عودة «مقاتلي الحرية» وثقافة الاستعمار الذي فقد مشروعه
تعتبر مسألة «مخلّفات الاستعمار» واحدة من أهم القضايا، التي دار حولها الجدل طويلاً بين مختلف التيارات الفكرية، المعنية بالتنظير للتحرر الوطني وما بعد الاستعمار. ورغم اختلاف وجهات النظر حول الموضوع، وأحكام القيمة المتعددة عنه، إلا أن هناك إجماعاً على أن الدول الاستعمارية خلّفت شيئاً ما بعد خروجها من مستعمراتها السابقة: هيكلاً لجهاز الدولة؛ بنى عسكرية وإدارية؛ أنظمة تعليمية؛ فئات اجتماعية مرتبطة ثقافياً بالمستعمر؛ لغات وأعرافاً ونخباً، كما أن كثيرين ذهبوا إلى أن نظرة أبناء المستعمرات لذواتهم، بل الذات المُستعمَرة نفسها، هي من مخلفات الاستعمار، التي يجب تفكيكها، ضمن تفكيك «السردية الاستعمارية» بأكملها.
إلا أن هذا المنظور لا ينطبق على ما يبدو على حالة الاستعمار الأمريكي المعاصر، خاصة في أفغانستان والعراق، حيث بدا المستعمرون «بريئين» من تشكيل ذات استعمارية مُستلبة. خرجت القوات العسكرية الأمريكية فخلفتها ميليشيات وفصائل شديدة الانتماء المحلي، سواء كان قبلياً أو طائفياً أو إسلامياً، لا تخفي عداءها لثقافة الأمريكيين وديمقراطيتهم وأنماط حياتهم. هنا يمكن الحديث عن احتمالين: إما أن الاستعمار الأمريكي بلا مشروع تنظيمي واجتماعي وثقافي، على خلاف معظم أنماط الاستعمار الحديث، وهذا قد يكون أحد أسباب فشله في الاستمرار على المدى الطويل؛ أو أن من خلفوا المستعمرين هم الذوات المٌستعمَرة المفضّلة للأمريكيين، و»محليتهم» ليست أكثر من إعادة إنتاج استعمارية، لما يُظن أنه الخصوصية الثقافية لأبناء المستعمرات.
الرئيس الأمريكي جو بايدن حاول توضيح موقف بلاده، عندما قال: «مهمتنا في أفغانستان لم تكن أبداً بناء دولة» وهو تصريح لافت، يخالف ما يقوله عادة قادة الدول الاستعمارية السابقة، مثل الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، الذي تحدث بإيجابية عن دور فرنسا في بناء نموذج للدولة في مستعمراتها، رغم إقراره بجرائم الاستعمار. يعطي هذا بعض الخصوصية للهيمنة الأمريكية على المستوى الثقافي، فعلى الرغم من أن أمريكا من آخر دول العالم، التي تسجّل نفسها رسمياً في المنظمات الأممية، بوصفها محتلةً لدول أخرى، إلا أنها لا تبدي كثيراً من السمات التقليدية للإمبراطوريات الاستعمارية الكلاسيكية، وسبق لها لعب دور تاريخي مهم في إنهاء تلك الامبراطوريات، ما يجعل من غير المستغرب أن دراسات ما بعد الاستعمار، ازدهرت بشدة في الجامعات الأمريكية، فهل الاحتلال الأمريكي بريء فعلاً من إنتاج ذوات استعمارية؟ ولماذا لم يُعن الأمريكيون ببناء هياكل استعمارية، تضمن ألا يعود مناهضوهم الأكثر راديكالية إلى حكم مستعمراتهم السابقة؟
أين النخب الاستعمارية؟
بالنسبة لمفكري ما بعد الاستعمار، مثل الهندي راناجيت جوها مؤسس مدرسة «دراسات التابع» احتُكرت كتابة التاريخ، أي القدرة على الإنشاء الثقافي والتأثير الأيديولوجي، من قبل نخبتين: نخبة المستعمِرين، ومنهم المسؤولون الكولونياليون والمثقفون المنحدرون من الدول الاستعمارية؛ ونخبة أبناء المستعمرات، أي قادة الحركة الوطنية، الذين تتلمذوا في المدارس التي افتتحتها الإدارات الكولونيالية، وورثوا التقاليد الثقافية التي خلّفها المستعمرون. كبت التأريخ العالق في منظور النخب دوماً أصوات «التابعين» أي أبناء الطبقات الأدنى، من فلاحين أميين؛ حرفيين دُمّرت صنائعهم المتوارثة؛ نساء أجبرن على سلوك «تقدمي» و»تحديثي»؛ إلخ، الذين فقدوا «قدرتهم على الكلام».
يُفهم من عمل جوها وتلامذته أن وطنيي المستعمرات، رغم قيادتهم للحركات الاستقلالية، كانوا على صورة الاستعمار ومثاله، أي أنهم تبنّوا المنظور الثقافي التحديثي للمستعمر، ونظروا إلى ذواتهم ومجتمعاتهم بأسلوب مشابه لنظرة المحتلين، لكنهم تنافسوا مع الامبراطوريات الكولونيالية على أحقية قيادة مجتمعاتهم، المنتهكة والمستلبة دوماً من قبل منطق نخبوي، لا يفهم فعل أبناء المستعمرات، الأكثر فقراً وتهميشاً، إلا بعد ترجمته إلى لغة السرد الكولونيالي. وجوهر مدرسة «دراسات التابع» كان إعادة بناء «باردايم التمرّد الفلاحي» أي منظور التابعين أنفسهم. ورغم حكم القيمة السلبي، الذي حملته تلك المدرسة ضد نخب أبناء المستعمرات، إلا أنها تتوافق نوعاً ما مع منظور ماركسي ديالكتيكي، ساد لفترة طويلة من القرن العشرين، وهو أن الرأسمالية، في طورها الإمبريالي، خلقت «حفّاري قبر» الاستعمار، أي قوى حديثة في المستعمرات، ارتبطت بالمحتلين ثم تمرّدت عليهم، ومنها بورجوازية وطنية وطبقة عاملة محلية، كانت أساس حركات التحرر الوطني في العالم الثالث.
إلا أن «حفّاري قبر» الاحتلال الأمريكي المعاصرين لا يشبهون كثيراً النخب، التي انتقدتها مدرسة «دراسات التابع» فسواء تحدثنا عن حركة طالبان في أفغانستان، أو الفصائل المسلّحة الموالية لإيران في العراق، نرى مقاتلين من الفئات الأكثر تهميشاً وأمية، لم يدرسوا في مدارس أمريكية، ولم يقلّدوا المستعمرين يوماً في ملبسهم وعاداتهم، هل هؤلاء من «التابعين» الذين تحدث عنهم جوها؟ وهل وفّر الاحتلال الأمريكي، بسبب عدم اهتمامه بالتحديث، فرصة للتابعين كي يتكلموا؟
الموضوع شديد التعقيد، فهؤلاء المسلحون المعادون لأمريكا كانوا حتى التسعينيات «مقاتلي الحرية» حسب تعبير رئيسة الوزراء البريطانية مارغريت ثاتشر، أي الجهاديين الذين دعمتهم أمريكا وبريطانيا، وبعض الدول الإقليمية، مثل باكستان والسعودية، لمواجهة المد الشيوعي في الدول الإسلامية، وبالتالي يطابقون التصور الأنكلوفوني عن «الخصوصية الثقافية» للمجتمعات الإسلامية، وربما ما زال الاعتراف بهم، بوصفهم ممثلين لثقافة محلية قمعها التحديث، من أساسيات ما يسمى «يساراً ليبرالياً» في الدول الناطقة بالإنكليزية، والفئات المتأثرة به حول العالم، وفي صلب سياسات «التعددية الثقافية» التي تعتبر نقد الأسلمة نوعاً من المركزية الثقافية المُستنكرة، ولذلك فإنهم، إلى حد ما، على صورة ومثال التوجه الاستعماري المعاصر، الذي يرى أن من أساسيات الديمقراطية إتاحة المجال لمجموعات الهوية، كي تعيش ثقافاتها وتعبّر عن نفسها، حتى لو تطلّب الأمر إعادة بناء الهويات بشكل مصطنع، وظهور حركات وتيارات حديثة للغاية، تدّعي انتماءها لثقافة، لم توجد يوماً بالشكل الذي نعاينه في أيامنا.
إنها لعبة مرايا معقدة، ربما كانت ستثير حيرة جوها وتلامذته، فحتى عندما يتكلّم التابعون بلغتهم الخاصة (لغة طلّاب المدارس الدينية التقليدية في حالة طالبان) سيطابقون منظوراً استعمارياً ما عن خصوصيتهم بوصفهم تابعين. وإذا اعتبرنا طالبان، بشكل ما، حركة تحرر وطني، فهي بالفعل مطابقة لتصورات الاستعمار الأمريكي عن «المحلية». أي أن الأمريكيين، مثل كل المستعمرين، خلقوا فئات متمرّدة على صورتهم ومثالهم. لكن كيف يمكن للثقافة والأيديولوجيا الأمريكية، التي تحتفي بالحرية، أن تساهم بإنتاج مقاتلي طالبان، وما يُسمى «الميليشيات الولائية» في العراق؟
ثلاث موجات أمريكية
كان دعم «التقليد الإسلامي» و»مقاتلي الحرية» أحد ثلاث موجات ثقافية أمريكية، تطوّرت في النصف الثاني من القرن الماضي، وساهمت في بناء عالمنا المعاصر بشكل كبير. الموجة الثانية كانت تمويل الفنون والآداب الذاتية والتجريدية، في مواجهة «الفن الملتزم» الذي دعمه الاتحاد السوفييتي؛ والثالثة سياسات الهوية، التي تصاعدت بعد انهيار الكتلة الشرقية، وما زالت مستمرة حتى اليوم.
نمط التحديث الأمريكي لا يقوم إذن على تأسيس دول ذات أيديولوجيا تنويرية، تعتبر الدولة متعالية على الجماعات المحلية؛ أو أن المواطنة، أي الانتماء المجرّد للدولة، سابقة على الهوية الثقافية، بل ينبني على اعتبار أن كل الهويات المحلية، والانتماءات الدينية والعرقية والثقافية، قابلة للاندماج في منظومة واحدة، قائمة على مزيج من البراغماتية الاقتصادية والأداتية التكنولوجية. وعندما بدا نموذج التحديث هذا متعثّراً في الشرق الأوسط ووسط آسيا، أعلن الرئيس الأسبق باراك أوباما، في «عقيدته» التي نشرها بعد تركه منصبه، أن هذه المناطق غير مفيدة للمستقبل، الذي رآه مقبلاً من جنوب شرق آسيا. والسياسة الأمريكية منذ عهد أوباما، مروراً بترامب نفسه، ومن ثم بايدن، ما هي إلا ترك المناطق، التي لا مستقبل لها، لمصيرها. ربما كان مقاتلو طالبان والميليشيات الولائية، بهذا المعنى، نتيجة مشوهة للتحديث الأمريكي الفاشل، تماماً كما يمكن اعتبار جنرالات الجزائر «العلمانيين» مثلاً، نتيجةً مأساوية لتحديث الاستعمار الفرنسي.
مناهضة الفشل
لا يمكن توقّع نتيجة الاستراتيجية الأمريكية في المنطقة، وإن كانت قد نجحت بتحقيق أهدافها المعلنة، أي إبعاد خطر الإرهاب عن الحدود الأمريكية، وليس بناء الدول، لكن في كل الأحوال يبدو احتلال طالبان للعاصمة الأفغانية كابل، بعد عشرين عاماً من أحداث الحادي عشر من أيلول/سبتمبر، ضربة معنوية كبرى للسياسات الأمريكية، وتجسيداً لفشل ثقافي ورمزي لأمريكا، بنشر نموذجها للديمقراطية الليبرالية بشكل تبشيري في العالم. ربما تكون استعادة نزعة ضد أمريكية مناسبة للغاية في الشرط الثقافي العالمي المعاصر، فبعيداً عن رواسب أيديولوجيات التحرر الوطني ومعاداة الإمبريالية، تتطلب مواجهة التصحّر الثقافي، الذي خلّفه الوجود الأمريكي الفاشل في المنطقة، عملاً سياسياً وأيديولوجياً مناهضاً لكثير مما أنتجته الموجات الثقافية الأمريكية، وعلى رأسها الخصوصية الثقافية وسياسات الهوية. وإلا فقد يكون مصير المنطقة الغرق لفترة طويلة في فوضى مقاتلي الميليشيات «الأصلاء» الذين خلّفهم الأمريكيون ورا ءهم.