غسان كنفاني بين أدبَين
منذ سنة 2012، ومن العاصمة البريطانية لندن، تواصل «جوائز الكتاب الفلسطيني» PBA تثمين المؤلفات الأفضل في اللغة الإنكليزية حول فلسطين، في فروع الإبداع والسيرة الذاتية والدراسات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، إلى جانب الترجمة في هذه الحقول وسواها. وقد حدث، مراراً في الواقع، أن ذهبت جائزة الدراسات إلى كاتبات وكتّاب إسرائيليين (إيلا شوحات، إيلان بابيه، على سبيل الأمثلة) لا يناصرون الحقوق الفلسطينية فقط، بل يعتنقون موقفاً نقدياً عميقاً من الاحتلال ودولته ومؤسساته.
وهذا العام ضمّت اللائحة القصيرة كتاب غسان كنفاني «في الأدب الصهيوني»، الذي كان قد نُشر بالعربية سنة 1967، وصدرت نسخته الإنكليزية للمرّة الأولى سنة 2022 بترجمة محمود نجيب، ضمن منشورات Ebb Books في أكسفورد، بريطانيا. ومنذ السطور الأولى في تقديم الكتاب، شدد نجيب على أنّ ترجمة هذا النصّ لم تكن عادية، لأنّ الأصل العربي يختلف عن العمل الأدبي الذي عُرف به كنفاني في الأوساط الناطقة بالإنكليزية؛ ومن المهمّ التأكيد على حقيقة أنّ العمل «توسيع لاهتمام المؤلف الابتدائي الخاصّ بالنضال السياسي». وبالفعل، كما يتابع المترجم، لم يكن باعث كنفاني في تأليف الكتاب أيّ طموح مهني أو ادعاء بحثي، بل كان رغبة ملحّة في فهم الكيفية التي أتاحت لأعداء المؤلف أن «يسيطروا بإحكام تامّ على السردية».
الكتاب يُستهلّ، أيضاً، بمقدمة خاصة بهذه النسخة الإنكليزية، كتبها ستيفن سلايطة، الأكاديمي الأمريكي من أصل عربي؛ توقف في فقراتها عند صعوبات التصنيف البسيط لشخصية كنفاني، وكيف التزمت تأملاته الأدبية والنقدية بطراز من «الكرم» في تفهم العاطفة والشكل مع حزم في تشخيص السياسة خلف الأسطورة. كذلك عدّد سلايطة تحليلات كنفاني لأعمال صهيونية مثل يائيل دايان في «الغيرة من الخائفين»، وليون أوريس في «الخروج» وكتابات آحاد هاعام حول الصهيونية واليهودية، وموادّ أخرى متنوعة إبداعية وتاريخية؛ إلى جانب استعراض التغلغل الصهيوني في دور النشر والمؤسسات الأدبية والثقافية الكبرى، وعلى رأسها جائزة نوبل للأدب. المقدمة الثالثة في هذه النسخة الإنكليزية كانت تقديم أنيس صايغ، رئيس مركز الأبحاث الفلسطيني، للطبعة العربية الأولى من كتاب كنفاني؛ والمقدمة الرابعة وضعتها السيدة آني كنفاني، أرملة الشهيد، خصيصاً للترجمة الإنكليزية، وفي ختامها تقتبس عبارة لصحافي لبناني بعد اغتيال كنفاني يوم 8 تموز (يوليو) 1972: «كان غسان الفدائي الذي لم يطلق مسدساً قطّ. سلاحه كان قلم الحبر الناشف وميدانه أوراق صحيفة، لكنه ألحق الأذى بعدوّه أكثر من طابور فدائيين».
معروف، إلى هذا، أنّ الشهيد قدّم لكتابه بتعريف وجيز لمفهوم الأدب الصهيوني، ابتدأه بالقول إنّ الحركة الصهيونية قاتلت بسلاح الأدب «قتالاً لا يوازيه إلا قتالها بالسلاح السياسي»؛ وتابع: «ولن يكون من المبالغة أن نسجل هنا أنّ الصهيونية الأدبية سبقت الصهيونية السياسية، وما لبثت أن استولدتها وقامت الصهيونية السياسية بعد ذلك بتجنيد الأدب في مخططاتها ليلعب الدور المرسوم له في تلك الآلة الضخمة التي نُظمت لتخدم هدفاً واحداً». ولعلّ في عداد الأسباب العاجلة، و»الموجبة»، خلف اغتيال كنفاني كانت تلك الرؤية الصريحة، عالية الجسارة والشجاعة، في ربط الصهيونية السياسية بالتعصّب والعرقية: «كانت الصهيونية الأدبية هي أولى إرهاصات ذلك التعصب وتلك العرقية، وسوف نلاحظ أنّ التيار التعصبي العرقي، وتسييس الدين اليهودي عبّر عن نفسه أولاً بالأدب، وأنّ هذا الأدب قام تحت ضغط العنصرية في القرن الثامن عشر والتاسع عشر، بلعب دور دليل العمل لذلك التيار اليهودي المتعصب الذي ما لبث أن بلور نفسه في حركة صهيونية سياسية».
ولعلّ اشتغال كنفاني على الأدب الصهيوني لم يتكامل معه في الأهمية سوى اشتغال موازٍ على الأدب الفلسطيني ذاته، وقد يقتضي الإنصاف الافتراض بأنّ كتابَيْه «أدب المقاومة في فلسطين المحتلة»، 1966، و»الأدب الفلسطيني المقاوم تحت الاحتلال»، 1968؛ قاما، في حقل الدراسة الأدبية، بما قامت به روايته الرائدة «رجال في الشمس» في ميدان التخييل الإبداعي. لقد نجح الكتابان في تعريف القارئ العربي العريض على أدب متميّز كتبه ويكتبه فلسطينيون «عاديون»، في أماكن مثل حيفا ويافا وعكا والجليل؛ كما تضمنّا نصوصاً تُنشر للمرّة الأولى في العالم العربي، وصلت بين الداخل الفلسطيني والعمق العربي مشرقاً ومغرباً. الأرجح أنّ القارئ العربي لم يكن، قبل كتابَيْ كنفاني عن الأدب الفلسطيني، يعرف إلا القليل (أو لا يعرف أي شيء أحياناً) عن أسماء مثل حنا أبو حنا، محمود درويش، سميح القاسم، توفيق زياد، فوزي الأسمر، نزيه خير، راشد حسين، ومحمود الدسوقي…
وفي تقديمه لـمجلّد أعمال كنفاني الأدبية الكاملة، أشار محمود درويش إلى معضلة حرف العطف، الـ «واو»، الذي يفصل بين مفردتَيْ «الكاتب» و»المناضل» في التعريف بشخص الشهيد. لماذا لا يتماهى الكاتب في المناضل، فيُقال «الكاتب المناضل» بدل «الكاتب والمناضل»؟ وهل تستعصي العلاقة بين رجل يكتب في سياق نضاله أو لأنه يناضل، ورجل يناضل في سياق كتابته أو لأنه يكتب؟ ولماذا لا يتمّ ذلك في حالة ساطعة صريحة مثل غسان كنفاني بالذات؟
وتكريم الـ PBA لكتاب كنفاني اليوم، بعد 56 سنة، يقول إنّ معضلة حرف الـ «واو» حُلّت، وتُحلّ يومياً!
عن القدس العربي