عيد العمّال وإعادة انتاج المعنى

ـ تسجّل عيد العمال في الروزنامة البشريّة كحدث مصمّم في نضال حركة العمل العالمية ضد المشغّلين مالكي وسائل الإنتاج. حدثّ هو سلسلة وقائع معمّدة بالدمّ، في إطار صراعٍ حقيقيّ ـ على الأرض بالعصيّ والسلاح وما أوتي العمال من عزم أو من ضعف، بما حقّقوه من إنجازات وبما قدّموه من تضحيات بالأرواح طيلة القرن التاسع عشر في أستراليا وأمريكا الشمالية وأوروبا ومواقع أخرى عبر العالم حيث انتظم العمّال وناضلوا من أجل تحديد ساعات العمل وتحسين شروطهم وأجورهم.
ـ ترسّخ اليوم رمزًا لحركة العمل بأطيافها الشيوعية والاشتراكية والاجتماعية، لا سيما في عهد المنظومة الاشتراكية بقيادة الاتحاد السوفييتي،
ـ الرأسمالية العالمية التي رأت تمدّد الحركة العمّالية وإنجازاتها فضّلت أن تتوصّل معها إلى اتفاقيات وتفاهمات في أقطارها فأتت دولة الرفاه الاجتماعي كنقطة توازن تاريخية سياسية اجتماعية حقوقية بين الحركة العمالية ومناصريها وبين الرأسمالية.
ـ بفضل إنجازات دولة الرفاه ـ في أوروبا كمثال ـ من بينها توفير التعليم المجاني لأبناء كل الطبقات مع شبكة متطورة من الضمانات الاجتماعية صارت الأحزاب الشيوعية واليسارية عمومًا تمثّل أكثر وأكثر فئات وسطى مثقّفة ومتعلّمة بينما انتقلت الفئات العمّالية تدريجيًا إلى تأييد أحزاب اليمين الشعبوي ـ وهو ما يفسّر ضمور أحزاب اليسار في أوروبا الأمر الذي ترك أثره على مواقع أخرى.
ـ الدول الاشتراكية في كل مكان وإن كانت نواياها المُعلنة طيّبة أخفقت في ضمان ديمومتها كدولة رفاه عمّالية العقيدة. فالفشل الداخلي السياسي والاقتصادي ـ المركزية الاقتصادية والديمقراطية المركزية كما مورستا ـ سهّل انقضاض الرأسمالية عليها وعلى معانيها حتى انهيارها بشكل شبه كليّ الأمر الذي شكّل ضربة للحركة العمالية ومُنجزاتها.
ـ الثورة التكنولوجية والمعلوماتية في الدول الصناعية المتطوّرة غيّرت فيما بعد من خارطة الطبقات والفئات الاجتماعية وقلّصت حجم الطبقة العاملة التقليدية إلى أقلّ من 20% في معظم الدول وأسهمت في تغيير مفهوم العمل ومكانته والطبقة العاملة ومفاهيم تتصل بها بما فيها الأوّل من أيار كمورد رمزي.
ـ النيوليبرالية المندفعة والعولمة بوصفها حركة منفلتة للبضائع والمال والعمالة وخطوط الإنتاج والسياسات والمعايير والمفاهيم دكّت “الحصون القديمة” كالدولة القطرية والمجتمعات والتفاهمات والنقابات والطبقات ودولة الرفاه وما تعنيه من ثلاث حلقات من الحقوق ـ السياسية والمدنية والاجتماعية ـ الاقتصادية. ووضعت سياسات عابرة للقارات لفرض قِيَمها وعقائدها بوصفها القدر المحتوم وأفضل ما يُمكن للإنسان أن يحلم به وأعلت شأن النمو الاقتصادي كقيمة عليا على حساب كل ما أنجز سابقًا!
ـ أقترح علينا أن نرى حركة التاريخ في عُمقها كي يصحّ التعامل مع الأول من أيار الذي أعلنته الأممية الاشتراكية عيدا عماليًا في العام 1891 ثم أعلنته عطلة رسمية للعمال في العام 1904. للتذكير ـ نحن اليوم في العام 2020 وحيال تغيّرات في العمق، ومن علامات المرحلة ضمور مفهوم الثورة والعنف الثوري المقدّس وانزياح هذه الطاقات نحو “التغيير الاجتماعي” و”المُرافعة القانونية” وهي مفاهيم نافعة وممكنة التأثير في دولة الرفاه المُحاصرة والآخذة بالتفكّك.
ـ أمام النيوليبرالية المتوحّشة المأزومة دوريًا ينبغي أن نطوّر “أوتوبيا” جديدة على كلّ ما تعنيه لا أن ننشغل بفكرة كانت صحيحة ونافعة في حينه. يُمكن الاستفادة من التجربة لكن حذارِ من نسخها أو الركون إلى الحنين المُفرط تجاهها.
ومع هذا وذاك ـ لا زلت أكنّ الاحترام المشوب بالأسى على أناس أعرفهم ولا أعرفهم من ثلاثة أجيال لا يزالون يوزّعون الورد الأحمر في صبيحة الأوّل من أيار من كلّ عام.