غزة ٢٠٢٣: نكبة جديدة ، أم  لينينغراد وأبعد؟: مقارنات وآفاق 


اشترك معنا في قناة تلغرام: اضغط للاشتراك حمل تطبيق الملتقى الفلسطيني على آندرويد: اضغط للتحميل

ملخص

تحاجج هذه الورقة بأن الحرب التي اعلنتها اسرائيل على قطاع غزة بعد عملية ” طوفان الأقصى”  الصاعقة التي قامت بها المقاومة الفلسطينية من غزة يوم ٧ تشرين أول / أكتوبر ٢٠٢٣ على مدى ستة ساعات حررت خلالها ما يسمى ب ” غلاف غزة “،  تمثل محطة فارقة، وقطعا مع الحروب السابقة التي شنتها إسرائيل على فلسطين والمنطقة ومنها الحروب المتسلسلة على غزة منذ عام ٢٠٠٦.  وهي ليست حربا مفتوحة على تحقيق تسوية سياسية تعيد نسخ منهجية التسويات السياسية السابقة رغم كل ما سيجري من حراك سياسي عربي ودولي  ، وإنما تتراوح بين احتمالين  لم تشهدهما الحروب السابقة سيما منذ عام ٢٠٠٦ : الأول هو الحسم بأن تكون معركة فاصلة يتحقق فيها نصر واضح مادي ومعنوي لا لبس فيه لأحد الطرفين على الآخر،بالتحرير الكلي أو الجزئي في حال انتصار فلسطين على العدوان وانتقالها مجددا إلى الهجوم المعاكس ، وبتكرار نكبة عام ١٩٤٨ في كل فلسطين في حالة النصر الصهيوني المدعوم أمريكيا وغربيا ، و خلق ” شرق أوسط جديد ” يتضمن ترتيبات سياسية واقتصادية وعسكرية وأمنية . والثاني : هو تأجيل الحسم تبعا لتعقيدات الحرب الجارية الى حرب لاحقة اقليمية  فاصلة متعددة الجبهات لن تكون بعيدة في الغالب، تمثل حرب ٧ تشرين أول  ” بروفتها ” . وإذ تحاجج الورقة أن الاحتمال الثاني هو الأقرب للحدوث، فإنها ترى أن كلا الاحتمالين يحملان معنى المنعطف المصيري ، لذا ستترتب نتائج لهذه الحرب أيا كان الاحتمال الذي سيغلب منهما ذات علاقة بمستقبل القضية الفلسطينية الاصطفافات الجارية بشأنها في المنطقة والعالم .

مقدمة

تتجشم هذه الورقة مخاطرة الكتابة أثناء الحرب ، فيما يفضل الأكاديميون عادة أن يكتبوا بعد إنتهاء الحدث لكي يكونوا ” في الجانب الآمن “، بما يمكنهم من التحليل الدقيق واستخلاص التعميمات المناسبة . مع ذلك لا تنطبق هذه العبارة على بعض الدراسات المقارنة التي تحلل التشابهات والفوارق مع أحداث سابقة في ذات البلد أو مع تجارب عالمية اخرى ، وهو ما تحاول فعله هذه الورقة .  ولا تنطبق العبارة أيضا كذلك على أوراق السياسات التي تضع خيارات وبدائل متصورة لليوم التالي للحرب ، وهو ما نشطت به مراكز بحث ورسم سياسات اسرائيلية وامريكية ودولية منذ اليوم الأول للحرب الحالية التي أعلنتها إسرائيل يوم ٧ تشرين أول ٢٠٢٣ على  غزة بعد المفاجأة التي قامت بها المقاومة في ” غلاف غزة ” وكبدت إسرائيل الفا واربعمائة قتيل وتحريرا  لعدة أيام  لأجزاء من لواء غزة الفلسطيني الذي  كان قائما قبل نكبة عام ١٩٤٨ . تصدت المقاومة الفلسطينية للعدوان الاسرائيلي ولحقتها مشاركات ضد إسرائيل من المقاومة في لبنان وسورية واليمن ، ومشاركات اخرى عراقية وسورية ضد المواقع العسكرية الامريكية في كلا البلدين .

تحاول هذه الورقة مقاربة الحرب الجارية من باب مقارنتها مع أحداث فارقة سابقة في تاريخ فلسطين كنكبة ١٩٤٨، وإخراج الثورة الفلسطينية من لبنان ، وبتجارب من العالم منها عراقية ويابانية وروسية تتعلق بحروب المدن . كما تحاول استشراف اليوم التالي للحرب من منظور فلسطيني . وتنطلق الورقة في هذا الإطار من كون الحرب الحالية هي محطة فارقة تمثل قطعا مع ما سبقها ، مثلها في ذلك تماما مثل نكبة عام ١٩٤٨، وإخراج الثورة الفلسطينية من لبنان . تتميز المحطات الفارقة بأنها تقطع السياق السابق للاحداث وتفتح مسارات جديدة . وتنشأ المحطات الفارقة كنتيجة تراكمية من الأحداث السابقة ، ولكن هنا تكون الأحداث السابقة قد وصلت إلى نقطة المعيار التي تتحول فيها الحالة نوعيا إلى حالة جديدة . تكون المحطات الفارقة هي محطات لا يصح بعدها ما كان قبلها ، وتحكمها معادلات ومقاربات جديدة .

وفق ما تقدم ، يمكن اعتبار حرب ٧ تشرين ٢٠٢٣ أيضا قطعا مع الحروب السابقة على غزة منذ عام ٢٠٠٦، فقد تركزت تلك الحروب في ٢٠٠٦، و ٢٠٠٨- ٢٠٠٩، و ٢٠١٢ و ٢٠١٤ بدرجة كبيرة حول الحصار المضروب على غزة . أما حرب ٢٠٢٣ فقد تركزت على مصير فلسطين ومركزها القدس ، لذا سميت المعركة التي سبقتها مباشرة ب ” طوفان الاقصى” . وجدت معركة طوفان الأقصى خميرتها الأولى في معركة ” سيف القدس ” عام ٢٠٢١ التي دامت لأحد عشر يوما . ولكن معركة طوفان الاقصى بما مثلته من مفاجأة لاسرائيل ، استخدمت كذريعة من هذه الاخيرة لشن حرب معدة ومبيتة مسبقا ضد الشعب الفلسطيني ، وذلك بعد أن نقلت معركة طوفان الاقصى المعركة لأول مرة منذ عام ١٩٥٥ ( انظر/ ي أدناه ) إلى داخل إسرائيل ذاتها ، وولدت حرب الاحتلال التي تلت معركة طوفان الأقصى مقاومة من غزة  والضفة ومشاركات معها من لبنان وسورية واليمن والعراق فيها ، وهذين الأمرين إلى جانب سعتها ومغازيها وحجم الاستقطاب الإقليمي والدولي الذي تفاعل معها بما شمل حضور حاملات الطائرات الامريكية والدعم الامريكي والاوروبي  العسكري والسياسي المباشر لإسرائيل و” لحقها في الدفاع عن نفسها ” . كل ذلك يجعلها منعطفا ومحطة فارقة  .

انتهت معركة ٢٠٢١ بتسوية ، واستمرت بعدها المقاربة الصهيونية للتعامل مع القطاع كما كانت عليه وكأن تغيرا ما لم يحدث :  السماح بدعم قطري لتحسين أوضاع المعيشة في القطاع ، والموافقة على استمرار إدارة حماس للوضع في قطاع غزة من أجل ادامة الانقسام الفلسطيني كما صرح نتنياهو غير ذات مرة ، وإرفاق ذلك بالحديث عن حماس مردوعة ، واتخاذ إجراءات لحماية أمن إسرائيل من خلال إنشاء الجدران الأرضية وتحت الأرضية ، والمزودة بتكنولوجيا المراقبة والمجسات وتطوير القبة الحديدية لاعتراض الصواريخ وتكنولوجيا الكشف عن الأنفاق ، وهكذا .

حطم هجوم المقاومة يوم ٧ تشرين ٢٠٢٣  بالطريقة التي تم بها كل تلك المقاربة ، وحطم التسوية التي كانت قائمة . وكان لإسرائيل لو استوعبت الدرس أن ترعوي نتيجة لهذه الضربة وتقرر انهاء احتلالها ، ولكنها بدلا من ذلك اتجهت لإعلان الحرب على الشعب الفلسطيني وأعلنت عن حلول جراحية لإنتاج نكبة جديدة  وشرق أوسط جديد ، وهو ما يمكن أن يؤسس في المقابل لانتصار فلسطيني قادم حيث ليس كل ما تخطط له إسرائيل يصبح قدرا ، أو بروفة انتصار في أول حرب قادمة .

بدأت تطرح أثناء وبعد حرب ٢٠٢٣ مشاريع إسرائيلية ودولية للحل السياسي وتصورات لليوم التالي من نوع جديد لا يتضمن توافقات مع حماس كما كان عليه الحال في الماضي . يبين العرض أدناه أن هذه المشاريع ستصل الى طريق مسدود نظرا إلى أنها لا تحمل ما هو جديد ، ومستنسخة من مشاريع طرحت وفشلت في الماضي لأنها لم ترق إلى طرح وتحقيق ما هو أساسي وهو حق تقرير المصير والدولة المستقلة وحق العودة للشعب الفلسطيني إلى دياره. هذا ناهيك عن اختلاف الأطراف بشأنها بين من يريد حلا سياسيا منصفا ، وبين من يرفضه ويكتفي بطرح ترتيبات انتقالية تعطي فرصة إضافية للاستيطان الاستعماري لكي يلتهم كل فلسطين، واخيرا من يقف في المنتصف طارحا الحل السياسي كضريبة كلامية فيما يقبل عمليا بما ترضى به إسرائيل . وقبل التطرق لهذه الحرب ومقارناتها مع حالات أخرى وآفاقها ، يجدر البدء أولًا بإضاءة حول معنى وهدف الحرب في ظل السياق الاستيطاني الاستعماري المختلف عن سياق الحروب العادية . 

الحرب في السياق الاستيطاني الاستعماري الصهيوني  

لا يمكن فهم الحرب في الحالات الاستيطانية الاستعماري  إذا وضعت في سياق مماثل للحروب التي تجري بين الدول . في الحالة الثانية تجري الحرب بين جيشين برا وبحرا وجوا ويسقط فيها مدنيون ، ولكن طابع الالتحام العسكري يكون الطابع الأساسي البارز فيها. أما في الحالات الاستعمارية الاستيطانية فيقوم المستعمر بالحرب على الشعب صاحب البلاد الاصلي من أجل اقتلاعه والحلول محله وتغيير طابع بلاده مكانًا واقليما وفضاءا ومشهدا ، ويرد الشعب الأصلي بالمقاومة بشكل منظم من خلال حركات مقاومة  غير دولانية ( non- state actors )، أو بشكل غير منظم من خلال أعمال فردية وعفوية .

في حالة الغزوة الصهيونية لفلسطين تمت عمليات الاقتلاع والإحلال بداية من قبل العصابات الصهيونية المسلحة قبل عام ١٩٤٨، وتواصلت من قبل جيش الدولة الاستعمارية الاستيطانية بعد حرب ١٩٤٨. وفي كلتا المرحلتين إنتظم الشعب الفلسطيني في قوى مقاومة للاقتلاع والتهجير والإحلال ، واصبح وضع هذه المقاومة أكثر تعقيدا بعدما بات عليها بعد عام ١٩٤٨ أن تواجه جيشا مدججا بأكثر أنواع الأسلحة فتكا ومدعوما من قوى الاستعمار الاستيطاني العالمية . فقد صار على المقاومة أن تقاتل هذا الجيش سواءا من كان منه في حالة التجنيد أو من هو في استراحة من التجنيد ( من يسمون ب ” المدنيين الاسرائيليين ” مثلا ) ، فيما لا يرد الجيش على المقاومة بل على الشعب الذي تعيش في كنفه من أجل استئصاله . إذ أن الهدف واضح وهو تصفية الشعب الفلسطيني كله عزلا ومقاومين تحت عنوان تصفية مقاومته . وفي سياق ذلك يتم إطلاق النعوت على المقاومة بأنها تنظيمات إرهابية، وتشن الحروب على الشعب كله الذي تتهم المقاومة ايضا أنها تستخدمه دروعا بشرية .

يكتسي هذا الفرق بين الحروب الكلاسيكية بين الجيوش وبين الحروب في الإطار الاستعماري الاستيطاني طابعا مهما ،  فالحروب الكلاسيكية تنتهي بانتصار طرف على آخر أو بالتعادل ، أما الحروب في الحالة الاستعمارية الاستيطانية فهي حروب لا يهدف منها الطرف الاستعماري الى هزيمة المقاومة وإنما إلى اقتلاع الشعب الأصلي والحلول مكانه . أما الشعب الأصلي فيخوض هو ومقاومته في هذه الحالة حرب وجود للحفاظ على كينونته وكيانه ، ويستبسل في خوض المعارك التي يلتحم فيها مع العدو التحاما مباشرا وفيها ينتصر ، وفي المقابل يعوض المستعمر عن فقدان الإرادة في الالتحام المباشر من خلال القتال مع الشعب الاصلي من وراء جدار سواء كان هذا الجدار سورا معززا بأفضل كاميرات الرقابة ومجسات المراقبة ، أو طائرة تقصف من الجو ، او دبابة مدرعة يختفي داخلها ، أو برج محصن وهكذا مما يؤدي إلى إخضاع الشعب الأصلي وإيقاع أكبر الخسائر بين صفوفه دون أن يصاب المستعمر، وبهذا تستمر مسيرة الاقتلاع والإحلال. المفارقة في تاريخ الصراع مع الصهيونية أن القوة الصهيونية الباطشة استطاعت إلحاق هزائم مادية بالشعب الفلسطيني أدت إلى نكبات ومجازر وإدامة السيطرة الصهيونية على فلسطين منذ عام ١٩٤٨، وذلك رغم افتقارها لإرادة القتال ، ولكنها في المقابل لم تستطع أن تجعل الشعب الفلسطيني يستسلم ويرفع الراية وينهزم معنويا . فلا زال هذا الشعب يقاوم جيلا بعد جيل رغم كل ما أصابه من نكبات .

مع ذلك ، فقد تم كسر جدران الاقتلاع والإحلال التي استمرت في ممارستها إسرائيل بعد نشوئها عن الحركة الصهيونية  عام ١٩٤٨  وكاستمرار لها مرتين : الأولى في ٦ تشرين أول / أكتوبر عام ١٩٧٣ حينما قام الجندي المصري بتحطيم جدار بارليف مفخرة الجيش الإسرائيلي في سيناء ، والثانية في ٧ تشرين أول / أكتوبر عام ٢٠٢٣ حين استطاع مقاومو غزة اقتحام الجدار المقام حول غزة بعد تعطيل مجساته الالكترونية واقتحام حاجز إيرز الحصين، ثم تدمير فرقة غزة في الجيش الاسرائيلي وتحقيق حق العودة الى ٢٢ مستعمرة من منطقة غلاف غزة كانت قبل عام ١٩٤٨ قرى فلسطينية تقع في لواء غزة الذي كان واقتلع أبناؤه وبناته ورحلوا إلى قطاع غزة ذلك الشريط الصغير الذي لا يتعدى ٣٦٥ كيلومترا مربعا  مما لا يمثل ما يزيد عن ٢،٩٣ بالمئة عن لواء غزة الذي كان يضم قضائي غزة وبئر السبع ( شعبان ، ٢٠٠٣، ص. ٢٠). يجب هنا ايضا ذكر تجربة كتيبة الفدائيين رقم ١٤١ التي بلغ عددها ألف فدائي وعملت انطلاقا من غزة بين أيلول ١٩٥٥ وحتى أول تشرين ثاني ١٩٥٦ واستطاعت أن تصل في اقتحاماتها ونشاطات تسللها إلى مسافة ١٥ كيلومتر من تل أبيب ( ابو النمل ، ١٩٧٩، ص. ١١٦. والصوراني ، ٢٠١٣).

في الأجزاء التالية من  هذه الورقة يتم استعراض الخطط التي تنتهجها إسرائيل بدعم أمريكي على الأرض  لاستكمال عملية الاقتلاع من غزة والتي تشمل إبادة جزء وترحيل آخر داخليا وخارجيا باستحضار الحرب على داعش في الفلوجة والموصل وغيرهما لشيطنة المقاومة وتبرير ذبح الشعب ، وكذلك استحضار مفاجأة بيرل هاربر في الحرب العالمية الثانية والرد الأمريكي عليها بهزيمة اليابان ، وتدمير مدينة هيروشيما اليابانية بقنبلة نووية  ، ومفاجأة حرب أكتوبر ١٩٧٣ التي تلاها قدرة الجيش الاسرائيلي على امتصاص الضربة والوصول الى بعد ١٠١ كيلومتر من القاهرة ، و ٤٠ كيلومتر من دمشق . تم استحضار كل ذلك تمهيدا لإعادة إحلال المستعمرين في غزة والذي شرع بالتصميم له بعد قرار الكنيست يوم ٢٢ آذار من عام  ٢٠٣٣ أي قبل ٧ أكتوبر بستة شهور ونيف بإلغاء قانون فك الارتباط مع المستعمرات في غزة وجنين الذي تم عام ٢٠٠٥ .  يتم في الورقة في المقابل مقاربة نموذج المقاومة الذي اعتمد في ذات الحرب بين نموذج المقاومة في لينينغراد كما وصفها الرئيس فلاديمير بوتين يوم ١٣ تشرين اول / اكتوبر في تصريح له في بشكيك عاصمة قرغيزستان، ومدى إمكانية تطبيقه على حالة حصار غزة ومقاومتها المستمرة منذ عقود . كما يتم التعريج على غزو بيروت عام ١٩٨٢ وامكانية تكرار تجربة إخراج المقاومة من بيروت في حالة غزة،  والحروب المتسلسلة على غزة منذ عام ٢٠٠٦ . وتنتهي الورقة باستشراف آفاق ما بعد الحرب في ضوء أهداف كل طرف منها وامكانيات تحقق هذه الأهداف ، وفي سياق ذلك تسلط الضوء على نجاح تجارب الاقتلاع القائمة ، أو إنتصار المقاومة في هذه الجولة أو جولة لاحقة متعددة الجبهات من خلال نموذج لينينغراد وما هو أبعد بما يشمل الانتصار المادي عبر التحرير الكلي أو الجزئي وإزالة آثار نكبة عام ١٩٤٨ كليا أو جزئيا وليس الانتصار المعنوي فقط كما في نتائج جولات المقاومة السابقة مع دولة الصهيونية.

 الصهيونية وغزة :التخطيط لنكبة جديدة عبر استحضار التجربتين العراقية واليابانية وإخراج الثورة الفلسطينية من لبنان وحرب أكتوبر ١٩٧٣

 ما أن أذيعت يوم ٧ تشرين أول / أكتوبر اخبار طوفان مجاهدي المقاومة الفلسطينية عبر غلاف غزة مجسدين بذلك تحرير لواء غزة الذي كان حتى نكبة عام ١٩٤٨ ، وبعد أن استفاقت اسرائيل من هول الضربة بعد ساعات، حتى بدأت تتصرف على أساس أن المقاومة قد ارتكبت الخطأ الفظيع الذي كانت تنتظره كذريعة لتنفيذ خططها الموضوعة مسبقا لتصفية القضية الفلسطينية واستكمال اقتلاع الشعب الفلسطيني من أرضه . وفور الاستفاقة من الصدمة راحت الصهيونية تصنف حركة حماس التي قادت الطوفان بأنها داعش وانها حركة نازية تسبب هولوكست جديد ل ” الشعب اليهودي ” ، وأن هجومها على قرى غلاف غزة هو ” عمل إرهابي ”  فظيع وكبير لا يقل حجما وأثرا عن هجمات ١١ أيلول سبتمبر في الولايات المتحدة الأمريكية. وعلى الفور وجدت هذه الادعاءات صداها في واشنطن التي راحت ترددها

 ، وتم سلفا استحضار ” خطأ ” اليابانيين الفظيع في الحرب العالمية الثانية حين دمروا الأسطول الأمريكي في بيرل هاربر في جزيرة هاواي يوم ٧ كانون أول ١٩٤١،مما مهد لاعلان الولايات المتحدة انخراطها في الحرب العالمية الثانية، وارتبط ذلك في حينه برد امريكي مزلزل انتهى بهزيمة اليابان هزيمة ساحقة في الحرب . واستحضر الصهاينة ذاكرة حرب أكتوبر ١٩٧٣ ، وكيف أن اسرائيل استطاعت في النهاية تدارك المفاجأة واستعادة زمام المبادرة بفضل الجسر الجوي لنقل الاسلحة الامريكية الى إسرائيل آنذاك بحيث استطاعت قواتها الوصول الى مسافة ١٠١ كيلومتر من القاهرة والى ٤٠ كيلومتر من دمشق مع اقتراب انتهاء الحرب.

بنفس الاتجاه راحوا يفكرون بأن تتحول مفاجأة ٧ أكتوبر الى هزيمة شاملة ليس لقوى المقاومة وحسب ، بل لتطبيق الأجندة الإقتلاعية ضد الشعب الفلسطيني، ولتغيير خارطة الشرق الأوسط بأسره . وفي هذا  تم إعتماد مسارين : أولهما سياسي دبلوماسي ، والثاني حربي .

في المسار الأول بوشر بالعمل لمنع توسع الحرب الى جبهات أخرى ، وبالضغط على مصر من أجل ” استقبال” فلسطينيي غزة في سيناء ” مؤقتا ” مقابل إعفاء مصر من ديونها ، وذلك إلى حين التخلص من حركات المقاومة في غزة ، ولم يكن هذا الطرح إلا تكرارا لمشاريع التوطين للاجئين الفلسطينيين في سيناء المكررة منذ عام ١٩٤٩ ( انظر / ي مصالحة ١٩٩٦)، وعزز ذلك تقديم رئاسة الولايات المتحدة يوم ٢٠ أكتوبر ٢٠٢٣ طلبا للكونغرس برصد مبلغ ١٤،٣ مليار دولار اضافية  لدعم اسرائيل ضمن حزمة مساعدات لإسرائيل وأوكرانيا تتضمن بنودا للمساعدة على ” الهجرة ومساعدة اللاجئين ” بقيمة ٣،٤٩٥ مليار دولار جزء منها مخصص لأوكرانيا  ، ولكنها تشمل في الوقت ذاته  كما ورد في النص المنشور على الصفحة الالكترونية للبيت الأبيض مبالغ للمساعدة بشأن ” احتمال نزوح الغزيين إلى دول مجاورة ” وتطوير ” برامج خارج غزة ” لهؤلاء النازحين كما ورد حرفيا في نص الطلب المقدم للكونغرس ( صفحة البيت الأبيض الالكترونية بالانجليزية).

المسار الثاني هو مسار حربي اتخذ عدة اتجاهات ، منها الاستمرار في الهجمات داخل سوريا لردع أية مشاركة منها في الحرب الموجهة نحو غزة بشكلٍ خاص ، وإبعاد القوات الإسرائيلية خمسة كيلومترات عن الحدود مع لبنان لتلافي إصابتها بصواريخ حزب الله من طراز كورنيت القصيرة المدى المضادة للدروع ، جنبا إلى جنب مع إخلاء القرى اليهودية المحاذية للحدود اللبنانية والحدود مع غزة من سكانها تجنبا لإصابتهم في القتال مع حزب الله والمقاومة في غزة ، وإحضار حاملتي الطائرات الأمريكية جيرالد فورد وايزنهاور ولاحقا غواصة أوهايو الى المنطقة للتصدي لأية مشاركة اضافية في الحرب من قبل إيران والحوثيين في اليمن والفصائل العراقية وحزب الله.  كل ذلك بما يمكن من استمرار الاقتحامات اليومية في مدن الضفة الغربية والتي كانت قائمة منذ ما قبل الحرب وبدء نشر الدعوات لرحيل فلسطينيي الضفة إلى الأردن وهو ما قام به المستوطنون في منشورات وزعوها وتدعو لذاك وتهدد بنكبة جديدة للفلسطينيين إن لم يرحلوا ، هذا مع تكريس الجهد الحربي الأساسي لتسوية قطاع غزة بالأرض وابادة جزء كبير من فلسطينييها، وخلق حالة تهجير واسعة داخل القطاع لقسم آخر ، تمهيدا للتهجير خارج القطاع بعد أن يلين الرفض المصري حسب توقعاتهم، أو تقبل دول أخرى برحيل الغزيين إليها كليا أو جزئيا عبر البحر ، وهو مشروع مطروح منذ زمن ، وفي آخر مرة طرح بنيامين نتانياهو على حكام أوكرانيا في آب من عام ٢٠١٩ أثناء زيارة له لذاك البلد أن تقبل هجرة الغزيين ” الطوعية ” إليها  ( تايمز أوف إسرائيل ، ٢٠١٩). وخلال حرب تشرين ٢٠٢٣ ورد اسما تركيا واسكتلندا ( بينيت ، ٢٠٢٣)  التي يحكمها رئيس وزراء من أصل باكستاني هو حمزة يوسف فيما زوجته نادية النقلة هي غزية الأصل .

في إطار المسار الحربي ، وإذ صورت حماس بأنها داعش ،  وإذ أن الفكرة المشتركة الصهيو- امريكية قضت بالقضاء عليها جنبا الى جنب مع ذبح قسم من الغزيين وتهجير قسم آخر ، فقد تم استحضار تجارب أمريكا في العراق ومع اليابان ، واستحضر الصهاينة ذاكرة حربي ١٩٧٣ و ١٩٨٢، وتجربة النكبة والتي عبر عنها نتنياهو في مؤتمره الصحفي يوم ٢٨ أكتوبر بقوله بأن حرب إسرائيل مع حماس هي ” حرب الاستقلال الثانية “، التالية ل ” حرب الاستقلال الاولى ” عام ١٩٤٨ التي مثلت النكبة الفلسطينية الأولى . يعني ذلك أن الحلف الصهيو – أمريكي يخطط لاستعمال ما قامت به المقاومة يوم ٧ أكتوبر للتسبب في نكبة ثانية جديدة للشعب الفلسطيني في غزة والضفة والقدس الشرقية بدءا من غزة ، ولا أقل من ذلك . وعليه فإن الحرب الحالية ليست اقل من حرب وجود بالنسبة للشعب الفلسطيني.

على الصعيد العملياتي لتحقيق النكبة الجديدة استحضر الامريكان تجاربهم في العراق : 

فمباشرة عقب  اجتماع بايدن مع كابينت الحرب  الاسرائيلي في تل أبيب يوم الأربعاء ١٨ تشرين أول ٢٠٢٣، أذاعت المحطات الاخبارية الاسرائيلية أن بايدن طلب من اسرائيل تنفيذ الحرب في غزة على غرار تلك التي خاضتها الولايات المتحدة ضد تنظيم القاعدة في مدينة الفلوجة العراقية عام ٢٠٠٤ . ولكن يوم الثلاثاء ٢٤ تشرين أول عاد بايدن للتصريح من واشنطن أن المعركة في غزة يجب أن تشبه معركة الموصل ضد تنظيم داعش عام ٢٠١٦- ٢٠١٧. بهذا يكون بايدن قد تبنى الطرح الصهيوني بأن حماس هي داعش، وقرر أن يشملها ضمن الحملة المسماة ب ” الحرب على الإرهاب “. ويحاجج هذا القسم أن كلا المعركتين لن يكون لهما اي حظ في النجاح في حالة غزة .

في معركة الفلوجة نوفمبر – ديسمبر من عام ٢٠٠٤، حاربت القوات الامريكية القوى والجماعات التي رفضت الاحتلال الامريكي ، وقامت باهانة اهالي المدينة ونكلت بهم، فواجهوا الاحتلال بالعنف ايضا ، وحاولت القوات الامريكية تمشيط المدينة خصوصا بعد مقتل عدد من الجنود الأمريكان، وألحقت ضررا كبيرا بالسكان وبعدد من المرافق الحيوية خصوصا بعد سيطرة تنظيم القاعدة بقيادة أبو مصعب الزرقاوي، واضطر عشرات الآلاف من سكان المدينة الى النزوح عنها بحيث لم يبق فيها سوى سبعين ألفا من عدد سكانها الذي كان يبلغ ثلاثمائة وخمسين الفا . ومع ذلك فقد عادت المدينة الى سيطرة تنظيم داعش عام ٢٠١٤، إلى أن إستعادتها الحكومة العراقية في حرب ضروس امتدت من ٢٢ ايار الى ٢٦ حزيران من عام ٢٠١٦.

أما معركة استعادة الموصل من تنظيم داعش فقد إمتدت على مدى ٩ أشهر وأربعة أيام بين ١٦/ ١٠/ ٢٠١٦ وحتى ٢٠/ ٧/ ٢٠١٧ ، وهي معركة شارك فيها على الأرض القوات العراقية وقوات البيشمركة والحشد الشعبي ، فيما قامت قوات ” التحالف الدولي لمحاربة تنظيم داعش ” المكون من ٦٠ دولة بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية بمهمات الغارات الجوية وتقديم الدعم اللوجستي والاستخباري والاستشارة والتدريب للقوات العراقية. في هذه الحرب تم تدمير ٨٠ بالمئة من الموصل البالغ مساحتها ١٤٠٠ كيلومتر مربع أي أربعة أضعاف مساحة قطاع غزة ، والتي تضم ١٢٣ بلدة وقرية ، كما تم قتل ١١ ألفا من المدنيين ثلثهم بسبب القصف الجوي ، اضافة الى ٣ الاف الى ٥ الاف من تنظيم داعش حسب الإحصاءات الرسمية الأمريكية. وبلغ عدد سكان الموصل في حينه ٢،٥ مليون نسمة أي بما يشابه عدد سكان قطاع غزة اليوم .

بالتطبيق على غزة ، يتبين أن اختيار الولايات المتحدة لتكرار تجربة الموصل فيها يعود إلى رغبة الولايات المتحدة بأن تكون المعركة في غزة هي معركة دولية – اسرائيلية مشتركة بقيادة امريكية وهو ما هو قائم بالفعل حيث ارسلت امريكا حاملتي طائرات والاف الجنود ومستشارين عسكريين منهم جيمس غلين المسمى ب ” سفاح العراق” ، كما قامت قوات امريكية – اسرائيلية مشتركة بالتوغل في غزة لإنقاذ الرهائن وعادوا أشلاء كما بين المستشار السابق في البنتاغون دوغلاس مكريجور في حديث تلفزيوني مع الصحفي المعروف تاكر كارلسون  يوم ٢٣ تشرين اول ٢٠٢٣ ، كذلك أرسلت بريطانيا شحنات من الأسلحة ، ورشحت اخبار يوم ٢٣ تشرين اول بأن اسرائيل تنوي اغراق الانفاق في غزة كما كتب الصحفي الأمريكي سيمور هيرش في ذات الفترة ، وأفيد بأن ألمانيا وكندا وهولندا بصدد إرسال مضخات مياه ضخمة إلى اسرائيل وذلك لتمكينها من سحب مياه البحر وضخها داخل الأنفاق في غزة قبل أية عملية برية مما يسبب اهتزازات في التربة وتصدعات لما تبقى من مباني لم  تدمرها بعد الغارات المكثفة للطائرات الاسرائيلية . كما أفيد بوجود خطة أخرى كشف عنها موقع ميدل إيست آي في أواخر تشرين أول تقضي بإغراق الأنفاق بغاز الأعصاب الذي يشل الحركة لمدة ٦- ١٢ ساعة بما يمكن قوات امريكية اسرائيلية مشتركة من دخول الانفاق لتخليص الرهائن وقتل الآلاف من المقاومين كما يروجون.

 الخطط الأمريكية غير ممكنة التنفيذ في الواقع  لعدة أسباب

 اولها

 أن اعادة احتلال قطاع غزة بأكمله لتنفيذ هذه الخطط هو أمر بالغ الصعوبة في ظل المقاومة وما أعدته من كمائن ومفاجئات للقوات المهاجمة،ويحتاج الى شهور طويلة وربما سنوات لتحقيقه كما صرح القادة العسكريون الاسرائيليون ، وإن تم هذا الاحتلال فإنه سيكون مهددا بمقاومة لعدة سنوات كما تشير تجربة غزة بعد احتلالها عام ١٩٦٧ حيث اندلعت حركة مقاومة مسلحة عام ١٩٦٨ ولم يستطع الاحتلال تصفيتها سوى في نهاية عام ١٩٧٢ ، لتمهد الطريق الى موجات مقاومة لاحقة كتلك التي شهدتها الانتفاضتان الأولى لعام ١٩٨٧،والثانية لعام ٢٠٠٠، ثم الحروب التي لحقت فك الارتباط الاسرائيلي مع غزة لعام ٢٠٠٥ وهي حروب ٢٠٠٦ و ٢٠٠٨- ٢٠٠٩و ٢٠١٢، و ٢٠١٤، و ٢٠٢١ و ٢٠٢٢. ومن المفارقة أن الإسرائيليين قد لفتوا نظر شركائهم الامريكان في لقاءات التداول المشتركة أن خططهم في العراق غير قابلة للتطبيق على قطاع غزة لهذا السبب المتعلق بأن إطفاء موجة مقاومة في غزة لا يكون سوى المقدمة لبدء نمو خمائر موجة مقاومة ثانية وذلك بعكس ما جرى في العراق حيث تم القضاء على خلافة داعش في الموصل من خلال حملة واحدة وهكذا..   

ثانيا : مساحة العراق الشاسعة كانت تجعل من الممكن

 الدخول امريكيا الى مناطق محددة لإجراء عمليات خاطفة والعودة بدون خسائر في صفوف الجنود الامريكان ، أما قطاع غزة الصغير ففيه مئات الكمائن التي تجعل من وصول الامريكان الى المقاتلين الفلسطينيين في إنفاقهم مهمة صعبة عوضا عما سيتناول الوصول اليها من خسائر على المدى القصير وكذلك من المقاومة التي ستتلو على المدى الابعد.

وثالثا : في حالة العراق رحل اهل الفلوجة والموصل مؤقتا إلى أماكن أخرى داخل بلدهم العراق ، اما الغزيون فلا يملكون أي مكان للرحيل إليه مؤقتا داخل بلدهم الا اذا عادوا الى النقب وبئر السبع من خلال عملية تحرير . الرحيل  المؤقت لأهل الفلوجة والموصل سهل عمل القوات الأمريكية في القضاء على تنظيمي القاعدة و داعش ، أما عدم رحيل أهل غزة فيجعل تصفية قوى المقاومة فيها مهمة مستحيلة .

ورابعا واخيرا : كان تنظيما القاعدة وداعش في العراق تنظيمان إرهابيان لم ينبتا من صميم المجتمع العراقي ولم يخلقا جذورا شعبية لهما في العراق . أما حماس والجهاد وفتح والجبهتان الشعبية والديمقراطية وغيرها من قوى المقاومة الفلسطينية فهي جزء لا يتجزأ من نسيج المجتمع الفلسطيني المقاوم للاحتلال والمكافح من أجل التحرير ، لذا يدور الحديث هنا عن قوى تحرر وطني وليس قوى إرهاب كما تتوهم أمريكا .

 لهذا كله لن ينجح نسخ معارك الفلوجة والموصل في غزة .

مع ذلك عنى ما تقدم أن الولايات المتحدة تريد أن تقود المعركة في غزة بنفسها ومعها تحالف دولي اقترح إنشاءه الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون اثناء زيارته لاسرائيل يوم ٢٣ تشرين أول ، وأن تجعلها طويلة ومريرة كمعركة الموصل التي دامت تسعة أشهر كما ورد ، بل ولعدة سنوات كما صرح عضو مجلس الحرب الصهيوني بيني غانتس يوم ٢٦ تشرين أول، وأن تنتهي بالقضاء التام على حماس وقوى المقاومة في غزة وكذلك وهو الأهم أن تنتهي بتدمير ٨٠ بالمئة من قطاع غزة أو يزيد بحيث يصبح قسم كبير من القطاع منطقة فارغة كمتطلب لا بد منه من أجل عودة مستوطني غلاف غزة إليه آمنين من أي تهديد مستقبلي يمكن أن يأتي من قطاع غزة .

وفي الواقع فقد تجاوزت اسرائيل في حربها على غزة معركة الموصل حيث ألقت على غزة ٧٠٠٠ آلاف قذيفة خلال عشرين يوما وهو ما يفوق ب ٢٠٠٠ قذيفة مما كانت ألقتها الولايات المتحدة من قذائف على الموصل خلال شهر ، وذلك حسبما أوردت جريدة النيويورك تايمز ، كما أن ذلك يتجاوز ما ألقته الولايات المتحدة على أفغانستان خلال عام . وفي ظل عدم صلاحية طريقة الموصل لتصفية المقاومة في غزة ، فإن الشريكين الامريكي والاسرائيلي لا زالا حتى اليوم الثاني والعشرين للحرب يتداولان حول ” أفضل الطرق ” لتسوية الوضع في غزة، وفي إطار التداول الحميم بينهما طرح الكيان بأن لا طريقة للقضاء على قوى المقاومة سوى بتسوية غزة تدريجيا بالأرض كما حصل في مدينة هيروشيما اليابانية جراء القنبلة النووية التي ألقتها عليها الولايات المتحدة الأمريكية في الحرب العالمية الثانية،  وتدمير الأنفاق على رؤوس المقاتلين بقنابل خارقة تلقى من الجو زودت  أمريكا إسرائيل بها ، ثم الاجتياح البري بعد ذلك حيث تكون الطريق قد أصبحت ممهدة له بحيث يكون هذا الاجتياح مدعوما بالقصف الجوي وعمليات المسيرات. يترافق ذلك مع قطع الغذاء والماء والكهرباء والوقود  لجعل المقاومين يموتون جوعًا وعطشا ، والتقليص التدريجي لقدرتهم على إطلاق الصواريخ بسبب نفاذ الوقود وتزيد اسرائيل على نموذج هيروشيما بأنها ترمي إلى ترحيل من يتبقى في القطاع بعد تنفيذه  .

في هذا الإطار تعترف أمريكا ب ” حق إسرائيل في اختيار الطريقة المناسبة للدفاع عن نفسها “، ولكنها تستعطفها في الوقت ذاته وفي إطار الحوار بين الاصدقاء بتقليص نسبة الإصابات بين المدنيين وادخال المزيد من المساعدات الانسانية والقيام “بعمليات جراحية ” ضد المقاومين كما اسمتها ، وذلك من أجل درء وتقليص الضغط الدولي والهجمات على القواعد الامريكية في المنطقة بسبب الجرائم المترتبة عن القصف الإسرائيلي فيما تقبل في الوقت ذاته بحصر ادخال المساعدات الى مناطق جنوب القطاع فقط مع حظر وصولها لشماله مما يعني الموافقة على خطة اسرائيل بترحيل فلسطينيي قطاع غزة من شماله إلى جنوبه ، تمهيدا للسيطرة الاسرائيلية الكاملة على شمال القطاع ارضا بدون سكانها الذين يكونون قد رحلوا .

 بالمقارنة مع حالة هيروشيما ، يجدر الذكر أنه في الأسابيع الاربعة الاولى من الحرب ، ألقت إسرائيل على غزة ما يوازي قنبلتين نوويتين كما افاد المرصد الاوروبي لحقوق الانسان، وسيزيد ذلك مع قادم الايام  ، هذا من زاوية التشابه ، ولكن هنالك اختلاف يكمن في أن هدف إسرائيل في غزة والضفة يتعدى ما فعلته أمريكا ضد هيروشيما ، فهناك مارست الولايات المتحدة فعل الابادة ، أما في حالة غزة فإن المطروح كما ذكر هو إلحاق الإبادة بترحيل من يتبقون . أي صيغة مشابهة لنكبة عام ١٩٤٨.

في إطار ما سبق طرحت معاهد البحث ورسم السياسات الاسرائيلية سيناريوهات اليوم التالي التي تتضمن تسوية شمال قطاع غزة بالأرض ، والسيطرة الكاملة على غاز بحر غزة ، وإنشاء شريط حدودي عازل بين كل قطاع غزة وإسرائيل ، وترحيل سكان شمال قطاع غزة الى جنوبه واخضاعهم للحكم العسكري الإسرائيلي لفترة معينة يليها اعادة السلطة الوطنية الفلسطينية لحكم غزة بعد “ تأهيلها” كما طرح ، أو إنشاء ادارة مدنية محلية ، او الترحيل الى سيناء او مصر مع خلق منطقة عازلة بينهم وبين حدود اسرائيل الملاصقة لمصر، مع تفضيل لهذا الخيار الاخير من غالبية المعاهد الإسرائيلية والامريكية ووزارة الاستخبارات الاسرائيلية ( ننظر على سبيل المثال : معهد واشنطن ٢٠٢٤، ووزارة الاستخبارات الإسرائيلية ، ٢٠٢٣ ، وهاس ، ٢٠٢٣). وربما اعادة إنشاء مجمع مستعمرات غوش قطيف الذي تم إخلاؤه عام ٢٠٠٥ عليه ، وهو أمر يعززه قرار الكنيست الإسرائيلي في ٢٢ آذار الماضي بإلغاء قرار فك الارتباط لعام ٢٠٠٥ مع كل من جنين وغزة ، وما تلى ذلك القرار من تصريحات لاوريت ستروك من حزب الصهيونية الدينية ، وليمور سون هميليخ من حزب عظمة يهودية بضرورة العودة إلى مستعمرات غوش قطيف ، وعودة الحيوية للحركات التي تطالب بالعودة الى غوش قطيف ، والتي كانت قد أقامت متحفا لذكرى وتراث تلك المستعمرات في القدس .

ومن التصورات المتداولة أيضا بين مراكز البحث الإسرائيلية والغربية واحدة أخرى تتعلق بنسخ تجربة إخراج الثورة الفلسطينية من لبنان عام ١٩٨٢على غزة كليا أو جزئيا كما ورد في صحيفة يديعوت أحرونوت يوم الاول من تشرين ثاني ٢٠٢٣ . في تلك الحرب تم  حصار المقاومة الفلسطينية في بيروت لمدة ٨٠ يوما عام ١٩٨٢ من قبل القوات الصهيونية بقيادة ارئيل شارون والذي انتهى يوم الاول من ايلول ١٩٨٢ بخروج المقاومة الفلسطينية التام من لبنان نحو تونس واليمن والعراق والاردن وغيرها ومعها السلاح الخفيف لكل مقاتل . ويجدر القول بأن حالة المقاومة في غزة تجعلها غير قابلة لأن يحصل معها ما جرى مع المقاومة في لبنان لسببين رئيسين : الأول أن المقاومة الفلسطينية في لبنان لم تكن على أرضها ، أرض فلسطين ، وهكذا بعكس المقاومة في غزة التي توجد في وطنها الذي لا وطن لها سواه . والثاني : أن المقاومة الفلسطينية في لبنان قد خرجت من لبنان مراعاة للتوازنات التي كانت قائمة آنذاك في ذاك البلد لصالح حزب الكتائب المعادي لفلسطين ، وكذلك في ضوء التوافقات التي تمت بين دول القوة المتعددة الجنسيات التي تشكلت في حينه من الولايات المتحدة وإيطاليا وفرنسا ، وكانت فرنسا في حينه هي الدولة الأقرب إلى الجانب الفلسطيني ، وهي التوافقات التي أفضت إلى منع القوات الإسرائيلية بقيادة أرئيل شارون من تصفية الثورة الفلسطينية وقائدها ياسر عرفات مقابل إخراج الثورة الفلسطينية من لبنان . أما في غزة فالمقاومة توجد في وطنها ولن تقبل أن تخرج منه إلا الى لواء غزة المحتل عام ١٩٤٨، أي بتحقيق حق العودة لمجتمع غزة الذي جل سكانه هم من لاجئي عام ١٩٤٨، عوضا عن ذلك فإن المقاومة في غزة لا زالت  كما يتبين بعد بدء الاجتياح البري في الأسبوع الرابع من الحرب تتمتع بالقدرة على مباغتة الجيش الإسرائيلي وتلحق به الخسائر، كما تتمتع بميزة الأرض والقتال على أرضها التي تعرفها جيدا ، ولذلك فإنها ليست في وارد أن تطلب او تقبل  مغادرة قطاع غزة للحفاظ على نفسها ولا زال شعارها المرفوع هو ” نصر أو استشهاد ” بدون خيار ثالث عداهما .  أما فيما يتعلق  بتهجير فلسطينيي غزة فتقف أمامه عقبات ليس أقلها الرفض المصري والصمود الغزي ، إلا أنه يجب الاقرار بحقيقة أن ليس لدى كل الغزيين ذات الطاقة على الاحتمال ، لذا يجد المرء فيضا من التقارير الصحفية الفلسطينية والعربية والدولية التي تتحدث عن مغادرة الشباب لقطاع غزة طوعا نحو تركيا ومنها إلى اليونان وبلدان أوروبية أخرى بشكل مؤقت قبل الحرب هربا من شظف العيش مع الإعراب عن الرغبة في العودة إلى القطاع بعد تحسين الحال المادي ، وهذه ظاهرة مرشحة للاستمرار كجزء من ظاهرة الهجرة العالمية التي لا تنفي إصرار الغالبية العظمى من الغزيين على البقاء في وطنهم في مواجهة مشاريع التهجير، ورغبة المهاجرين أيضا بالعودة الى الوطن بعد حين  . كما يجب الاقرار أن الاصرار الاسرائيلي لا زال قائما على تنفيذ خطة الترحيل هذه رغم رفض مصر ، وحسبما ورد في وثيقة وزارة الاستخبارات الإسرائيلية سابقة الذكر فإن مصر ” ملزمة من ناحية القانون الدولي بالسماح بمرور السكان” (وثيقة وزارة الاستخبارات الإسرائيلية، اكتوبر ٢٠٢٣ ).

كانت تجربة حصار المقاومة في بيروت جزءا من الحرب التي أطلقت عليها اسرائيل في حينه إسم ” حرب سلامة الجليل “. تنطوي اهداف ومسيرة  تلك الحرب على ثلاثة تشابهات مع حرب تشرين على غزة يسعى الحلف الصهيو- أمريكي لتحقيقها في غزة ، الاولى  تتعلق بإبعاد المقاتلين الفلسطينيين عن المستعمرات الصهيونية في شمال اسرائيل لمدى أربعين كيلومترا كما طرح كهدف لحرب ١٩٨٢ ، وهو هدف يتم استحضاره  في سياق الحرب على غزة من زاوية انشاء شريط أمني في شمال القطاع وعلى الحدود ولكن ضمن عملية سيطرة كاملة على كل قطاع غزة.   والثانية : التشابه في مجال القضاء على المقاومة وإن كان بطرائق مختلفة ، حيث تم ذلك في لبنان بإخراجها منه ، فيما يطرح تصفيتها فيزيائيا في قطاع غزة، وربما إخراجها من غزة وهو أمر لا تستبعده أمريكا ولكن المقاومة لا زالت تستبعده . والثالثة : تفادي توسيع الحرب لجبهات اخرى ، حيث أجرى المبعوث الامريكي في لبنان فيليب حبيب عام ١٩٨٢ محاولات مستميتة للحيلولة دون انضمام سورية الى الحرب مع الثورة الفلسطينية في لبنان ، وفي حرب تشرين ٢٠٢٣ تجري محاولات امريكية مستميتة للحيلولة دون مشاركة أوسع لحزب الله وإيران وسوريا والعراق واليمن فيها .

وعودة للموصل ، فعلى طريق ما حصل فيها ، بل وبما يتجاوزه فقد جرى تدمير جزئي ل ١٦٥- ١٨٠ ألف مبنى في غزة خلال الأيام الثمانية عشرة الاولى للحرب ، منها ٢٠ الف مبنى دمرت بشكل كامل ، وحتى اليوم التاسع عشر كان ثلث مدينة غزة قد سوي تماما بالأرض. تعني هذه الأرقام أنه إذا ما استمر القصف الجوي على نفس الوتيرة لمدة شهرين او اكثر قليلا فإن غالبية مباني غزة ستكون قد سويت بالأرض، وقتل قسم من الغزيين ولكن ستبقى غالبيتهم وهو الاهم .

مشكلة هذه الأفكار والممارسات الصهيوامريكية أنها ليست جديدة ، وجربت في الماضي وفشلت . حيث سبق أن تم إحداث دمار واسع في قطاع غزة بشكل واسع في حرب عام ١٩٥٦، وكذلك أثناء ” تصفية” المقاومة في غزة بين ١٩٦٨- ١٩٧٢، وفي الحروب المتسلسلة على غزة منذ عام ٢٠٠٦ وحتى اليوم ، صحيح أن التدمير هذه المرة أوسع وأشمل ، ولكن الفلسطينيين الغزيين باقون ورافضون للهجرة والرحيل ، كما ليس بالضرورة أن ينجح الاسرائيليون في إعادة احتلال قطاع غزة كاملا ، وان حصل مع ذلك ونجحوا في الاحتلال الكامل ، وإذا أقاموا شريطا حدوديا فاصلا كسابقه بين غزة وإسرائيل فإنه سيتحطم مجددا كما تحطم سابقا عام ٢٠٠٥، وإذا ما تم إنشاء كتلة مستعمرات كتلك التي اضطر الاحتلال لاخلائها عام ٢٠٠٥، فإنها ستخلى مجددا ، كما لن يقبل أي غزي أن يدير ادارة انتقالية لغزة في ظل الاحتلال كما اقترح معهد واشنطن ( Washington Institute , 2023) ، ولن يقبل العرب ادارة غزة بالنيابة عن اسرائيل.

يلعب المستعمرون إذن على زيادة الوقت المستقطع المتاح لهم ويعدون الخطط لإطالة سيطرتهم ، ولكن ليس كل ما يخططونه قابل للتطبيق إذ توجد دائما عوامل أخرى لا يستطيعون التحكم بها. ولذلك لم يكن صدفة أن طرح الرئيس فلاديمير بوتين يوم ١٣ تشرين أول اثناء زيارة له لبشكيك عاصمة قيرغيزستان بأن الحرب على غزة ستكون مثل الحرب على لينينغراد إبان الحرب العالمية الثانية والتي انتهت بانتصار الروس رغم الحصار، وهذا ما ينقلنا للانتقال من صيغ الابادة والترحيل إلى صيغ تحقيق الانتصار الفلسطيني  ، وذلك كما يتبين في القسم التالي :

غزة : لينينغراد وأبعد

هنالك تشابه بين حصار لينينغراد ( سانت بطرسبورغ اليوم )،  في الحرب العالمية الثانية من قبل القوات النازية وبين حصار غزة خلال حرب تشرين أول ٢٠٢٣، ولكن هنالك أيضا فوارق كبيرة . كما هنالك تشابه وفوارق بين فك الحصار عن لينينغراد وفكه القادم عن غزة.

حاصرت القوات النازية مدينة لينينغراد لمدة ٨٧٢ يوما بدأت يوم ٨ أيلول ١٩٤١ ، وانكسر الحصار بشكل كامل يوم ٢٧ كانون ثاني من عام ١٩٤٤، بعد أكثر من سنة من تمكن السوفييت من فتح معبر بري نحو المدينة في ١٨ كانون ثاني من عام ١٩٤٣. خلال فترة الحصار قطع النازيون التموين بشكل كامل عن المدينة ، ودمروا بالطائرات مخازن الغذاء والوقود التي كانت موجودة داخلها ، وبات المواطنون يموتون من المجاعة ، بحيث اضطرت سلطات المدينة الى إخلاء نصف مليون شخص من المدينة عبر بحيرة لادوغا  التي مثلت المنفذ الوحيد الذي كان قد بقي متاحا للصلة مع بقية روسيا في مطلع عام ١٩٤٢ ، وتوفي وقتل في الحصار على المدينة بين ٨٠٠ ألف إلى مليون شخص ، وفي النهاية تمكن الجيش الأحمر السوفييتي من شق معبر بري نحو المدينة في بداية عام ١٩٤٣ وبدأ الهجوم السوفييتي  المضاد لتحريرها والذي دام لما يزيد عن عام، لحقته معركة ستالينغراد التي دامت مائتي يوم تم إلحاق الهزيمة فيها بالنازيين ، وتلاها زحف الجيش الأحمر نحو برلين. وقد تصور هتلر بأن احتلال لينينغراد سيكون سهلا ، وحضر لإحتفال النصر باقتحامها قبل حصوله حيث كان يفكر في تحويلها إلى عاصمة لإحدى المقاطعات الالمانية وطرح هتلر ابادة سكان المدينة بشكل كامل وقرر رفض أي عرض بالاستسلام منهم مع بقائهم أحياء ، ولكن صمود المدينة وأهلها واستراتيجيات الجيش الأحمر أفشلت كل مخططاته . 

تتشابه حرب تشرين ٢٠٢٣ مع لينينغراد في موضوع الحصار المطبق ، ومنع الغذاء والماء والوقود، وكذلك في بسالة المقاومة السوفييتية والفلسطينية ، ولكن كل ما عدا ذلك متباين . فلينيغراد كان لها تواصل بري مع بقية روسيا وان فقدته مؤقتا اثناء الحصار النازي ، كما أن بحيرة لادوغا قد بقيت توفر بعضا من الصلة مع باقي روسيا أثناء الحصار البري للمدينة . أما في حالة غزة فإن الحصار قد جاء كاملا ، وليس من منفذ بري لخرقه إلا نحو فلسطين المحتلة عام ١٩٤٨ برا ( عبر السياج المحيط بغزة )، وبحرا ( عبر البحر الأبيض المتوسط )، أو نحو البلد العربي المجاور مصر . بهذا الاتجاه إجتاح الغزيون الحدود  مع فلسطين المحتلة عام ١٩٤٨ برا وبحرا يوم ٧ تشرين أول قبل أن تعيدهم القوة الغاشمة على قطاع غزة ، حيث أطبقت الحصار عليهم بشكل كامل برا وبحرا ، ولم يبق سوى الطريق مع مصر وهنا تم إغلاق معبر رفح الذي قصفت الطائرات الإسرائيلية الجانب الفلسطيني منه واشترطت بموافقة امريكية إدخال المساعدات إلى جنوب غزة وحسب بدون شماله على أن لا تشمل المساعدات الوقود ، وأن تقوم اسرائيل بتفتيش الشاحنات في معبر العوجا ( كرم أبو سالم )، قبل دخولها الى جنوب قطاع غزة عبر معبر رفح لتسلم للأونروا للقيام بتوزيعها على المحتاجين . وتم حصر المساعدات بعدد من الشاحنات يقل كثيرا عن حاجة القطاع . ووفق هذه الترتيبات ارادت إسرائيل ليس فقط فرض الحصار بل التحكم به من أجل إجبار فلسطينيي شمال قطاع غزة للانتقال الى جنوبه من أجل تلقي المساعدات ، وضمان عدم وصول المساعدات أيضا لأفراد قوى المقاومة ” لكي يموتوا جوعا وعطشا داخل الأنفاق ” كما قيل من قبل القيادات العسكرية الإسرائيلية .

هنالك فارق آخر يستدعي التأمل يتعلق بقيام الجيش الأحمر السوفييتي بفك الحصار ، وهو أمر غير متاح لغزة ضمن الظروف القائمة ، إلا إذا تمكن المقاومون من فك الحصار بأنفسهم بعد تدمير أكبر عدد من دبابات الاحتلال وايقاع قدر معين من الخسائر البشرية في صفوفه مما يجبره على الاندحار وهو أمر ممكن ، تساعد عليه الضغوط الدولية التي ستتزايد  لوقف الحرب جراء الجرائم التي يرتكبها الاحتلال بحق أهل غزة ، وكذلك جراء الخوف من توسع الحرب الى حرب اقليمية واسعة قد تزعزع ايضا أركان بعض الانظمة العربية الموالية للغرب ، وتهدد القواعد العسكرية الأمريكية المنتشرة في المنطقة . كل هذه العوامل تجعل حرب تشرين حربا محدودة الزمن لن تستطيع إسرائيل تحقيق كل ما اعلنته من أهداف بشأنها .

فارق آخر يتعلق بالفتحة في الحصار التي توفرت للينينغراد عبر بحيرة لادوغا ، فهذه لم تتوفر لغزة ، سوى في الحروب السابقة عليها حتى عام ٢٠١٤ حيث كان هناك انفاق تربط بين غزة وسيناء ، وكان يتم إدخال كل احتياجات القطاع من خلالها . بعد عام ٢٠١٤ تم اغلاق هذه الأنفاق كافة ، ولم يتبق للقطاع أية فتحة تمثل مهربا من الحصار المطبق .

تثير هذه النقطة الأخيرة الفارق الهام الأخير بين حصار لينينغراد وحصار غزة ، فحصار الاولى دام ٨٧٢ يوما وحسب ، أما حصار قطاع غزة ، فقد بدأت بروفته الاولى في ٢٣ تشرين أول أكتوبر من عام ١٩٩٠ حين فرض اغلاق على القطاع ومنعت الحركة بينه وبين الضفة واسرائيل لمدة اربعة أيام تلاها العمل  بنظام دخول الغزيين الى إسرائيل من خلال تصاريح تمنح لمن ليس لديهم ” ملفات أمنية ” ( القيمري ، ١٩٩١). حينها بوشر بالحصار الجزئي لقطاع غزة ، وهو ما تعمق أكثر منذ عام ١٩٩٣، وشهد بعد ذلك سنوات من الإغلاق التام ، واخرى من الاغلاق الجزئي ، وفي كلتا الحالتين فصل القطاع بشكل كامل عن الضفة الفلسطينية ، وتعزز الفصل بخطوة آرييل شارون لفك الارتباط مع قطاع غزة عام ٢٠٠٥ حيث انسحب الجيش الإسرائيلي منها وفككت المستوطنات الإسرائيلية من داخلها مع الحفاظ على السيطرة الاسرائيلية الكاملة على حدودها البرية والبحرية والجوية والتحكم التام بكل ما يدخل إليها ويخرج منها ، مما حولها إلى معسكر اعتقال كبير لسكانها.

ادعت إسرائيل في حينه بأن فك الارتباط مع غزة قد أخلى مسؤوليتها تجاه القطاع ، وأنهى احتلالها له ، ولكن الحصار الشامل الذي فرض على القطاع من قبل إسرائيل برا وبحرا وجوا قد جعل الحياة في القطاع على حافة الهاوية ، إذ لم تكتف اسرائيل بالتحكم بالمعابر ، بل واحتفظت بتحكمها بسجل السكان ، وحركة الأفراد والبضائع ، والمراقبة  لما يدور داخل القطاع على مدار الساعة عبر وسائل المراقبة المختلفة ، وجباية الجمارك والقيمة المضافة على البضائع التي تدخل إلى غزة ، والاحتفاظ بحريتها في الدخول عسكريا الى غزة وقصفها من البحر والجو تحت شعار مكافحة الإرهاب ، وبسيطرتها على تزويد القطاع بالماء والكهرباء والوقود ، وفرضها لمنطقة عازلة محاذية للحدود الاسرائيلية مع قطاع غزة، وتحديدها لمساحة الصيد البحري المسموحة لصيادي غزة ( غيشا ، ٢٠١١). عوضا عن ذلك كله تدخلت إسرائيل بعد فك الارتباط مع غزة عام ٢٠٠٥ بترتيب وضع الحدود بين قطاع غزة ومصر ، والذي كان يفترض أن يكون ترتيبها شأنا فلسطينيا مصريا خالصا لو صدقت إدعاءات إسرائيل بأنها أنهت احتلالها للقطاع . وجاء هذا التدخل من خلال توقيع اتفاقية المعابر المسماة ب ” اتفاقية حرية التنقل وحرية الوصول ” مع مصر والسلطة الوطنية الفلسطينية برعاية امريكية يوم ٥ تشرين ثاني من عام ٢٠٠٥، ومن خلال هذه الاتفاقية احتفظت اسرائيل لنفسها بحق إغلاق وفتح المعبر ، ومراقبة المارين منه وتحديد من يسمح ومن يمنع من المرور عبره ، ولا زالت تحتفظ بهذه ” الحقوق ” حتى اليوم ، وذلك رغم إخلالها ببنود أخرى وردت في ذات الاتفاقية تتضمن إنشاء مطار ومرفأ بحري في غزة ، وهي بنود وردت أيضا في اتفاقية أوسلو ٢ لعام ١٩٩٥، ولم تلتزم اسرائيل بتنفيذها سوى لسنوات قليلة في تسعينيات القرن الماضي حيث تم تشغيل المطار حتى تم قصفه وإخراجه عن الخدمة في بداية الانتفاضة الثانية عام ٢٠٠٠ . أما المرفأ البحري فلم يستكمل وتوقف العمل في استكماله عام ١٩٩٨. وفي عام ٢٠٠٥ اعادت اسرائيل التزامها بالمطار والمرفأ البحري ولم تطبق ذلك. كل ذلك جعل الحصار على غزة مطبقا برا وبحرا إضافة لاستباحتها الكاملة جوا . بدأ ذلك تدريجيا منذ عام ١٩٩٠ واستمر حتى اليوم بما يجعله يتجاوز الحصار المحدود الذي تم لمدينة لينينغراد والذي فرض أثناء الحرب عليها وحسب .

نكبة جديدة ، انتصار ، أم بروفة للتحرير ؟

بعكس لينينغراد التي خاضت حربا واحدة ضد الحصار الذي فرض عليها لمرة واحدة ، فإن قطاع غزة قد خاض حروبا متعددة ضد حصار بدء فرضه عليه منذ تسعينيات القرن الماضي ، وأصبح شاملا بعد فك الارتباط عام ٢٠٠٥ . وتمت هذه الحروب على مرحلتين : الأولى من ٢٠٠٦ إلى ٢٠١٤ حيث تركزت على مسائل رفع الحصار عن غزة . والثانية حروب ٢٠٢١- ٢٠٢٣ التي طرح فيها برنامج لتحرير فلسطين ككل مع وضع القدس في مركز ذلك . كان لا بد لربط قضية غزة بالقضية الوطنية الشاملة أن يحدث ، نظرا لأن الاستراتيجية  الصهيونية لفلسطين هي نظرة واحدة تتلخص بكلمتين : الاقتلاع والإحلال ، وفي سياق تحقيق ذلك يتم تشظية فلسطين إلى أجزاء يجري التعامل معها بأشكال مختلفة من أجل تسهيل الاقتلاع والإحلال ، فلا عودة للاجئين والنازحين ، فيما تجري أفعال لخلق حالات لجوء جديدة : فغزة تحاصر وتحول إلى سجن كبير من أجل تفريغها واجبار فلسطينييها على الرحيل ، والضفة تزرع بالمستعمرات ويسيطر بشكل كامل على ثلثي مساحتها لصالح تلك المستعمرات ، ويتم تفريغ هذه المساحة من التجمعات السكنية الفلسطينية القائمة فيها فيما تحال الخدمات المدنية فيها إلى سلطة وطنية فلسطينية في الثلث المتبقي إلى حين، والقدس الشرقية تضم منذ عام ١٩٦٧، فيما يتم التذكير المستمر لفلسطينيي ١٩٤٨ بأن وجودهم مؤقت في البلاد التي هي ” أرض إسرائيل ” التي تعود حصريا الى ” شعب إسرائيل ” كما ورد في قانون القومية عام ٢٠١٨، والذي يمثل استمرارا لتصريح بلفور لعام ١٩١٧. من هنا جاءت هبات الضفة والقدس التي شارك بها فلسطينيو الداخل لأعوام ٢٠١٤، ٢٠١٥، ٢٠١٦، ٢٠١٧، ٢٠١٩، ٢٠٢١، و ٢٠٢٢ ووجهت آخرها بعملية ” كاسر الأمواج ” العسكرية الإسرائيلية التي انطلقت في آذار من عام ٢٠٢٢ ولا زالت مستمرة على شكل اقتحامات شبه يومية لمدن الضفة سيما في شمالها . وإذ كانت القدس في مركز كل هذه الهبات فقد حفزت معركة ” سيف القدس ” عام ٢٠٢١، و معركتي ٢٠٢٢ اللتين خاضتهما حركة الجهاد الإسلامي من غزة ، كما حفزت العودة للعمل الفدائي في جنين ونابلس وطولكرم . واخيرا جاءت معركة “طوفان الاقصى” في تشرين الاول تتويجا لكل ما سبق ، مع دور أساسي لغزة فيها ومشاركة من الضفة ومن ساحات المقاومة في لبنان وسورية والعراق واليمن . 

حصلت الحرب الفعلية  يوم ٧ تشرين أول / أكتوبر ، وبعده هي أيام ذبح اسرائيل  للمدنيين من خلال القصف الجوي والبحري والبري حتى يوم ٢٨ تشرين أول الذي بدأت فيه ما تسمى ب ” المناورة البرية ” الاسرائيلية في قطاع غزة ، ومنذ ذلك اليوم لم تنته أعمال الذبح للمدنيين الفلسطينيين بل تزايدت وحصلت مذابح في مخيمات جباليا والشاطئ والبريج والنصيرات والمغازي وفي أحياء مختلفة من قطاع غزة ، جنبا إلى جنب مع الاشتباك مع المقاومين الذين يظهرون لجيش الاحتلال على حين غرة من الأنفاق ومن المساكن والعمارات المدمرة .

بعد أربعة أسابيع من الحرب، فهي مفتوحة على نكبة جديدة ، أو انتصار فلسطيني ، أو أن تكون بروفة للتحرير القادم . الخيار الاول صعب الحدوث ، فخيار التهجير أغلقته مصر ، والأهم أن أهل غزة ذاتهم قد أغلقوه برفض عشرات الآلاف منهم الرحيل من شمال القطاع الى جنوبه كما طلب الاحتلال فيما رحل حوالي مليون نسمة من الشمال الى الجنوب كما تفيد التقارير الصحفية ، وهنالك عدد ممن غادروا الى الجنوب من الشمال قد عادوا الى بيوتهم في الشمال بعد أن اكتشفوا بأن الجنوب غير آمن وأنه يقصف باستمرار وأن الاحتلال يكذب بشأن كونه منطقة آمنة . لقد كان لنكبة عام ١٩٤٨ ظروفها ومعطياتها الفلسطينية والعربية والدولية ، وهذه لم تعد متاحة . وكان عام ١٩٦٧ آخر مرة توسعت فيها إسرائيل ثم بدأت بالانكفاء  بدءا من سيناء عام ١٩٨٢، وجنوب لبنان عام ٢٠٠٠، وغزة عام ٢٠٠٥ كما بين الباحث في مكان آخر ( سالم ، ٢٠٢١)،  وفي السنتين الأخيرتين اصبحت اسرائيل في وضع مضطرب داخليا ، مما يشجع على مقاومتها لا على الهروب من أمام جيشها . واخيرا بين يوم ٧ أكتوبر فشل اسطورة الجيش الذي لا يقهر، مما يجعل اسرائيل على عتبة انكفاء جديد يضاف للانكفاءات السابقة ، لا على عتبة تحقيق نكبة جديدة للشعب الفلسطيني.

إذ تدرك إسرائيل ما تقدم ، فقد صرح نتنياهو في مؤتمره الصحفي يوم ٢٨ تشرين أول أن إسرائيل تخوض حرب تشرين ٢٠٢٣ على أنها “حرب الاستقلال الثانية ” كما قال مما يعكس قلقا وجوديا كان قد عبر عنه عام ٢٠١٨ حين تمنى بأن تتمكن اسرائيل أن تتجاوز لعنة العقد الثامن ، حيث انتهت ممالكها السابقة مثل مملكة الحشمونائيم قبل انهاء هذا العقد ( نتنياهو ٢٠١٨)  ولهذا فإن حرب تشرين هي حرب اصحاب الارادة الراسخة بالحفاظ على أرضهم ووطنهم ، وأصحاب الارادة المهتزة والثقة الضعيفة بالمستقبل . ولهذا يسعى نتنياهو وحكومته على أمرين : الأول الحيلولة دون حصول انكفاء جغرافي جديد يضاف الى الانكفاءات السابقة ، سيما وأن الانكفاء الجديد سيكون مختلفا هذه المرة عن سابقاته إذ سيشمل أجزاء من “أرض إسرائيل”  لعام ١٩٤٨ وسيعبر عن نفسه برفض مستوطني غلاف غزة وربما شمال اسرائيل العودة إلى مستوطناتهم . وثانيا : السعي للعودة عن انكفاءات سابقة ، مثل العودة عن فك الارتباط مع قطاع غزة والذي عارضه بنيامين نتناياهو عندما تقرر عام ٢٠٠٥، ويجد اليوم فرصته للعودة إلى احتلال القطاع وتنفيذ سياساته فيه مع ما يجده من دعم أمريكي وغربي رسمي من الدول المركزية في اوروبا.

لما تقدم يحاول الصهاينة تعزيز امكانية النكبة الثانية عبر استخدام عدة وسائل ، أولها الاستمرار في تسوية غزة بالأرض من خلال القصف الجوي ، وثانيها الاستناد الى الدعم الأمريكي ، والثالثة الاستمرار في الضغط بشكل مشترك مع الولايات المتحدة على مصر لقبول هجرة الغزيين إليها مقابل شطب ديونها ، مع محاولة الترويج الى أن هذه الهجرة ستكون مؤقتة الى حين التخلص من حماس ، بينما تشير التجربة الفلسطينية التاريخية أن طرحا كهذا ليس سوى خدعة حيث أن ما كان يطرح كمؤقت يصبح دائما وثابتا . والرابعة عبر الاستمرار في العمل مع دول أخرى لاستقبال الغزيين كتركيا واسكتلندا كما ورد . والخامسة : عبر محاولة ترحيل مقاتلي المقاومة في غزة الى دول أخرى كما جرى مع مقاتلي الثورة الفلسطينية في بيروت عام ١٩٨٢ كما ورد . والسادسة : عبر تقسيط الحرب على غزة بوقفها مؤقتا بعد السيطرة على أجزاء واسعة من غزة،  ثم اعادة شن هجمات بين الفترة والاخرى بالتقسيط من أجل إنهاك المقاومة الى درجة يصبح معها الدخول الى غزة عسكريا كل يوم متاحا ، ويمكن تسمية ذلك بتحويل غزة الى وضع مشابه لجنين التي تنتهك بشكل يومي كل ليلة تقريبا. كما أن ذلك يستعيد تجربة اجتثاث المقاومة في غزة بعد احتلال عام ١٩٦٧،  والتي استمرت من عام ١٩٦٨ وحتى عام ١٩٧٢، ويبدو أن هذا الخيار هو ما كان بذهن عضو مجلس الحرب بيني غانتس عندما قال ان الحرب على المقاومة في غزة ستحتاج إلى سنوات . الفكرة هنا هي تحويل غزة الى منطقة مستباحة  ارضا وشعبا القانون الدولي والإنساني فيها معلق كما وصف أغامبين (  Agamben, 1996).. وسابعها : تجزئة الحرب على المقاومة بتركيزها على شمال القطاع بعد فصله عن جنوبه وتأجيل الجنوب الى مرحلة لاحقة.

وثامنا واخيرا قد ينتقل الحلف الصهيو – أمريكي في لحظة ما إلى الألاعيب السياسية عبر صيغ للحل السياسي ، تقضي بإقامة دولة فلسطينية منزوعة السلاح على جزء من غزة ، مع إبقاء شريط حدودي تسيطر عليه إسرائيل ، وقد تحاول إغواء فلسطينيين للموافقة على صيغة كهذه ، مما يعيد الفلسطينيين إلى موضع مناقشة التفاصيل ثم تفاصيل التفاصيل في جولات مفاوضات لا نهاية لها ، يعود فيها الاسرائيلي الى التنصل من الاتفاقات والقول بعدم وجود نصوص مقدسة ، أو طرح عودة السلطة الفلسطينية الى غزة ، أو تشكيل ادارة انتقالية فيها وهكذا، وستتم العودة الى هذه الأفكار أدناه .

يمنع خيار النكبة الثانية الارادة الفلسطينية العصية على الانكسار، وهو ما يتعززباضطراد يوما بعد يوم . ولكن يبقى بالمقابل إمكانية إلحاق هزيمة مؤقتة جديدة بالشعب الفلسطيني تطيل الوقت المستقطع لبقاء سيطرة المستعمر ، سواء عبر الاستمرار في استخدام التفوق في سلاح الجو وإطالة أمد الحرب، أو أكثر بوسائل غير عسكرية عبر تحقيق توافقات مع دول أخرى في العالم لترحيل جزء من فلسطينيي القطاع ، و / أو تقسيمه من جديد وانشاء شريط أمني على الحدود مع إسرائيل بذريعة حماية أمن اسرائيل وتوفير الطمأنينة لمستوطني غلاف غزة للعودة إلى مستوطناتهم . في التاريخ الفلسطيني كانت الجبهة السياسية هي الحلقة الأضعف حيث تتحول فيها الانتصارات العسكرية الفلسطينية إلى تسويات سياسية على حساب الشعب الفلسطيني بسبب موازين القوى والمواقف العربية والدولية ، وهو الأمر الذي بات محظورا أن يتم هذه المرة بعد أن لدغ الشعب الفلسطيني في الماضي مرات وليس مجرد مرة واحدة .

كما لا يبدو خيار النكبة الثانية ممكنا إلا بخدعة سياسية ، فإن خيار النصر الفلسطيني التام غير مقيض لهذه الجولة بعد ، فلا الضفة قد اشتد عود المقاومة فيها بشكل كاف ولم تجد هي وفلسطينيي ٤٨ نموذجيهما القادرين على جعل الاحتلال مكلفا ، ولا وحدة الساحات قد تحققت بطريقة تشن فيها حرب شاملة تنطلق في نفس الوقت من كل الساحات المجاورة والقريبة من فلسطين وسورية والعراق ولبنان والأردن ومصر واليمن وغيرها ضد إسرائيل وبدعم من كل العالمين العربي والإسلامي.  المقصود هنا شروط تحقيق انتصار مادي ينجز التحرير ، وليس فقط نصر معنوي ، كما هو حال  انتصارات المقاومة السابقة على الاحتلال ، حيث كان معنى النصر مرتبطا بعدم قدرة الاحتلال على إيقاع الهزيمة بالمقاومة ، وبقاء قدرتها العسكرية قائمة بما في ذلك قدرتها على اطلاق الصواريخ وإيقاع الاذى المادي والمعنوي بالعدو حتى الدقيقة الاخيرة من اعلان وقف اطلاق النار . 

لهذا كله تبدو حرب تشرين ٢٠٢٣ من جهة المقاومة على أنها بروفة التحرير القادم الذي سيتحقق بعد أن تتوفر شروطه المذكورة . والسؤال من باب التوقعات هنا يتعلق بتوقيت توقف الحرب ، ووفق أية معطيات وشروط ، وكذلك هنالك السؤال الآخر المتعلق بالمقصود بالتحرير وكيف يتحقق في جولة الحرب متعددة الساحات القادمة . وهذا ما يتطرق له القسم اللاحق .

نتائج حرب تشرين ، وآفاقها  

بعد أربعة أسابيع من نشوب منازلة ” طوفان الاقصى “، يمكن تقييم نتائجها وآفاقها بالقياس مع الأهداف التي  حددها كل طرف من أطراف الحرب .

بالنسبة للجانب الإسرائيلي ، فقد طرح في البداية سقفا عاليا تمثل في : ” تصفية حماس “، و ” خلق شرق أوسط جديد ” عرض نتنياهو سابقا في خطابه أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة خارطة له لا تشمل فلسطين،   ثم تواضع أكثر لتصبح أهدافه هي ” تدمير القدرات العسكرية والإدارية لحماس “،  وأضاف عليه تحت ضغط الأهالي والدول الغربية  ” إطلاق سراح الرهائن الاسرائيليين ومزدوجي الجنسية بدون قيد أو شرط ”  المحتجزين ” لدى قوى المقاومة في غزة .

سرعان ما وجد الاحتلال أن تصفية حماس ليس أمرًا ممكنا ، فهي ليست كداعش الارهابية كما صورها ، وإنما هي تنظيم سياسي وعسكري وله امتدادات مجتمعية ونشاطات خدماتية نبت من رحم المجتمع الفلسطيني ويمثل جزءا من هذا المجتمع ومن حركته الوطنية المجاهدة التي ما كانت لتنطلق سوى لمواجهة  الغزو الاستعماري الاستيطاني لفلسطين . كما إكتشف أن اليته لخلق ” شرق أوسط جديد ” عبر ترحيل الغزيين إلى سيناء ليلي ذلك القضاء على حماس في غزة تمهيدا لتطبيع شامل في المنطقة تكون إسرائيل مكونا أساسيا فيه يسيطر على غاز بحر غزة ولبنان ويتعاون مع مصر ضمن تحالف للدول المنتجة للغاز هو أمر صعب المنال حتى الآن ، حيث  اقفلت مصر الباب أمام الترحيل ، كما رفضه الفلسطينيون الغزيون الذين لا تمثل سيناء بل العودة الى لواء غزة المحتل عام ١٩٤٨ خيارهم .

بناءا على ما تقدم تواضع الاحتلال في أهدافه ، ولتحقيق هدفه في ” تدمير القوة العسكرية والإدارية لحماس “، فقد أمر سكان شمال القطاع بالنزوح الى جنوبه من أجل الاستفراد بقوى المقاومة من خلال الاجتياح البري للشمال والسيطرة على الشمال والغاز الفلسطيني وإيجاد شريط حدودي عازل فارغ من السكان يفصل مناطق غزة السكنية عن مستوطنات غلاف غزة ، ولأعادة بناء مستعمرات غوش قطيف المخلاة عام ٢٠٠٥  فيه مجددا . رحل قسم من سكان الشمال الى جنوبه وعاد بعض ممن رحلوا الى الجنوب بعد أن وجدوه غير آمن وبدون خدمات . ودخل الجيش الاسرائيلي بريا  إلى أطراف غزة، وبعد ستة أيام من هذا الدخول، اي يوم ٣ تشرين ثاني ٢٠٢٣ كان قد تكبد حسب إعلاناته ٢٥ قتيلا و ٢٦٠ جريحا في صفوف قواته ، وهو رقم كبير بحد ذاته ، رغم أن المقاومة تعلن أنه أقل بكثير من الحقيقة حيث يتم ابادة الدبابات والعربات المدرعة الاسرائيلية على من فيها . بهذا الاتجاه دخل الجيش الاسرائيلي لمسافات محدودة خالية من السكان لا يجد فيها من يقاتله ، ولكنه يجد المقاتلون يخرجون له بغتة من الأنفاق ومن المباني المهدمة موقعين به الخسائر ويختفون كما كان يفعل مقاتلو الفيتكونغ الفيتناميون في مواجهة القوات الأمريكية في القرن الماضي . لهذا كله تبدو إسرائيل غير قادرة على تدمير القدرات العسكرية للمقاومة في غزة  ، كما تبدو أطروحة ترحيل المقاومة من غزة إلى الخارج على غرار إخراج الثورة الفلسطينية من بيروت عام ١٩٨٢ كطريقة أخرى للقضاء عليها كما ورد في جريدة يديعوت أحرونوت في نهاية تشرين أول أمرًا غير ممكن حتى الان حتى لو أجمعت عليه قوى دولية عديدة وتشكلت قوات متعددة الجنسيات لتنفيذه . فليس لحماس وقوى المقاومة في غزة أن تخرج من وطنها الى خارجه بعكس ما  فعلت الثورة في بيروت حيث خرجت من بلد خارج فلسطين الى بلدان اخرى خارجه. وبنفس المنحى تبدو فكرة اقامة شريط عازل واعادة كتلة مستعمرات غوش قطيف ، على أنها اعادة إنتاج لما كان عليه الحال قبل ٢٠٠٥، حيث سيتعرض الجيش والمستوطنين في هذه الحالة مجددا لصواريخ وعمليات المقاومة مما سيضطرهم الى الهروب . مع ذلك قد يواصل الاحتلال سعيه لاقامة الشريط العازل المذكور خلال الحرب الحالية من خلال السيطرة النارية على مناطق غزة المحاذية لمستوطنات غلاف غزة بعد انتهاء الحرب، والاستمرار في مساعي الترحيل الى مصر وغيرها وايجاد توافق مع بعض دول العالم حول ذلك .

وإذا كان تدمير القدرات العسكرية للمقاومة في غاية الصعوبة رغم قطع الماء والغذاء والوقود ، فإن “تدمير القدرة الادارية”  لحماس ، أي بإخراجها من الحكم في غزة يبدو أيضا عسيرا على التحقيق طالما لم يتم الترحيل إلى خارج القطاع  . ويفتح هذا الأمر الباب واسعا أمام تحقيق الوحدة الوطنية الفلسطينية وإنشاء حكومة موحدة تحكم في كل من الضفة وغزة بدلا من استمرار الانقسام الذي اضعف كلا من ادارتي الضفة وغزة . يجدر هنا الاشارة أنه رغم الانقسام فإن السلطة الوطنية الفلسطينية حافظت على وحدة الضفة وغزة كجناحين للوطن معا ، عبر دفع الرواتب للموظفين في غزة وصرف مستحقات تزويد قطاع غزة بالكهرباء والوقود والماء وغير ذلك ، كما أن المقاومة في غزة قد وحدت كل الفصائل معا في المواجهة مع الاحتلال على قاعدة ” اللقاء على أرض المعركة “.

 في المقابل تعاملت اسرائيل مع غزة بشكل منفصل عن الضفة ، وتعزز ذلك بعد فك الارتباط عام ٢٠٠٥، وكرسه قرار إدارة ترامب الرئيس الأمريكي السابق في تشرين أول من عام ٢٠٢١ أثناء زيارة وزير خارجيته مايك بومبيو لإسرائيل آنذاك، بإعلانه وسم المنتجات الواردة الى امريكا من الضفة بعبارة ” الضفة الغربية “، وتلك الواردة من غزة بعبارة ” قطاع غزة “. ( سالم ، ٢٠٢١ ب، ص. ١٣٧). تحقيق الوحدة الوطنية سيكون كفيلا بتجاوز خطط فصل الضفة وغزة والعمل لتنفيذ مصيرين مختلفين لكل منهما . 

وفيما يتعلق ب ” تحرير الرهائن دون قيد أو شرط “، فإن إسرائيل تعني بذلك أن يتم اطلاق سراحهم بدون تبادل ، ومن خلال الضغط العسكري المستمر على قوى المقاومة في غزة ، والاستعانة بـ الجهود الاستخبارية الامريكية والمسيرات الامريكية الخاصة لكشف أماكن وجودهم وإخراجهم . هذا إضافة للتضحية بعدد منهم تحت قصف الطيران الاسرائيلي حيث قتل خمسين منهم بسبب القصف حتى نهاية الاسبوع الرابع من الحرب كما أعلنت المقاومة . وبعد اربعة أسابيع لا يبدو أن القصف الجوي والجهود الاستخبارية قادرة على إطلاق سراح الرهائن ، كما أن الوساطتين القطرية والمصرية قد جلبتا رد حماس بأن إطلاق سراح الرهائن بشكل كامل له ثمن وهو تبييض السجون الإسرائيلية من كل المعتقلين الفلسطينيين. وقدمت حماس صيغا للتبادل الكلي ، وكذلك للتبادل على مراحل لكل مرحلة ثمنها ، ولكنها اشترطت أيضا أن التبادل الكامل غير ممكن سوى بعد أن توقف اسرائيل العدوان على غزة . يعني ذلك أن اطلاق سراح الرهائن دون قيد أو شرط يبدو أمرًا مستحيل التحقق وأنه لا بد في النهاية من عملية تبادل ، أو إبقاء هذا الملف بدون حل اذا ما استمرت إسرائيل في رفض فكرة التبادل . كما يبدو التباعد التام في المواقف حيث تريد اسرائيل ان يتم اطلاق سراح الرهائن تحت القصف ، فيما تشترط حماس أن إطلاق سراح الرهائن يتم فقط بعد وقف اطلاق النار.

بناءا على عما تقدم ، فإن هدف ” تدمير قدرات حماس العسكرية والإدارية ” لا يتسق تماما مع هدف ” إطلاق سراح الرهائن “، وذلك لسببين : أولهما أن الاستمرار في العمليات العسكرية سيتسبب في قتل المزيد من الرهائن ، وثانيهما : أن إطلاق سراح الرهائن غير ممكن التحقق بدون وقف إطلاق نار مؤقت على شكل هدنة أو مجموعة هدن انسانية ، وهو ما ترفضه حماس بما يتعلق بالرهائن العسكريين الإسرائيليين بشكل خاص والذين تربط إطلاق سراحهم بتحقيق عملية تبادل شاملة للأسرى بعد وقف تام لإطلاق النار . ولهذا فإن إسرائيل تقف أمام خيارين لا ثالث لهما : فإما أن تستمر في العملية العسكرية الى ما لا نهاية مع ما يتضمنه ذلك من خسائر فادحة في صفوف القوات والتضحية بالرهائن الذين سيقتل المزيد منهم ، وإما أن توقف إطلاق النار للبدء بعد ذلك بعملية تفاوض لتبادل الاسرى . وبهذا الاتجاه بدأنا نشهد عند دخول الحرب أسبوعها الرابع تململا لدى حلفاء إسرائيل الغربيين الذين توجد لهم رهائن عند فصائل المقاومة تتعلق بالحاجة لحماية حياة هؤلاء الرهائن وايجاد وسيلة لإطلاق سراحهم ، وبدأت فرنسا مثلا تميل إلى إعلان وقف لإطلاق النار ، فيما تراوح الولايات المتحدة عند موقف الهدنة الإنسانية القصيرة التي يتم خلالها إطلاق سراح الرهائن مزدوجي الجنسية الذين ليس لدى حماس مشكلة في اطلاق سراحهم ، مع ابقاء الاسرائيليين لعملية تبادل تعقب وقف اطلاق النار . وترفض إسرائيل إطلاق سراح مزدوجي الجنسية فقط في إطار هدن إنسانية قصيرة بدون أن يشمل ذلك اطلاق سراح الاسرائيليين ذوي الجنسية الاسرائيلية المنفردة ، وهو الامر الذي يخلق بعض الفجوة بين ما تريده إسرائيل وبين ما تريده الدول الغربية لصالح مواطنيها مزدوجي الجنسية .

يزيد التململ العالمي من الحرب الإسرائيلية على غزة ليس بسبب موضوع الرهائن فقط ، بل لأسباب أخرى ذات علاقة بالمجازر اليومية التي ترتكبها إسرائيل بحق المدنيين في ظل عجزها عن تدمير القدرات العسكرية للمقاومة ،  ويأس داعمي إسرائيل من قدرتها على تحقيق أهدافها من الحرب ، والمظاهرات التي تجتاح العالم ضد إسرائيل ، والخوف من تدحرج عملية قطع العلاقات وسحب السفراء او دعوتهم للتشاور من اسرائيل كما فعلت كولومبيا وبوليفيا وتشيلي وفنزويلا وهندوراس والأردن والبحرين وتركيا وجنوب افريقيا ، ومواقف الصين وروسيا وغالبية دول العالم المساندة لفلسطين ، والخوف من التدحرج إلى حرب متعددة الساحات والقلق من تعرض المصالح والقواعد العسكرية الأمريكية في المنطقة إلى الخطر . ذلك كله رغم أن الحرب على غزة قد شنت كحرب دولية عليها شاركت فيها ودعمتها بدون قيد أو شرط الولايات المتحدة ودول اوروبية عديدة تقاطر زعماؤها على زيارة إسرائيل خلال الأسبوع الأول للحرب.

لهذا كله يبدو أن الفسحة الزمنية المتاحة لإسرائيل من قبل حلفائها لحربها على غزة تقارب على الانتهاء خلال أسابيع وليس أشهر ، وذلك بدون أن تتمكن إسرائيل من تحقيق أهدافها من هذه الحرب . فماذا سيأتي بعد ؟ . قبل الاجابة يجدر تحليل وتقييم أهداف المقاومة لهذه الحرب .

كما جاءت على لسان إسماعيل هنية رئيس المكتب السياسي لحركة حماس يوم ٢ تشرين الثاني ، فإن أهداف الحرب هي التالية : وقف العدوان،  وفتح المعابر ، وحل مشكلة الأسرى ، واقامة دولة فلسطينية على حدود عام ١٩٦٧. الهدفان الأول أي وقف العدوان وفتح المعابر يبدو أنهما سيتحققان بعد وقف الحرب كما يتبين من التحليل أعلاه ، وإن كان الثاني سيتحقق بشكل جزئي بدون أن يؤدي الى رفع الحصار المفروض على غزة بشكل شامل . أما هدف تبادل الأسرى فقد يتحقق بعد أن يأخذ شهورا أو سنوات سيما إذا استمرت الحكومة الإسرائيلية الحالية واللاحقة التي ستأتي بعد الحرب في تعنتهما بشأن استمرار الحصار على غزة وقضية التبييض الشامل للسجون، هذا الا اذا تمكنت القوات الصهيونية وبمساعدة المسيرات الامريكية الخاصة بالبحث عن الاسرى والتي أعلن عن وجودها في سماء غزة من ايجاد طريقة عسكرية لإخراج الرهائن ، وهو ما لم يتحقق حتى الآن ، وقد لا يتحقق . أما الهدف الرابع  فيبدو أنه لن يتحقق من الحرب الحالية وسيؤجل الى حرب تالية .

وإذ قد يتحقق وقف العدوان بدون انجاز الاهداف الاسرائيلية التي لا زالت الاخيرة تصر عليها وعلى استمرار القتال ورفض أي وقف لإطلاق النار بشكل شامل ولا حتى مؤقت . ولكن أذا ما توقف العدوان قبل أن تحقق اسرائيل كل أهدافها، فإن الامور لن تعود الى سابق عهدها قبل الحرب ، حيث ستظل اسرائيل متأثرة بالهزة التي حصلت للمجتمع الإسرائيلي نتيجة لنقل المعركة يوم ٧ تشرين أول لأول مرة ألى أرضها ، وانهيار عقيدة الأمن الاسرائيلي بشكل كامل، واكتشاف الاسرائيليين بأن إسرائيل التي اقيمت لكي تكون ” الملاذ الآمن ” لليهود هي المكان الأقل أمنا لهم على  مستوى العالم بأسره ، حيث لم يكن هنالك بقعة او منطقة منها لم تتعرض للقصف خلال هذه الحرب ، غالبيتها قصفت من غزة ، فيما قصفت الأخريات كنهاريا وصفد من لبنان وايلات من اليمن. كما تم إخلاء سكان ٥٨ مستعمرة من غلاف غزة و ٤٣ مستعمرة قائمة بجوار الحدود مع لبنان ، وذلك كما أحصى الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله في خطابه يوم الجمعة ٣ تشرين ثاني . وفي ظل عدم تحقيق إسرائيل لأهدافها في تدمير القدرات العسكرية لكل من قوى المقاومة في غزة وحزب الله فإنه سيكون صعبا في هذه الحالة على قسم كبير من سكان هذه المستوطنات أن يعودوا إليها . كما أن حقيقة أن إسرائيل لم تعد مكانا آمنا لليهود ستعزز الهجرة من إسرائيل إلى خارجها ، كما ستقل معدلات هجرة يهود العالم في إسرائيل . وعلى المستوى القصير المدى ستشهد إسرائيل أيضا لجنة تحقيق في الاخفاقات التي أدت للحرب ، وستتم استقالة واقالة رؤوس كبيرة وربما يجد بعضهم مكانه وراء القضبان وفي المقدمة رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو. هذا كله في حال وقف العدوان قبل أن تحقق اسرائيل اهدافها او بعضا منها على الاقل مثل النزول عن هدف ” تدمير القدرات العسكرية والادارية لحماس ” الى هدف اقل يتعلق بالوصول الى يحيى السنوار ومحمد الضيف ومروان عيسى وتصفيتهم  كما صار يروج بعد الأسبوع الرابع من الحرب .  

وعلى مستوى داعمي إسرائيل سيتعرض وضع الرئيس جو بايدن للاهتزاز داخل الحزب الديموقراطي الأمريكي وبين صفوف الشباب مما قد يجعل الحزب يفقد تصويت عدد من الولايات في الانتخابات الرئاسية القادمة مما سيؤدي الى هزيمته في انتخابات الرئاسة ، وكذلك وضع رئيس الوزراء البريطاني ريشي سوناك الذي واجه معارضة شعبية واسعة لسياساته . وعلى مستوى الأمم المتحدة ستتعزز الأصوات والجهود التي تسعى لإيجاد معايير متساوية لإنفاذ حقوق الانسان والقانون الانساني الدولي في حالة الحروب ، بحيث لا يكون هنالك مجددا ازدواجية في المعايير بين تطبيقها في حالة أوكرانيا وتطبيقها في حالة إسرائيل ، وبحيث تتم المحاسبة على قطع المياه والغذاء والوقود باعتبارها جرائم حرب وفق القانون الدولي الإنساني وهي جرائم ستحقق فيها المحكمة الجنائية الدولية ، إضافة للجرائم والمجازر التي انتهكت بحق المدنيين في غزة خلال الحرب ، وقد زار مدعي المحكمة الجنائية الدولية معبر رفح وحاول الدخول الى قطاع غزة في نهاية تشرين أول ولم ينجح ، ولكن التحقيقات ستتلو . كما بدأ العالم الداعم بالتحرك من خلال قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة يوم ٢٧ تشرين أول والذي دعى إلى ” هدنة انسانية فورية دائمة ومستدامة تفضي الى وقف الاعمال العدائية ، وتوفير السلع والخدمات الاساسية في شتى أنحاء قطاع غزة فورا وبدون عوائق” كما ورد حرفيا في نص القرار المنشور على الصفحة الإلكترونية للأمم المتحدة .  

ملاحظات استشرافية

وضع الأمريكان والإسرائيليون خططهم لليوم التالي للحرب على غزة وكأن امر القضاء على حماس او قدراتها العسكرية هو أمر مفروغ منه وكأن فصل غزة عن بقية الأراضي الفلسطينية المحتلة عام ١٩٦٧ هو أمر محسوم في تصرف يتناقض مع القرارات الدولية بشأن فلسطين والتي تعتبر الأراضي الفلسطينية المحتلة عام ١٩٦٧ وحدة واحدة لا تتجزأ ، كما أنه حتى يتناقض مع اتفاق أوسلو الذي بدأت مرحلته الاولى ب ” غزة واريحا أولًا ” عام ١٩٩٤.  بذلك فعل الأمريكان والاسرائيليون  أيضا كما فعل هتلر الذي أعد للاحتفال بالسيطرة على لينينغراد بمجرد بدء حصار قواته لها ولم يتحقق له ذلك بل حصل العكس . وكما تبين أعلاه لن يتحقق هدف القضاء على حماس كلية ، وغالبا لن يتم ترحيل مقاتليها إلى الخارج كما حصل مع قوات الثورة الفلسطينية في بيروت عام ١٩٨٢ ، وستبقى المقاومة في غزة تهديدا  لإسرائيل حتى ولو وجهت لها ضربة مؤقتا . هذا كله إلا إذا تحققت المساعي الامريكية لترحيل الغزيين ” بشكل مؤقت ” كما يدعى إلى سيناء، حيث حينها ستعود المقاومة للانطلاق من جديد وإن من سيناء ، كما ستبقى المقاومة القائمة في لبنان وفي الضفة وكل احتمالات ما سيقوم به فلسطينيو الضفة و ١٩٤٨.  فما العمل والحالة هذه ؟

في حال عدم حسم الحرب اسرائيليا ، ستتم محاولة استخدام أساليب عسكرية ، بالعمل لإبقاء المقاومة في غزة في حالة استنزاف دائم حتى تصل إلى حالة تشبه حالة جنين التي يقتحمها الجيش الإسرائيلي كل يوم . ولكن هذا الخيار محدود الامكانية بشأن غزة التي ستطلق الصواريخ وستخوض اشتباكات توقع قتلى وجرحى في صفوف الجيش الاسرائيلي وتستمر في خلق حياة مهددة لسكان الدولة ، مما سيعني استنزافا مضادا ، هذا عوضا أن المتوقع في ضوء تجربة الحرب الأخيرة أن مقاومة جنين سترتقي من جديد الى مستوى مقاومة غزة ومقدراتها حيث ستتعلم وتستلهم الدروس منها وليس العكس . هذا كله عوضا عن الآثار الاقتصادية حيث أن الحرب على غزة كلفت ما قيمته مليار شيكل كل يوم ، إضافة لإبقاء قوات الاحتياط قيد الخدمة لفترة أطول مما يلقي بآثار إضافية على الاقتصاد . مع ذلك يمكن تقليص بعض من الآثار الاقتصادية بدعم أمريكي إضافي، وكذلك فإن حرب الاستنزاف على المقاومة ستكلف أقل من تكاليف الحرب الحالية ، مما يجعل خلق حالة اشتباك دورية مع قطاع غزة أمرًا ممكنا رغم الخسائر المتوقعة في الجانب الاسرائيلي. وفي المجال العسكري ايضا سيستمر الاحتلال في حربه على المدنيين لابادتهم واقتلاعهم ، وبالتالي إفقاد المقاومة قاعدتها الشعبية. 

وثانيا ستتم محاولات سياسية ودبلوماسية جزء منها عسكري الطابع ، وهذه مكونة من محاولات قصيرة وطويلة المدى : في القصيرة ستطرح مشاريع لإعادة إعمار غزة بإشراف ائتلاف دولي ، مترافقا مع تشكيل قوة متعددة الجنسيات للانتشار في غزة على غرار اليونيفيل في جنوب لبنان ، وهو إن تم لن يعني شيئا على صعيد منع أية حرب قادمة كما تبين تجربة اليونفيل ، كما لن تتمكن قوات كهذه من العمل ضد حماس خوفا من الخسائر في صفوفها ، ولربما ترفض اسرائيل انتشار هكذا قوات في غزة الا اذا كانت ربما قوات امريكية ترسل الى غزة لتقاتل حماس نيابة عن إسرائيل . ولا يعرف إلى أي مدى يمكن أن ترسل أمريكا هكذا قوات إلى غزة في ظل الرفض الشعبي المتزايد للحرب في أمريكا والحسابات داخل الكونغرس .  هنالك ايضا المشروع التركي لقوات متعددة الجنسيات تكون اطرافها ضامنة لحانبي الصراع، وفي اطار ذلك طرحت تركيا نفسها ضامنة للجانب الفلسطيني ، ولا يتوقع أن تكون اسرائيل مستعدة حتى لمناقشة هكذا اقتراح .

على الصعيد الابعد مدى سيعود طرح حل الدولتين إلى التداول وذلك لخلق حل دائم ومستدام ينهي استخدام العنف ، ( انظر/ي الجرباوي ، ٢٠٢٣) ، سيما من أوساط الحزب الديمقراطي في الولايات المتحدة ، ودول أوروبا والعالم العربي والإسلامي . ولكن هذا الطرح سيصطدم بالرفض الاسرائيلي سواء من الحكومة الحالية أو أية حكومة قادمة قد يرأسها بيني غانتس الذي تشير التوقعات لتفوقه. في الحالتين ستوافق الحكومة على فكرة التفاوض حول حل الدولتين مع صعوبات أكثر في قبول فكرة التفاوض من قبل الحكومة الحالية ، ولكن ما سيتم طرحه خلال التفاوض هو السقف الإسرائيلي للدولة الفلسطينية الذي يتضمن رفض حق عودة اللاجئين واستمرار ضم القدس والكتل الاستيطانية الى إسرائيل ، واستمرار التواجد الامني في غور الاردن ، وسيطرح ايضا حصر الدولة في قطاع غزة أو أجزاء منه وحسب كما يتبين من مجريات الحرب الحالية ، علما أن هنالك من لم يعد يقبل اسرائيليا بفكرة حصر الدولة الفلسطينية في قطاع غزة ، وهي الفكرة التي كانت قائمة ما قبل الحرب الحالية ، ويبدو أن الحرب قد شطبتها من الاجندة الاسرائيلية لصالح فكرة ترحيل الغزيين والعودة إلى أفكار يغئال ألون التي طرحت عام ١٩٦٧ بضم غزة إلى إسرائيل ، وكذلك صرح قائد المعارضة يائير لابيد أن كل فلسطين هي ” أرض اسرائيل “، وان على الفلسطينيين اقامة دولتهم في المريح . كل ما سبق لا يعني أنه لا يوجد أفق لأية تسوية سياسية.

مع وصول التفاوض حول حل الدولتين مجددا الى طريق مسدود ، سيلجأ الامريكان والاوروبيين إلى طرح حلول انتقالية مجددا تحت تبرير أن تحقيقها سيكون أفضل من الانزلاق الى العنف ، ومن ضمن ذلك ترتيبات انتقالية لغزة وموضع حقول الغاز المحيطة بها إلى حين استكمال تأهيل السلطة الفلسطينية لتصبح قادرة على حكم غزة ( معهد واشنطن ، ٢٠٢٣، وفياض ، ٢٠٢٣). هذا عوضا عن انواع الحلول الانتقالية التي تمارس في الضفة منذ انتهاء المرحلة الانتقالية عام ١٩٩٩ وحتى اليوم ، وسيدخلون الطرفين في مفاوضات جديدة حول كيفية الانتقال من المؤقت الى الدائم تستمر الى ثلاثين عاما اخرى تكون فلسطين قد هودت كلها خلالها.

سيترتب عن الإجراءات العسكرية ، والسياسية والدبلوماسية المذكورة إبقاء جذوة الصراع قائمة ، وسيستمر توسع المستوطنات في الضفة واعتداءات المستوطنين ضد الفلسطينيين واقتحامات الجيش الإسرائيلي لمدن الضفة، واختراق حرمة المسجد الأقصى المبارك ، وحصار غزة الذي سيتم تشديده برا وبحرا وجوا والمساعي لسرقة غاز بحر غزة . وفي ذات الوقت ستستلهم المقاومة في الضفة نموذج غزة وتبني نموذجها الخاص من جديد ، وستتزود المقاومة في لبنان بالأسلحة المضادة للطيران ، وسيقوي الحوثيون قدرة صواريخهم على الوصول إلى مفاعل ديمونا في النقب ، وستتعلم المقاومة في غزة كيف تصبح أكثر تمرسا واتقانا ، ومعها في ذلك المقاومة السورية والعراقية استعدادا للمنازلة الاقليمية الكبرى القادمة فيما يبدو في ظل انسداد أي أفق سياسي للحل ، وستكون المنازلة ضد امريكا واسرائيل معا ، رغم كل التضحيات التي تمت في صفوف المدنيين والتي لن ترتدع منها قوى المقاومة في غزة لأن ليس لديها ما تخسره اذا انتصرت سوى القيود  المفروضة عليها وعلى المدنيين الذين تعمل ضمن ظهرانيهم  . 

تميزت الحرب الحالية بأنها حرب غير متكافئة في القوة المادية التي تميل لصالح اسرائيل بدعم غربي منقطع النظير ، فيما يتغلب الجانب الفلسطيني في عامل الارادة المتفوقة لشعب يقاتل من أجل بلاده . يغلب التفوق المادي الارادة ولكن لا يكسرها ، ولا يوقع بها الهزيمة ، الى حين أن تتمكن من امتلاك المقومات المادية لتحويل انتصاراتها المعنوية إلى مادية ايضا . 

المراجع

ملاحظة : لا توثق هذه القائمة المصادر الصحفية والاعلامية التي تغطي ما ذكر من وقائع حصلت خلال الحرب ، حيث أن هذه الوقائع مغطاة بغزارة في عشرات المصادر التي لن يغفلها القارئة.

اشترك معنا في قناة تلغرام: اضغط للاشتراك

حمل تطبيق الملتقى الفلسطيني على آندرويد: اضغط للتحميل

Author: وليد سالم

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *