غزة ونيويورك
- إن معارضة الولايات المتّحدة للدعوات الدولية المتزايدة لوقف إطلاق النار ليست قاطعة، بل تهدف إلى التحكّم في التوقيت والشروط.
- يواجه اليسار وضعاً جديداً، حيث يشعر معظم الشباب والأشخاص الملوّنين بالاشمئزاز مما يجري تحت أنظارهم في فلسطين، وكذلك من الديمقراطيين الذين يسهّلون تلك الارتكابات.
«حيث تكون الرائحة الكريهة أشدّ، يتمّ التفوّه بأكبر الكلمات. وإن استطاع المرء أن يسدّ أنفه، فكيف له أن يصمّ أذنيه؟» – برتولت بريشت.
لفهم المكانة الفريدة التي تحتلّها إسرائيل في السياسة الداخلية الأميركية، تكفي مقارنة المشاعر التي ولّدتها الحروب المُتكرّرة على فلسطين، بتلك التي أثارها الغزو الروسي لأوكرانيا. فالأخيرة وإن انتشرت في كلّ مكان، إلا أن الاتساق بها بقي سطحياً ويعتمد على ما ترفده وسائل الإعلام. وتلاشى الاهتمام بمصير كييف، الذي اعتبر منعطفاً للصراع بين الديمقراطية الليبرالية والاستبداد، بعد هجمات حماس، ومن ثمّ العدوان الإسرائيلي في تشرين الأول/أكتوبر، إذ توجّه كلّ الاهتمام نحو الشرق الأوسط. ولم تهدأ المشاعر المُتقدة منذ ذلك الحين، لكن المشاعر الحقيقية المتمثلة بالكراهية والخوف والسخط باتت أكبر بكثير، وهي ناجمة عن قرن من الاستعمار الصهيوني والمقاومة الإقليمية، التي تهوّل التقديرات الإمبريالية في تصويرها. إن إبادة اليهود في أوروبا، وتهجير العرب من موطن أسلافهم في فلسطين، هي كوارث لا تزال أصداؤها تتردّد بين شعوب القارات الأربع.
كما الأسلحة والأراضي التي بحوزة الطرفان هناك، تتسم الموارد المادية والأيديولوجية المُتاحة لكليهما في الغرب بعدم التكافؤ. وتجسّد الولايات المتّحدة هذا التفاوت بامتياز. وهنا، لا تستطيع إسرائيل الاستفادة من مخزون المشاعر العميق فحسب، بل في استطاعتها الاعتماد على الناخبين المتحمّسين في الحزبين الرئيسيين وتوزّعهم الجغرافي: من اليهود إلى الصهاينة المسيحيين؛ من المعابد اليهودية المنتشرة في غرب لوس أنجلوس إلى الكنائس الكبرى القائمة في شرق تكساس وألاباما. وتعود المسألة إلى عهد ترومان ومناوراته الانتخابية، فقد استند تحرُّكه الداعم لقيام إسرائيل دولة لليهود، إلى توقّعات الديمقراطيين في عامي 1946 و1948، والتي انطوت على خوف من فقدان نيويورك في حال الامتناع عن تأييد قيام تلك الدولة. ومنذ ذلك الحين، نما «اللوبي الصهيوني» كما أُطلِق عليه آنذاك، ولم ينحصر نشاطه بالحسابات الانتخابية البحتة، بل تحوّل إلى ممارسة أكثر عمليّات التأثير نشاطاً في واشنطن.
حلّل ستيفن والت وجون ميرشايمر أنشطة اللوبي الصهيوني للمرة الأولى في العام 2006 في أعقاب الغزو الأميركي للعراق. وفي حين فشلا في نشر كتاب «اللوبي الإسرائيلي» في أي من المنصّات الإعلامية الأميركية، نجحا بنشره في «London Review of Books». وبحسب تحليلهما، لا يعبّر المستوى الاستثنائي من الدعم العسكري والدبلوماسي الذي تحظى به إسرائيل عن خيارٍ استراتيجي عقلاني، وهو لا يجد إجماعاً في المجتمع أيضاً، وإنّما يعكس القدرة على «منع وصول الآراء المعارضة» وسط تجاهل واسع، لا لشيء سوى أن «مناقشة علاقات الولايات المتّحدة وإسرائيل قد يقود الأميركيين نحو سياسة مغايرة». تطلّب فرض هذا الواقع ثلاث ركائز: إحكام القبضة على السلطة التشريعية، التأثير على السلطة التنفيذية، وبذل جهود من قبل مؤسّسات الفكر والجامعات ووسائل الإعلام لتشكيل الرأي العام. الآن، بمرور 20 عاماً، ما الذي تكشفه الأحداث الحالية عن المسألة الإسرائيلية كما تتجلّى في كل هذه المجالات؟
العزل السياسي
بالنسبة إلى الكونغرس، يُعدّ غطاء الإجماع خانقاً. بعد أحداث 11 أيلول/سبتمبر، ضغط جورج بوش الابن على إسرائيل بداية لوقف عملية «الدرع الواقي»، وغزو الضفّة الغربية بهدف سحق الانتفاضة الثانية، على اعتبار أنها تلحق الضرر بمصالح الولايات المتّحدة في العالم الإسلامي، التي كانت تسعى للحصول على مؤيدين منه في «حربها على الإرهاب». حينها، ردّ الكونغرس بإصدار قرارين يساندان إسرائيل وأقرّ حزمة مساعدات، وتمّ التصديق عليهم بغالبية 94 صوتاً مقابل صوتين في مجلس الشيوخ، و352 صوتاً مقابل 21 صوتاً في مجلس النواب. بعد 20 عاماً، في تشرين الأول/أكتوبر 2023، صدر قرار مُماثل عن مجلس النواب، إنّما بغالبية أكبر: 412 صوتاً مقابل 10 أصوات. كما تجاوز مشروع قانون التمويل المصاحب له الحزمة السابقة بكثير: وحتى لو سحب الجمهوريون المبالغ المخصّصة لأوكرانيا، وخُصِّصت أموال إنسانية لغزّة إرضاءً لأصحاب القلوب الطيّبة من الديمقراطيين، فمن المؤكّد أن التمويل الجديد المخصّص لإسرائيل سيحظى بتأييد الحزبين، وسيتم إرسال 14 مليار دولار إليها، بالإضافة إلى 3.8 مليار دولار تتلقّاها سنوياً منذ العام 2016 بموجب صفقة وقّعها أوباما.
إذا شنّت منظّمة «آيباك» هجومها المعتاد ضدّ أعضاء في الكونغرس
يطالبون بوقف إطلاق النار فهي تقوم بذلك بالتعاون مع قادة أحزابهم،
الذين تتركّز مهمتهم بقمع النقاش المتعلّق بوقف إطلاق النار الذي يثيره هؤلاء
تقلّل هذه الأرقام من أهمّية الرأي الأوحد الطاغي في الكونغرس، وتحجب الدور المتميّز لكلّ حزب في قمع النقاش. كان جميع رافضي القرار الصادر في تشرين الأول/أكتوبر، باستثناء صوت واحد، هم من الديمقراطيين: إذا شنّت منظّمة «آيباك» هجومها المعتاد ضدّهم – يواجه جمال بومان وإلهان عمر حالياً منافسين أساسيين مدعومين من المنظّمة – فهي تقوم بذلك بالتعاون مع قادة أحزابهم، الذين تتركّز مهمتهم بقمع النقاش المتعلّق بوقف إطلاق النار الذي يثيره هؤلاء. على سبيل المثال، بسبب دفاعها عن المتظاهرين الذين رفعوا مطلب وقف إطلاق النار، وإدانتها إسرائيل بسبب قصفها المستشفى الأهلي، تعرّضت رشيدة طليب للاتهام بـ«الترويح لسرديات كاذبة» و«التحريض على تدمير دولة إسرائيل». تبنّى الجمهوريون قرار منع وقف إطلاق النار، وانضم إليهم 22 ديمقراطياً لتمريره، ومن ضمنهم أكبر المستفيدين من أموال «آيباك» في نيويورك: ريتشي توريس وزعيم الأقلية حكيم جيفريز. وتعاون الأخير مع نانسي بيلوسي وتشاك شومر ورئيس مجلس النواب الجمهوري الجديد مايك جونسون، في المسيرة المؤيّدة لإسرائيل التي نُظِّمت في المركز التجاري، ورفعت خلالها الأعلام الأميركية والإسرائيلية وصدحت هتافات: «لا لوقف إطلاق النار» و«لن يحدث مرّة أخرى أبداً».
إلى ذلك، وقّع 70 ديموقراطياً على بيانٍ يرفض استخدام عبارة «من النهر إلى البحر». فهل الدولة الواحدة ثنائية القومية هي دعوة لـ«إبادة جماعية للشعب اليهودي»؟ في الواقع، تندرج هذه الدعوة في صلب البرنامج التاريخي لليسار الإسرائيلي، ومن ضمنه الحزب الشيوعي الإسرائيلي-الفلسطيني، وبالتالي تتعارض مع تأويلات الجمهوريين. وبتوفير الغطاء للسياسة التي تُطبقها تل أبيب وواشنطن، كان الأمر أسوأ: استُبعد وقف إطلاق النار بذريعة «حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها»، وطُرحت فكرة «الهدنة الإنسانية في مكان وزمان مُحددين» إنما مشروطة بـ«الإفراج عن جميع المدنيين الفلسطينيين الذين تحتجزهم حماس كدروعٍ بشرية في غزة». هل يعنون المليوني مقيم في قطاع غزّة؟ والإفراج عنهم إلى أين؟ بينما كانت صواريخ هيلفاير والذخائر الأميركية تقصف المستشفيات والمدارس والجامعات والمساكن ومخيّمات اللاجئين والقوافل، شغل الكونغرس نفسه بمنشورات على وسائل التواصل الاجتماعي للعضو الفلسطيني الوحيد فيه، وهو يعبث بإبهاميه بينما تحترق غزة.
وفيما يتفاقم الدمار، تسود رعونة تامّة. صحيح أن العديد من الأعضاء وقّعوا على بيانات تدعو إلى وقف إطلاق النار أو إلى هدنة مؤقتة أو إلى تنفيذ القوانين التي تجرّم تصدير الأسلحة التي توقع الضرر بالمدنيين، لكن هذه التدابير لا تعكس سوى السلبية الغريبة للمشرّعين، وكأنهم مجموعة تقف على باب المجلس لا ممثلين منتخبين فيه. ومتجاهلاً هذه الاقتراحات، مرّر مجلس النواب الأميركي قراراً يساوي معاداة الصهيونية بمعاداة السامية، بغالبية 311 صوتاً مقابل 14 صوتاً وبحضور 92 مشرّعاً. ردّ جيرولد نادلر، عضو الكونغرس عن الجانب الغربي العلوي في مانهاتن، بأن هذا النهج لا يتطابق مع التاريخ، بل يُستخدم لتشويه سمعة الناخبين في ثاني أكبر المناطق اليهودية في البلاد.
إلى جانب هذه المعركة، بدا أن البيت الأبيض يعمل بشكل آلي متبعاً سيناريو موروث عن الإدارات السابقة: فالولايات المتحدة بوصفها وسيطاً «نزيهاً»، تبيّن الآفاق الاستراتيجية والأخلاقية التي تقود إلى اتفاقات أو أطر أو خرائط طريق؛ أي إلى سراب حلّ الدولتين. من هنا، سارع بايدن إلى معانقة نتنياهو. وسافر بلينكن إلى المنطقة أربع مرّات في خلال الشهر الماضي، وحرص على التوجّه إلى إسرائيل في المرّات الأربع، فضلاً عن زيارة «الشركاء» الآخرين: الأردن، والإمارات العربية المتحدة، وقطر، والبحرين، والعراق، والمملكة العربية السعودية، ومصر وتركيا. صوِّرت هذه الزيارات كـ«فعل متوازن» ومناسبات مواتية لحثّ إسرائيل علناً على ممارسة «ضبط النفس» وتطبيق «هدنة إنسانية»، لكنها ترافقت في الواقع مع محاولات إغراء القاهرة وعمان من أجل فتح حدودهما أمام اللاجئين من غزة والضفة الغربية بسبب النكبة الجديدة. بإطلالته المرتابة في تل أبيب، استشهد بايدن بتجربة واشنطن إبّان أحداث 11 أيلول/سبتمبر لإطلاق التحذيرات، وقال: «في سعينا إلى تحقيق العدالة وحصولنا عليها ارتكبنا جملة من الأخطاء». بدت هذه الملاحظات الصادرة عن سياسي مسؤول عن الكثير من هذه الأخطاء، وكأنها انعكاساً ذاتياً ونصيحة تُقدّم إلى صديق، حتى وإن كان العجز عن تحديد تلك الأخطاء، أو الفشل في تحديد الطريقة المثلى لتصحيحها، يجعلها عديمة القيمة.
لم تكن مطالبة إسرائيل بضبط النفس أكثر من رفع عتب. ومن وجهة نظر عسكرية، يهدف تدفّق العتاد والعتيد إلى المنطقة إلى تضييق الخناق على حزب الله وردع إيران، لكي تتمكّن إسرائيل من اجتياح غزّة برياً من دون أية معوقات
عملياً، لم تكن مطالبة إسرائيل بضبط النفس أكثر من رفع عتب. ومن وجهة نظر عسكرية، ينطوي تدفّق العتاد والعتيد إلى المنطقة على هدفٍ معاكس تماماً، وهو تضييق الخناق على حزب الله في لبنان وردع إيران، لكي تتمكّن إسرائيل من اجتياح غزّة برياً من دون أية معوقات تذكر. ولذلك أرسِلت مجموعتان هجوميتان من حاملات الطائرات إلى شرق البحر الأبيض المتوسط، بالإضافة إلى غوّاصة نووية، ومجموعة من الطائرات المقاتلة التابعة لسلاح الجوّ الملكي البريطاني، وطائرات هجوم أرضي من طراز A-10 وأنظمة دفاع جوي. تُشرف الولايات المتّحدة على مراقبة حركة المرور في النقب، بينما تستخدم المسيّرات لمراقبة غزة من الأعلى، ومن البحر، كما تتمتع بإمكانية الوصول إلى القواعد العسكرية البريطانية في قبرص حيث تخدم أكروتيري كمركزٍ لإمدادِ الأسلحة، بينما توفّر وكالة الأمن القومي المعلومات الاستخبارية لإسرائيل، وتدعمها في تحديد الأهداف. يتمركز نحو 57 ألف جندي ومقاول أميركي في أنحاء المنطقة، بعضهم يُنفذ ضربات من القواعد الموجودة في العراق وسوريا مُدّعين تعرضهم لإطلاق نار من الميليشيات «المدعومة من إيران». وإزاء هذا التصعيد الرامي إلى «تجنّب التصعيد»، إلامَ يفضى ضبط النفس؟ لا يفضى سوى إلى تشجيع الإسرائيليين على «استخدام القنابل الصغيرة» التي تزوّدهم بها الولايات المتحدة، فضلاً عن القنابل الخارقة للتحصينات التي تجتاح شوارع المدينة كسحابةٍ من الجراد.
أمّا من الناحية الدبلوماسية فقد كان سلوك الإدارة الأميركية أكثر وضوحاً. إن ممارسة حق الفيتو ضد أي قرار بحق إسرائيل، مهما كان مُلطّفاً، هو ممارسة شائعة. استخدمت الولايات المتحدة حق النقض لتعطيل قرار برازيلي يقضي بإدانة العنف المرتَكب بحق المدنيين وتوفير المساعدات الإنسانية للفلسطينيين النازحين في 18 تشرين الأول/أكتوبر. كما أن ممارسة هذا «الحق» يمدّ إسرائيل بالوقت الكافي لتنفيذ عمليات القتل المُمنهجة للمدنيين، ويترافق ذلك مع قيادة الولايات المتّحدة مفاوضات استحداث آلية حُكم ما سيتبقى من غزة في نهاية المذبحة. يبدو أن الضغط على مصر والأردن للموافقة على استقبال مليون لاجئ في كل منهما قد باء بالفشل، على الرغم من الإغراءات المالية والدعم المزعوم الذي وعد بهما «المبعوث الإنساني الخاص لبايدن». وهذا ما يفتح المجال أمام الكثير من الخيارات الأخرى: إمّا وضع غزة تحت رعاية دولية أو عربية أو تحت إشراف الأمم المتحدة أو حلف شمال الأطلسي؛ أو تسليم شؤونها إلى السلطة الفلسطينية في الضفّة الغربية بوصفها ورقة تين محلّية لسلطة أخرى فعلية.
إن معارضة الولايات المتّحدة للدعوات الدولية المتزايدة لوقف إطلاق النار ليست قاطعة، بل تهدف إلى التحكّم في التوقيت والشروط. وهنا، لا بد من قراءة الخلافات داخل السلطة التنفيذية نفسها. عندما طلبت إسرائيل من الفلسطينيين المقيمين في شمال غزة ترك منازلهم في 12 تشرين الأول/أكتوبر، حذّرت وزارة الخارجية موظّفيها من استخدام ثلاث عبارات في سياق التحضير للغزو البري وهي: «وقف التصعيد/وقف إطلاق النار»، «إنهاء العنف/سفك الدماء»، و«استعادة الهدوء». وغالبية «التسريبات» التي انتشرت منذ ذلك الحين، لا تعدو كونها مجرّد ملاحق لهذا التوجيه. وبعد شهر، كشفت صحيفة «واشنطن بوست» عن أن «البيت الأبيض مُحبط من الهجوم الإسرائيلي ولكنه لا يرى خيارات كثيرة»، على الرغم من تجاوز عدد المدنيين الذين قتلوا في غزّة، مجمل عدد الذين سقطوا في غضون عامين من الحرب الأوكرانية.
خسارة المؤامرة
على عكس غرف السلطة، تبدو السيطرة على الرأي العام شديدة الهشاشة. ينحاز ثلثا الناخبين الأميركيين إلى وقف إطلاق النار، وترتفع هذه النسبة إلى 80% بين الديمقراطيين. وللمرّة الأولى منذ عقدين، يصرِّح هؤلاء بتعاطفهم مع الفلسطينيين أكثر من الإسرائيليين. تراجعت مكانة بايدن في الفئة العمرية بين 18 و34 عاماً بنحو 15 نقطة، وعبّر 70% عن عدم موافقتهم على أسلوب تعامله مع الحرب. وعلى الرغم من أن التعبير عن التضامن مع الفلسطينيين قُمِع على المستوى السياسي، لكنه وجد فرصه على في صناعة الثقافة: وسائل الإعلام والمجلات، والإعلانات، ووسائل التواصل الاجتماعي، وعالمي الفن والسينما والأوساط الأكاديمية. وهذا بحد ذاته علامة دالة على الأزمة، وكما لاحظ والت وميرشايمر، فإن الوضعية الخاصة التي تتمتّع بها إسرائيل تشكلت تاريخياً عبر تحييدها عن النقاش؛ ولكن هذه الصورة زائفة، فهي توحي باكتسابها ما يكفي من التأييد لفرض نفسها على أرض الواقع.
ينحاز ثلثا الناخبين الأميركيين إلى وقف إطلاق النار، وترتفع هذه النسبة إلى 80% بين الديمقراطيين. وللمرّة الأولى منذ عقدين، يصرِّح هؤلاء بتعاطفهم مع الفلسطينيين أكثر من الإسرائيليين
ومن هنا جاءت الردود الشرسة للعديد من الملاك والمديرين التنفيذيين والأمناء والإداريين على المعارضة التي برزت داخل المؤسّسات التي يشرفون عليها، وتمت معاقبة الانحرافات البارزة بقسوة. ونظراً لاعتمادها على الجهات المانحة، والمشتركين، والبطاقات، والنقرات، وإلى درجة ما على حسن نية الدولة، أصبح التكتم من «أفضل الممارسات». إلى أي مدى نجح ذلك؟ من ناحية، هذه حرب كلامية تُشن بالوسائل المتاحة لهذا الوسط، وبلهجته ومفرداته: اتهامات بالترهيب والتهديد والتنمّر وعدم الأمان؛ من أجل تحديد اللغة المقبولة. قادت «رابطة مكافحة التشهير» حملة شعواء من أجل استبعاد عبارة «من النهر إلى البحر» باعتبارها إشارة إلى «الإبادة». تستمد هذه الألعاب اللغوية قوتها من إيحاءاتها العنيفة، ومن أجل ترهيب من قد يشعر بوخز الضمير عند رؤية معاناة الذين يتعرّضون للقصف والحصار. وقّعت نخبة من المثقفين اليهود الأميركيين الشباب – الكتّاب والفنانين والعلماء – على إدانةٍ بليغة لصيغة أن «معاداة الصهيونية هي معاداة للسامية»، ونشرتها مجلّة «n+1» تحت عنوان «صراع خطير»، بعد أن امتنعت إحدى المجلات عن نشرها.
لكن العواقب المترتبة على اتخاذ موقف علني كانت حقيقية. في نيويورك، تطايرت الرسائل والرسائل المضادة، حيث قام البعض، مدفوعين بنوباتٍ من الحماس أو الندم، بالتوقيع على كليهما. وكذلك الأمر بالنسبة للاستقالات والإقالات. قام مالك مجلّة Artforum، الملياردير جاي بينسكي، بطرد محرّره بعد أسبوع على نشره رسالة «تضامناً مع الشعب الفلسطيني». انطوت الحملة التي أطاحت به على جانب عام، فقد تزعّمها مالكو المعارض الفنية، دومينيك ليفي وبريت غورفي وأماليا ديان (حفيدة موشيه ديان، الجنرال الذي قاد هجمات الجيش الإسرائيلي إبَّان حرب السويس وحرب الأيام الستة، وأحد أبرز وجوه عصابة الهاغانا في الثلاثينيات). كما امتلكت جانباً خاصاً، إذ طلب وريث Bed Bath & Beyond من الفنّانين والمعارض وهواة جمع التحف إزالة توقيعاتهم وسحب الإعلانات. وفي الشارع رقم 92، استقال موظّفو مركز الشِعر بعد أن ضغط مجلس إدارته على المدير لإلغاء محاضرة كان سيقيمها فيت تان نوين على خلفية توقيعه على في «London Review of Books» يستنكر فيها «القتل المتعمّد للمدنيين»، ودعوته إلى وقف إطلاق النار وإيصال المساعدات إلى غزة.
نيويورك هي أرض حرب المواقع لسببين واضحين: لأنها مركزاً يحوي أهم المتاحف والجامعات والناشرين ومقرّات الشركات والبنوك والمنظّمات غير الربحية، ولأنها المدينة التي تضمّ أكبر عدد من اليهود في العالم. لا تُعدّ المدينة مركزاً «للجالية اليهودية» فحسب، بل موطناً لجاليةٍ عربية تشكّل أقل من ربع مقيميها، وهؤلاء هم من قادوا المطالبة الواسعة بتحرير فلسطين، وتحمّلوا اتهامات معاداة السامية، على الرغم من تَكاتُف العديد من سكان نيويورك اليهود معهم.
في وسائل الإعلام المطبوعة، قدّمت «نيويورك تايمز» أكثر الأخبار والتحليلات شمولية عن الحرب منذ أوائل تشرين الأول/أكتوبر بالقياس إلى الصحف الليبرالية الواسعة الانتشار في الولايات المتّحدة: تعد تقارير «غارديان» ضعيفة شأنها شأن متجر أوكسفام الالكتروني. يدعم يوفال نواه هراري وجوناثان فريدلاند قسم الرأي المسموح له بإدانة نتنياهو، لكنهما لا يستطيعان إدانة حربه على «عدو من نوع مختلف» وهو حماس، كما لا يستطيعان الدعوة إلى وقف إطلاق النار. وبذلك تتراجع «غارديان» في مستواها حتى عن المعايير التي تفرضها شبكة «سي إن إن»، حيث يتسنى لجيك تابر أن ينتقد العنصرية التي تمارسها الحكومة الإسرائيلية ضد العرب، وقتلها ما يزيد عن 170 فلسطينياً في الضفة الغربية في خلال شهر واحد. وجرياً على عادتها، تتفوّق مجلة «إيكونوميست» على الجميع عبر نشر عناوين من قبيل «لماذا على إسرائيل أن تحارب؟» تحت صُور لمدينة غزة المدمّرة.
نيويورك هي أرض حرب لسببين واضحين: لأنها مركز أهم المتاحف والجامعات والناشرين والبنوك والمنظّمات غير الربحية، ولأنها المدينة التي تضمّ أكبر عدد من اليهود في العالم، كما أنها موطناً لجالية عربية تشكّل نحو ربع مقيميها
في بداية تشرين الثاني/نوفمبر، أعادت الكثير من الوسائل الإعلامية النظر بتغطيتها. أغلب الظن أن القصف الذي استهدف مستشفى الشفاء كان بمثابة نقطة تحوّل: من مشهد الأطفال حديثي الولادة، إلى شكاوى الممرّضات من نقص الطاقة، والمشاهد والأصوات التي طغت على التبريرات التي تزعم أن «مركز قيادة» حماس موجود في الطابق السفلي من المستشفى. أعربت مجلة «نيويوركر» عن عدم ارتياحها إزاء التفاوت في الموت والدمار، وزار رئيس تحريرها ديفيد ريمنيك إسرائيل للوقوف على ذلك. أيضاً غيّرت هيئة تحرير «تايمز» وجهتها، ومن دون مراجعة بيانها الأوليّ الذي قالت فيه «إن ما تقاتل إسرائيل في سبيل الدفاع عنه هو مجتمع يُثمّن حياة الإنسان وسيادة القانون»، أعربت في 3 نوفمبر/تشرين الثاني عن قناعاتها بأن الهدنة الإنسانية «تستحق المحاولة»، وبعدها بأسبوع نشرت مقالة للمؤرخ عمر بارتوُف يدعو فيها إلى اتخاذ إجراءات عاجلة للحدّ من العنف «الذي لا يُحتمل ولا يمكن تبريره» في غزة.
مع ذلك، تبرز فجوات واضحة بين وسائل الإعلام العريقة بقدر ما تبرز تفاوتات داخل كل منها. في نهاية تشرين الثاني/نوفمبر الماضي، أشارت إحدى المقالات المنشورة في الصفحة الأولى من «تايمز» إلى أن «وتيرة الموت واستخدام الأسلحة الثقيلة في المناطق الحضرية المكتظة، بما في ذلك القنابل الأميركية زنة 2000 رطل تشكّل سابقة في حروب هذا القرن». وعلى الرغم من الإشارة ضمنياً في مقالٍ آخر إلى أن وقف القتال أفاد حماس، تجاوبت هيئة التحرير مع دعوات سخيفة لإحياء حل الدولتين، محمّلة الفلسطينيين مسؤولية فشله.
إلى جانب هذه المنابر الإعلامية الدولية، تبرز مجلات نيويورك الملتزمة باهتمامات المثقفين المحلّيين. يعاني العديد من المهتمين بالثقافة اليهودية من الانقسامات السياسية نفسها الممتدة بين الأجيال. على أقصى اليمين، يعمد محرّرو جيل X في مجلّة «Tablet» إلى إدانة «المشاهد المفبركة التي تُصوّر الفلسطينيين وهُم يتعرّضون للعنف»، ويقارنون جامعة ييل بحماس التابعة لقطر، وينتقدون بايدن لتقصيره في «معاقبة» إيران ووكلائها، ما «وفّر لها حماية من الانتقام». إلى ذلك خاضت مجلّة «Jewish Currents»، التي تم إحياؤها في العام 2018 كمنافس تقدّمي لـ«Tablet»، معارك داخلية مكثّفة بعد 7 تشرين الأول/أكتوبر، لكنها تعكس بوضوح وجهة نظر جيل الألفية، عبر مقالات مناهضة لاستغلال معاداة السامية وقمع الخطاب المؤيد للفلسطينيين في الولايات المتّحدة، ومن خلال رسائل تبث من غزة والضفة الغربية، تصف الغزو البري بأنه «إبادة جماعية نموذجية».
تجمع مجلّة «Dissent» بين نفر من الصهاينة ودعاة التدخّل الليبراليين من «اليسار الديمقراطي» في عقدهم الثامن أو التاسع، أمثال مايكل والزر ومايكل كازين وآخرين، وبين مجموعة متميّزة في العقد الثالث أو الرابع. سعت المجلّة إلى الجمع بين الاتجاهين: يردّد جوشوا ليفر خطاب أسلافه بعد أحداث 11 أيلول/سبتمبر، موبّخاً «اليسار الراديكالي» في بروكلين لوقوفه إلى جانب الإرهابيين؛ ويجادل غابرييل وينانت بأن «المشاعر الإنسانية تسمح لنا بأن نحزن على الطرفين، هي للأسف، غير صحيحة. إذ يمتلك أحد الطرفين آلة جبّارة لصنع الأسى، وهي من الآلات الأفضل في العالم، أمّا الطرف الآخر فيئن من الحزن». على مسافة من الطرفين، اتخذت «n+1» و«Jacobin» أكثر المواقف اتساقاً. تنشر الأولى مقالات نقدية لأمثال ساري مقدسي وكتّاب آخرين من حركة «حياة السُّود مهمة»، وهم بطبيعة الحال غير مستعدين لإدانه هجمات 7 تشرين الأول/أكتوبر؛ أمّا الثانية فَتنتقد الديمقراطيين الذين فشلوا في مساندة وقف إطلاق النار، في الوقت الذي تُشدّد فيه على قدرة حزب العمّال على فرض وقف إطلاق النار إذا ما تمكّن من التنسيق مع الحركات المؤيدة لفلسطين في العالم.
عقولٌ سريعة التأثُّر
لطالما شكّلت الجامعات، حيث كان يدرس العديد من هؤلاء الكتّاب أو يعملون حالياً، أهدافاً للوبي الإسرائيلي. إبّان الانتفاضة الثانية، استثمر اللوبي في المواجهات مع المجموعات الطالبية وأعضاء هيئة التدريس المؤيدين للفلسطينيين، وأخصعهم للمراقبة من خلال منظّمات مثل «قافلة من أجل الديمقراطية»، و«مشروع داوود»، و«مراقبة الحرم الجامعي»، و«كناري»، و«تحالف إسرائيل في الحرم الجامعي». وتنشط هذه المنظمة الأخيرة جزئياً في خدمة «آيباك»، بتمويلٍ من الملياردير آدم ميلشتاين، وتقدّم تقارير مباشرة إلى إسرائيل عن أي انتهاك للقوانين الأميركية. أدّى نمو حركة المقاطعة كنقطة ارتكاز للتنظيم الطالبي إلى تنشيط هذه الكيانات من جديد، وعادت إلى العمل مجدّداً بهدف التصدّي لموجة الاحتجاجات المندلعة منذ تشرين الأول/أكتوبر.
بالنسبة إلى السلطة، تكمن مشكلة جامعة نيويورك بوجود هيئة طالبية من الطبقة العاملة تضم أكثر من 200 ألف طالب، 40% منهم من المهاجرين و75% منهم من الملونين، وهؤلاء يدعمون فلسطين
رُصِدت هذه المستجدات على نطاق واسع باعتبارها أحدث بؤر التوتر في الحرب الثقافية الدائرة على مستوى النخبة، حيث تتجوّل السيارات التابعة لوسائل الإعلام حول ساحة هارفارد، وتعرض وجوه وأسماء وعناوين الطلاب الجامعيين الذين تجرأوا على التوقيع على خطاب لجنة «التضامن مع فلسطين»، وتوقف جزئياً أو بشكل دائم أعضاء في «طلاب من أجل العدالة في فلسطين»، و«التحالف المناهض للفصل العنصري»، و«أصوات يهودية من أجل السلام» وغيرها من المجموعات الناشطة في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا وبرانديز وكولومبيا. وضغطت «رابطة مكافحة التشهير» علناً من أجل التحقيق مع منظّمة «طلاب من أجل العدالة في فلسطين» بتهمة تقديم «الدعم المادي لمنظمة إرهابية أجنبية». أما في الدوائر الخاصة، فيتساءل رئيس الرابطة عن أسباب خسارة إسرائيل نفوذها بين الشباب، وما إذا كان باستطاعة المشاهير المؤثّرين أن يجدوا حلاًّ للمشكلة. وقد سخر مراسلو «تايمز» من «الآثار الضارّة» التي تُلحقها «المصطلحات الأكاديمية» بالعقول سريعة التأثر، وإدراجها الحرب في سياق الاستعمار والعدالة الاجتماعية من دون أي مسوّغ.
لكن الحملة لا تقتصر على جامعات النخبة، أو المدارس الحكومية الكبرى الخاضعة لسيطرة الجمهوريين في فلوريدا. تتعرّض جامعة مدينة نيويورك، وهي أكبر جامعة عامّة حضرية في الولايات المتحدة، لضغوط مزدوجة، إذ يصدر مستشارها بيانات تصف المجموعات المتضامنة مع الفلسطينيين بأنها «منظّمات داخلية ترعى المسيرات الهادفة للاحتفاء بحماس أو دعمها». وفيما أصدرت حاكمة ولاية نيويورك الديمقراطية كاثي هوشول، قراراً بإضاءة جميع مباني الولاية باللونين الأزرق والأبيض، ثم سافرت إلى إسرائيل تعبيراً عن دعمها «للعالم المتحضّر في مواجهة العالم غير المتحضّر»، فتحت أيضاً «تحقيقاً» يهدف إلى اجتثاث معاداة السامية من جامعة نيويورك. بالنسبة إلى السلطة، تكمن المشكلة في وجود هيئة طالبية من الطبقة العاملة تضم أكثر من 200 ألف طالب، 40% منهم من المهاجرين و75% منهم من الملونين، وهؤلاء يدعمون فلسطين.
امتدت الاحتجاجات إلى خارج الكليّات وانتشرت في معظم المدن الكبيرة والمتوسطة في جميع أنحاء الولايات المتّحدة. ومن هذا المنظور أيضاً، شكّلت نيويورك مركز الأحداث. بحلول منتصف تشرين الأول/أكتوبر، برز نمط من الإجراءات اليومية المحدودة نسبياً: مظاهرات تضمّ بضعة آلاف من الأشخاص ينطلقون سيراً من نقاط في وسط المدينة باتجاه الأمم المتّحدة، وقد أشرفت على تنظيمها منظّمات فلسطينية، مثل «العودة»، «في حياتنا»، «حركة الشباب الفلسطيني»، إلى جانب حركة «الاشتراكيين الديمقراطيين الأميركيين» و«منتدى الشعب». كما برزت احتجاجات صاخبة وحاشدة في باي ريدج مع مجموعة عربية متنوّعة في جنوب بروكلين؛ وسجّلت حوادث اقتحام لمقرّات مؤسسات من قبل بضع مئات، مثل بلاك روك، وجي بي مورغان، ومكاتب «نيويورك تايمز». أمّا التحرّكات الأكثر إثارة فقد نظّمتها منظمة «الصوت اليهودي من أجل السلام»، وتمكّنت من إغلاق محطّة غراند سنترال، والاستيلاء على جزيرة الحرية، وإغلاق جسر مانهاتن، وقد ارتدى أعضاؤها قمصان سوداء كتب عليها «ليس باسمنا». ومن التحدّيات التي تواجهها هذه الائتلافات هي قدرتها على النمو والتقارب، أمّا التحدي الآخر، وهو الأصعب، فيتمثل في تخطّي مرحلة العصيان المدني. أصبحت «نقابة عمّال السيارات» أكبر نقابة تنادي بوقف إطلاق النار أمام البيت الأبيض، بعد أن سبقها إليها عمّال البريد والعديد من السكّان المحلّيين بشهرٍ واحدٍ.
الهيمنة وشركاؤها
من المفيد المقارنة بإيجاز بين المشهد في نيويورك والمشهد في لندن. إن المظاهرات في العاصمة البريطانية – وهي الأكبر في الغرب واستمرّت بالنمو بمعدلٍ أسبوعي حتى تشرين الثاني/نوفمبر ووصلت إلى حشد مليون متظاهر – تُسلط الضوء بشكل غير مباشر على نقاط القوة والضعف لدى اليسار الذي وُلِد من رحم الأزمات الاقتصادية والسياسية التي تعاقبت منذ العام 2008. إن تيّار الإنسانية الذي يتدفّق إلى ويست إند أو عبر جسر وستمنستر باتجاه السفارة الأميركية في فوكسهول، يستذكر الأحداث الأخيرة التي حفّزت هذا المستوى الاحتجاجي. إن معارضة كوربين الصريحة لغزو العراق هي التي منحته جاذبيته الأخلاقية عندما ترشّح للمرة الأولى لزعامة حزب العمّال، بعد عقد من الحريق الذي دجّ بلير وبراون، إلى جانب بوش، بريطانيا فيه. إن الإحساس بالأزمة الذي يزعزع الحزب اليوم يعكس الالتزام القاتم نفسه، مع سعي زعيمه الحالي إلى التخلّص من سلفه بما يتجاوز المصالح الانتخابية أو الإدارة الداخلية للحزب، نحو إعادة الضبط بما يتناسب مع السفارة الإسرائيلية وبلير.
80% من ناخبي حزب العمّال و64% من المحافظين في بريطانيا يريدون وقف إطلاق النار، الفارق الوحيد مع الولايات المتحدة هو في قدرة هذه القضية على تحقيق التعبئة وبالتالي التهويل بالانقسام
وكما الحال في الولايات المتحدة، فتِحت هوّة بين المشاعر الشعبية وأي تعبيرٍ سياسي هادف عنها: 80% من ناخبي حزب العمّال و64% من المحافظين يريدون وقف إطلاق النار. الفارق الوحيد هو في قدرة هذه القضية على تحقيق التعبئة في بريطانيا، وبالتالي التهويل بهذا الانقسام. في مواجهة هذه الموجة، عدّل كير ستارمر بيانه الأوليّ الذي أيّد فيه حقّ إسرائيل في قطع المياه والكهرباء والغذاء عن غزة، مضيفاً إليه الصيغة القانونية المحورة المعهودة عنه: «إذا امتثلت للقانون الدولي». ومن الناحية العملية، أعاق ستارمر جميع الجهود المبذولة للوفاء بهذا المعيار في البرلمان. عندما قدّم الحزب الوطني الاسكتلندي اقتراحه الخاص بوقف إطلاق النار، حذّر ستارمر من إقالة النوّاب الذين يصوتون لإقراره. أعلن 56 نائباً التحدّي ودعموا التعديل، وسط انهيار قاعدة حزب العمّال بين الناخبين المسلمين من 75 إلى 5%، كما استقال 50 عضواً من أعضاء المجالس المحلّية من الحزب منذ تشرين الأول/أكتوبر.
يشير هذا الخلاف الاستثنائي، الممتدّ من مرتفعات وستمنستر إلى مجلس بيرنلي، إلى قدرة الجانب المناهض للإمبريالية لدى كوربين على الانتشار خارج نطاق قاعدته الانتخابية. ماذا لو وجدت تلك المشاهد العفوية من الاحتجاج والمعارضة على ردود الفعل الإمبريالية منبراً لها في شخص رئيس الوزراء المقبل بدلاً من حشود الشرطة؟ كشفت الاحتجاجات خارج، ومن ثم داخل، حزب العمال عن الحدود التي تملكها وصمة معاداة السامية: لقد كانت فعّالة للغاية بالطريقة التي طبّقت فيها من قِبل «الغارديان» و«بي بي سي» على ناشطٍ معتدل مناهض للحرب، لم يتمكّن من دحض التهمة لصدمته من فداحة هذا الاتهام الأخلاقي. ولكن الأمر اختلف بالكامل عندما جرّبت وزيرة الداخلية المحافظة توجيه هذه التهمة إلى نحو مليون إنسان يرفعون رايات السلام والعدالة: هذه المرّة، هي التي صُدمَت، وليس «مسيرات الكراهية».
في مركز الإمبريالية، تبرز ديناميكية مختلفة. فإذا كان اليسار البريطاني لا يزال قادراً – في أعقاب هزيمته – على الاعتماد على التنظيم الكامن تحت شعار «أوقفوا الحرب»، والذي استُخدم في التعبئة ضد كل مغامرة عسكرية إمبريالية منذ غزو أفغانستان، فإن الأميركيين يدركون حدودهم. وهنا، رفض زعيم الاشتراكيين الديمقراطيين، بيرني ساندرز، دعم وقف إطلاق النار، متخذاً الخط نفسه الذي اتبعه الديمقراطيون البارزون الآخرون: لأنه بذلك، كما كرّر لمدة شهرين، سيعطي النصر لحماس التي تمتلك إسرائيل كل الحق في القضاء عليها. إن مسار ساندرز، بالمقارنة مع كوربين، منذ محاولاتهما الفاشلة لقيادة وإعادة توجيه أحزاب يسار الوسط التي ينتميان إليها، ينمّ عن أنواع مختلفة من التحدّي فرضاها على الأنظمة الحاكمة. بادئ ذي بدء، لم تكن هناك حاجة إلى حملة تستخدم وصمة معاداة السامية للتشهير في الولايات المتحدة: ليس لأن فعاليتها المحتملة مشكوك فيها فحسب وإنما أيضاً لأسبابٍ سياسية.
بعد تعبئة حملته الانتخابية وتأييد بايدن في العام 2020، أُمطِر ساندرز ورؤساء اللجان بالثناء. وقد لاحظ كثيرون خيبة أمل معجبيه من جيل الألفية من موقفه تجاه إسرائيل، ربما بسبب ولعهم الدونكيشوتيِّ بحنكته السياسية. مع ذلك، يمكن تقديم قراءة أخرى لهذا التطوّر لا تستثني أياً منهما. حين امتدح ساندرز وكبير مستشاريه للسياسة الخارجية مبادرة بايدن العدوانية وتأييده ردّ الناتو باعتباره «الخيار التقدّمي» في مسألة أوكرانيا، كانت الأصوات الناقدة أقل وأكثر ليونة مما هي عليه الآن. ولكن الإمبراطورية الأميركية لا تُخدم حسب الطلب، كما يؤكّد البيت الأبيض نفسه عند كل منعطف، إذ يربط بين هذه الصراعات في محاولاته توفير أموال جديدة للطرفين. لقد طمأنت وزيرة الخزانة مواطنيها منذ بداية اندلاع القتال في غزة قائلة: يمكننا تحمّل تكاليف حربين في وقتٍ واحد.
لقد حدّد ألكسندر كوكبورن هذه المشكلة منذ عقود مضت. لم يكن مُولعاً بساندرز قَطّ، وكانت انتقاداته له سياسية: اتّهمه بتوجيه اليسار إلى حظيرة الديمقراطيين حتى بعد أن دمّر كلينتون الرعاية الاجتماعية، والتصويت لصالح مشروع قانون الجريمة، وقصف حلف شمال الأطلسي لصربيا، وتمويل حروب أفغانستان والعراق، إن لم نقل السماح بها. في تحليل هشاشة الحركة المناهضة للحرب التي نشأت في ذلك الوقت، مقارنة بستينيات القرن العشرين، جادل كوكبورن بأنه لا ينبغي الحكم على أي منهما بناءً على نجاحهما في إيقاف الحرب: «غالباً ما تكون الحركات المناهضة للحرب أكثر أهمية بعد اندثارها إذ تساهم بتعليم جيل جديد مواقف وتكتيِكات المقاومة». اليوم، يواجه اليسار وضعاً جديداً، حيث يشعر معظم الشباب والأشخاص الملوّنين بالاشمئزاز مما يجري تحت أنظارهم في فلسطين، وكذلك من الديمقراطيين الذين يسهّلون تلك الارتكابات. مناهضة الإمبريالية هي موقف شعبي، ولا يمكن أن تكون هامشية بالنسبة إلى مشروع إعادة التوزيع الاقتصادي، بمعزل عما قد ينشأ تالياً لمواصلة تلك التطلعات المزدوجة.
نُشِر هذا المقال في New Left Review في عدد كانون الأول/ديسمبر 2023.
عن موقع صفر