ما بين الشعراء العرب الأوائل والمتنبي آلاف الشعراء، وما بينه وغيره ممن عاصروه وجايلوه المئات.. لكن من اصطفاهم التاريخ قلة قليلة نالت حظها من الخلود وإن تباين إنصافهم وتنوع مريدوهم، فللتاريخ غربال نزيه لا يشعر باهتزازاته السديمية إلا المدركون لحقائق الكون وحقيقتهم، العارفون بحيزهم وحجمهم ونوعية وقيمة إبداعهم، والمطلعون على تجارب غيرهم وتجاربهم بعين ناقدة تنطلق من الذات، ولكنها تقارب الآخر وتعود لمرجعياته التاريخية أيضاً.. وكل هذا على ما يبدو لم يعد يحدث في هذا الزمان، فثمة تطاول على الإبداع عامة، وعلى الشعر والشعراء خاصة، يقوم به الأفراد جهراً وبتواطؤ مقصود أو غير مقصود من المؤسسات الثقافية والإعلامية..
التطاول على الشعر يكمن بهذا الخلط بينه والأجناس الأخرى، فلا أوزان بحور ولا تفعيلة ولا موسيقى داخلية ولا تكثيف لغوي ولا رؤيا .. وبالتالي لا نثر ولا شعر.. ومع كل هذا يتجرأ أصحاب هذا الهذر بنشر سخافاتهم ضمن كتب أنيقة يطلقون عليها اسم «شعر» ويصير صاحبها «شاعر» بكل صفاقة ..
وهي ليست حالات عابرة، بل هي ظاهرة منتشرة في كل أنحاء الوطن العربي، وباتت كالموضة عند بعض أنصاف المثقفين، لكنها تتدرن فيبلدان أكثر من غيرها تبعاً للوضع المالي الذي يمكن أصحاب «البرستيج » من دفع تكاليف طباعة كتبهم .. ومع هذا يلمع السؤال في هذاا لضباب : هل من يمتلك ديواناً أو أكثر صار شاعراً؟
إن ثمة مدعيين لا يغربلهم غربال التاريخ، لأنهم ليسوا فيه أساساً، لكن الأنكى أن ثمة «نقاد» يقومون بدراسة هذه الدواوين، ويؤلفون الكتب عنها، ويركبون الخطأ على الخطأ ليصلون إلى خطيئة ثالثة ..
هذا التطاول على الشعر لا يتوقف عند الأفراد وحسب، بل تشارك به المؤسسات الثقافية والإعلامية.. الثقافية تقوم باحتضان هؤلاء المدعين، وتروج لهم ولأعمالهم ضمن الأمسيات واللقاءات وحفلات التوقيع… والإعلامية تقوم بشكل مقصود أو غير مقصود بتغطية تلك المهازل..
أما المؤسسات القائمة على صناعة الكتاب، فالخاصة منها يخجل بعض أصحابها أحياناً من إصدار كتاب يتطاول على الشعر بإسمها، خوفاً على سمعتها، ويرفض البعض الآخر لقناعته بدوره التنويري ومسؤوليته التاريخية، أم الغالبية الساعية للربح فلا تأبه إلا بموافقة الرقابة.. والسائد هذه الأيام أن كل دور النشر لم تعد تدفع حقوق التأليف إلا للكتّاب الكبار، وكأنه صار الفارق الوحيد بين المبدع وغيره هو القدرة على دفع التكاليف..
أما التطاول على الشعراء فلم يتوقف على تلويث أسمائهم بالمجاورة والادعاء والاستهتار بمجهودهم التاريخي مساواة لهم بغيرهم دون حسيب أو رقيب، بل هناك تطاول بشكل واضح من قبل هؤلاء الشعراء المدعين، ومن قبل بعض الإعلاميين، أما بالتطاول على شعراء كبار بشكل شخصي، أو بالتطاول على محبيهم أو المعجبين بهم، ولا يتوقف الأمر على هؤلاء، بل على المؤسسة التي يعملون بها، وعلى الجهات المسؤولة عن الرقابة في وسائل الإعلام، فالرقابة ليست فكرية أو سياسية أو دينية وحسب، بل أخلاقية أيضاً.
والمفارقة الصارخة الآن هي وسائل التواصل الاجتماعي عامة والفيس بوك خاصة .. ففي هذا الفضاء المباح تتم استباحت كل القيم والمعايير ولم يعد للتطاول مقاييس أمام السرقات في وضح النت والادعاء والزعم .. وكأنهم يكذبون على العالم وصدقون انفسهم .. ركاكة واخطاء املائية ونحوية وجملة من ديوان وثانية من دكان وأخرى من علّان .. وتصفيق وتخبيص .. يارعاكم الله ..