً على الأقدام.. وحين وصلنا البيت هرعت إلى صدر أمي باكياً..باكياً من الآلام التي سببها لي حذائي الجديد.
من مجموعة شقائق البحر