غزة والمحكمة الجنائية الدولية: قرار لا يعنينا كثيرا

العالم بأجمعه ما زال مصدوما بين مستهجن ومصفق ومستنكر خبر إصدار مذكرات اعتقال ضد مجرمي الحرب الإسرائيليين، رئيس وزراء الكيان بنيامين نتنياهو ووزير الحرب يؤآف غالانت، وثالثة ضد القائد الميداني الفلسطيني محمد ضيف. وكان كريم خان في دعوته لإصدار المذكرات يوم 20 أيار/مايو الماضي أضاف اسمين إلى مذكرات الاعتقال الشهيدين يحيى السنوار واسماعيل هنية. أي بعد كل تلك المجازر تصدر أوامر خان باعتقال إسرائيليين اثنين مقابل ثلاثة فلسطينيين. ولو كانت الاعتقالات حسب نسبة القتل لوجب اعتقال ثلاثة آلاف إسرائيلي مقابل ثلاثة فلسطينيين.
المنطقة الوحيدة في العالم التي لم تكترث بهذا القرار هي غزة وشعب غزة وصحافيو غزة أو من تبقى منهم، وعمال الإغاثة أو من يجرؤ على تقديم الإغاثة منهم والعاملون في مجال الصحة من أطباء وممرضين وممرضات على قلتهم. نحن في غزة لا وقت عندنا للاحتفال أو الاهتمام بشيء إلا بمحاولة النجاة من موت محقق.
ولماذ تعطي غزة أي أهمية لمثل هذا القرار؟ فلو تم تنفيذه في شهر ايار/مايو الماضي لربما خفف من حدة المجازر، ولو صدر في شهر آب/أغسطس، عندما ذكّر كريم خان الدائرة التمهيدية بالاستعجال في إصدار المذكرات، لربما حملت بعض المنفعة. أما بعد 412 يوما من المجازر فلا نرى، نحن أهل غزة، أي قيمة لهذه المذكرات إلا قيمة معنوية بامتياز. على الأقل نرى جنون الذين أوغلوا في دمنا بسبب هذا القرار لأنهم يوصمون الآن بأنهم «مجرمو حرب».
ودعنا نفصل في أسباب عدم اهتمامنا، نحن أهل غزة، في ما يصدر عن مذكرات أو قرارات أو إجراءات.
-لقد صدرت عن مجلس الأمن الدولي أربعة قرارات تدعو كلها لوقف إطلاق النار أو إعلان هدن مؤقتة، من دون أن يلتفت لها الموغلون في دمنا ولو ليوم أو بعض يوم. على العكس، فكلما كان يصدر عن مجلس الأمن قرار جديد تزيد نسبة القتل شراسة. كما صدر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة قراران يدعوان لوقف إطلاق النار واحد في شهر تشرين الأول/أكتوبر وآخر في شهر كانون الأول/ديسمبر. ولو احترم أي من القرارين لحقنت دماء كثيرة. كما صدرت عن محكمة العدل الدولية ثلاث مجموعات من الإجراءات الاحترازية المستعجلة والمهمة، إلا أنها، بالنسبة لنا، لم تحم طفلا واحدا من القتل، ولم تساهم في زيادة كميات الطحين ولو بشاحنة واحدة، على العكس من ذلك تراجعت كميات المساعدات لدرجة أننا وصلنا الآن حافة المجاعة.
إذن فما الفائدة بالنسبة لنا، صدور مذكرات اعتقال؟ نحن لدينا سؤال واحد فقط هل سيتوقف شلال الدم؟ وإذا سفك الدماء لن يتوقف فبالنسبة لنا لا فرق.
-مذكرات الاعتقال صدرت بعد 412 يوما من المجازر والتدمير وهدم البيوت والمدارس والجامعات وتعطيل الحياة بشكل كلي، وتدمير النظام الصحي وهدم المستشفيات بغالبيتها الساحقة. أخذت المحكمة 412 يوماً حتى أصدرت مذكرتين فقط لاعتقال مجرمي الحرب الإسرائيليين. أكانت جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية بهذا الغموض والتخفي كي تحتاج المحكمة لكل هذا الوقت لتصدر مذكرتين فقط؟ ألم يكن كافيا شهر أو ثلاثة أو ستة أو تسعة للاقتناع بأن هناك حرب إبادة لا تتوقف؟ فقط بعد 14 شهرا تقريبا حتى تمكنت الدائرة التمهيدية من إصدار مذكرتين يتيمتين ضد كيان بغالبيته الساحقة يمارس المذابح؟
-لقد جرى خلاف، كما علمنا من مصادرنا الغزاوية، بين القاضيات الثلاث المكلفات بإصدار مذكرات الاعتقال. القاضيتان المكسيكية والبينينية (من بنين بأفريقيا) أيدتا إصدار المذكرات منذ البداية إلا أن القاضية الرومانية يوليا موتوك، رفضت وخضعت لضغوط سياسية. فبلادها التي تتملق للكيان وحاميته الأولى أمريكا، لا تريد أن تسجل أن قاضية رومانية وافقت على إصدار مذكرة اعتقال لأصدقاء بلدها الأعزاء من مجرمي الحرب الإسرائيليين. وعندما لم تجد مناصا من الالتزام بالقانون فضلت الاستقالة بحجة أسباب صحية، واستبدلت فورا بقاضية سلوفينية، بيتي هولر، وبعدها استقامت الأمور بسرعة وصدرت المذكرات على وجه السرعة. محكمة تخضع للضغوط السياسية وينصاع قضاتها لأوامر من خارج المحكمة ولإرادات سياسية من خارج القانون، لا نعول عليها كثيرا.
-ما نعرفه نحن في غزة، أن المحكمة متخصصة في محاكة الأفراد الذين يرتكبون جرائم الحرب وجرائم ضد الإنسانية. أي أن المحكمة غير معنية بالدول والجماعات المسلحة بل بالأفراد الذين يمارسون القتل والتدمير والتجويع والتعذيب والاغتصاب واستهداف المعالم المدنية والمؤسسات الدولية الخاضعة للحماية. فعندما نرى أن قضاة المحكمة يقصرون مذكراتهم على إثنين فقط من أصحاب القرار ويتجاهلون الآلاف غيرهم فلا نستبشر خيرا. كيف تفسرون لنا استثناء من أوكلت له مهمة القتل والتدمير وهو رئيس الأركان العسكري، هيرتس هاليفي، الذي يمارس القتل فعلا ويصدر الأوامر بتدمير المربعات السكنية والمستشفيات المكتظة بالمصابين، والملاجئ المزدحمة بالأطفال والنساء؟ كيف يمكن أن نقتنع أن المحكمة محايدة ومهنية وهي تستثني قادة المحاور والقطاعات وقواد الألوية والكتائب والطيارين الذين يسقطون القنابل ذات الوزن الثقيل على الهاربين من جحيم القصف المدفعي؟ كيف يمكن أن يستثنى من مارسوا الاغتصاب علنا وصوروه على الفيديو ونشروه؟ كيف يمكن أن يستثنى من أطلق النار على عائلة هند رجب ابنة الست سنوات التي ظلت تصرخ ثلاث ساعات طالبة النجدة بعد مقتل أفراد عائلتها الخمسة فما كان من جيش القتلة إلا أن أرداها فوقهم وأطلق النار على سيارة الإسعاف التي هرعت لنجدة العائلة؟
كيف لم تصدر مذكرة اعتقال واحدة ضد قتل الصحافيين جهارا نهارا على الهواء مباشرة كما شاهدنا ما حدث لوائل الدحدوح وزميله المصور الشهيد سامر أبو دقة، وهذا بعد استهداف عائلة الدحدوح عن قصد وسبق إصرار. لماذ لم تصدر مذكرات اعتقال ضد قتلة 221 موظفا تابعا للأمم المتحدة؟ لماذا لم يصدروا مذكرة اعتقال واحدة ضد من استهدف الأطباء الفلسطينيين وعمال الصحة الذين تجاوزوا الخمسمئة؟ بعض الأطباء تم تعذيبهم حتى الموت بل تم اغتصاب بعضهم كما تبين في تحقيقات دولية مؤخرا في قضية مقتل عدنان البرش والطبيب زياد الدلو وغيرهم؟
إذن نحن لا نرى أن قرار المحكمة بإصدار مذكرتين فقط لاعتقال مجرمي حرب من بين آلاف المجرمين، أنصف غزة وأهل غزة وضحايا غزة. نريد أن نرى كلبشات الاعتقال في أيادي كل من ولغ بالدم الفلسطيني في غزة والضفة ولبنان. نريد أن نرى محاكمة للكيان نفسه الذي أقيم على بقايا شعب فلسطين وأرض فلسطين ومدن فلسطين وكروم فلسطين ومؤسساتها قبل أن يصل المهاجرون الذين قذفت بهم أوروبا بغية التخلص منهم. هناك خلقت معاداة السامية وهناك استهدف اليهود كيهود لا في بلادنا. ثم يحاولون الآن أن يحتكروا دور الضحية ويتهمونا بالإرهاب؟
وأخيرا، نحن لن نعير هذا القرار أي أهمية، لا وقت عندنا. فنحن نقضي أوقاتنا نبحث عن طعام أو ماء أو دواء أو مأوى، أو مكان ندفن فيها شهداءناء.
أما أنتم يا أبناء شعبنا وأصدقائنا في كل مكان فاستغلوا القرار لتوسيع دائرة المدافعين عن قضية فلسطين العادلة. هذا القرار سيساهم في عزلة الكيان ومجرمي الحرب الذين ينفذون المجازر. هذا القرار سيعري الولايات المتحدة التي جن جنونها لصدوره. وها هي تقف وحيدة في دعم هذه الجرائم لأن الحرب على شعبنا في غزة هي حرب الولايات المتحدة بشكل مباشر. بل وإننا نتوقع المزيد من الجرائم والمذابح في عهد الرئيس القادم والثلة التي اختارها لقضايا المنطقة. لعل ذلك يؤدي إلى طوفان شامل يجتاح الدول العربية جميعها.

عن القدس العربي

About The Author

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *