غاليبولي، مضيق الدردنيل

قريبا من هذه البقعة استشهد اسماعيل عبدالله الحروب، الشقيق الاكبر لجدي، يوم 19 مايو 1915  في احد اهم المعارك التي خيضت في حملة الحلفاء القاسية لإحتلال جزيرة غاليبولي ومضيق الدردنيل الذي ينفتح على بحر مرمرة ويقود الى استانبول. كان ذلك في ذروة الحرب العالمية الأولى، وتجند اسماعيل مع الوف من الشباب اليافع في فلسطين وسورية ولبنان والعراق وكردستان في نظام الخدمة الاجبارية، السفربرلك. اليوم وبعد مرور اكثر من قرن على استشهاد اسماعيل والالوف من العرب نقف على قبره الرمزي في الجزيرة بعد بحث مضني قام به شقيقي د. انيس الحروب من الجامعة الامريكية في بيروت. وقفنا على رأسه وقرأنا فاتحة متأخرة. جدي خليل ذرفت عيونه دمعا ساخنا اليوم وهو كان قد غادرنا في ثمانينات القرن الماضي، وجرح مغادرة اخيه الاكبر وعدم عودته سالما الى وادي فوكين ينز دما ودمعا وحزنا مريرا. اسماعيل اصيب خلال المعارك وعرضت عليه قيادة الفرقة إعادته الى موطنه، لكنه رفض وكان كغيره قد استبد به حماس الحرب والدفاع عن الدولة العثمانية ضد الانجليز و”الكفار”. أعيد الى المعركة واستشهد في احدى جولاتها. حملة غاليبولي التي أمر بها تشرتشل فشلت بعد شهور طويلة من الكر والفر والقتل والدم في قلب الاجواء الباردة والثلج والجوع. في آب، اغسطس، 1915 جاء اتاتورك وانضم بفرقته الى المدافعين، والهب حماسهم، وبدأ ميزان المعركة يميل لصالح الجيش التركي وفرقه العربية إلى ان تمت هزيمة الحلفاء واغراق السفن البريطانية في مضيق الدردنيل. سيدي خليل كان يقول لنا إن شقيقه اسماعيل كان متمركزاً على المضيق وراء مدفع “متر اليوز” ولم تمر  ولا سفينة بريطانية خشية ان يضربها اسماعيل.

الى جانب قبر اسماعيل هناك قوائم لشهداء يصعب احصائهم، لكن المهم والمفيد ان توثيق اسماء الشهداء كان قائما الى جانب المدن التي جاءوا منها. نقرأ لافتات تخبرنا عن شهداء جاءوا من القدس، وغزة، و حيفا، ونابلس، ويافا، ومن حلب، ودمشق، والسليمانية، والموصل، وغيرها.

احد المتاحف على الجزيرة يصور بشكل مذهل احد معسكرات او مستشفيات الهلال الاحمر التركي آنذاك. خيم فيها تماثيل لجنود قيد التمريض، بعضهم قطعت ساقه او ساقيه، بعضهم يخضع لعملية جراحية بأدوات بسيطة، وبعضهم تعابير وجهه تصرخ.

تشتعل كل عواطف احفاد شقيقك يا اسماعيل وهم يتخيلونك تُعالج في هذا المعسكر الطبي. هل تألمت وصرخت بالعربية؟ من ترجم آهاتك، …، ومن ترجم حماسك بعد ان شفيت وعدت الى المعركة. اسماعيل كان في مطلع العشرينات كباقي الوف شباب العرب. بعضهم كان متزوجا وترك ابناء واحفادا. لكن كلهم الآن هنا، ارواحهم تحيط بالزائرين. حقهم علينا ان ننبش تاريخهم ونؤرخه، ان نعرفهم واحدا واحدا، وان نبحث عن كل ما له علاقة بهم … هوياتهم، وثائقهم، صورهم ان توفرت.

في اقصى نقطة جنوب الجزيرة يبهرك صفاء ازرق الماء ولازورده وصمته المهيب الرهيب. ماذا لو تنطق ايها الماء، لو تقول لنا ايها البحر كيف كان شباب فلسطين يقضون ليلهم وسط المدافع، عن ماذا كانوا يتحدثون، كيف كانوا يتسامرون، ما الاحلام التي اسروها لبعضهم البعض فيما لو كانت يد القدر اكثر حنوا عليهم ومنحتهم النجاة.

سوف نُنطق الماء والبحر وتراب الجزيرة ونسمعُ همس ارواحكم  … هذا اقل ما يمكن ان نفعله لصفحات تاريخ كتبتموها لكن لم تصلنا بعد.

About The Author

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *