عن هبّة الخير في الداخل وأبعادها…
لا يُخفي فلسطينيّو الـ٤٨ شعورهم بالرضا عن الذات، وهم يمارسون ويشاهدون التجنّد الشعبيّ الواسع في حملات التبرّع لفلسطينيّ قطاع غزّة، الّتي نشهدها في الأسابيع الأخيرة في مختلف المدن والقرى، في النقب والساحل والمثلّث والجليل. ويبدون وكأنّ نيْرًا أزيح فجأة عن أعناقهم.
كيف بدأ كلّ ذلك، وما هي معاني وأبعاد هذا الحراك الإنسانيّ، وأين السياسيّ في ذلك.
لقد أرخت حكومة الأبرتهايد جزئيًّا قبضتها على حراك “نقف معًا” اليهوديّة العربيّة، المسجّلة كجمعيّة، في حملتها لجمع التبرّعات لصالح أهل غزّة، فأتيح لنشطائها أن يتحرّكوا بحرّيّة في تنفيذ حملة إغاثة. وربّما هذا ما أتاح لجمعيّات عربيّة عديدة، معروفة بالعمل الإغاثيّ، بوتيرة أكبر ممّا كان في الأشهر الأولى لحرب الإبادة، رغم حملات الملاحقة الشديدة، مثل تعليق عمل جمعيّات وتجميد حسابات بعضها، واعتقال العديد من نشطائها، بتهمة الإرهاب.
لن أخوض في النقاش، وهو نقاش شرعيّ وضروريّ، بخصوص عمل هذه الجمعيّات، والقواعد الّتي تضبط عملها، وأجندات بعضها، وبخصوص غياب المركز العربيّ السياسيّ الجامع عن عمليّة قيادة هذه الحملات. لقد خاض فيه كثيرون، من على صفحات التواصل الاجتماعيّ، وهو نقاش قديم جديد، يعكس التحوّلات الخطيرة في نظرة الدولة اليهوديّة إلى فلسطينيّ الداخل، وكذلك يعيد التذكير بأزمة العمل السياسيّ العربيّ الّتي تفاقمت في العقد الأخير.
لقد بدت حملة التبرّعات المستمرّة كهبة خيريّة مثيرة، اتّسمت بالحماس، بل باندفاع عاطفيّ فائض، وشغف جارف لتقديم المساعدات المادّيّة، ممّا فاجأ مؤسّسة الأبرتهايد، لدرجة أنّ بعض المسؤولين طالبوا بسحب المواطنة من بعض منسّقي حملات التبرّعات. وعندما تستمع إلى أحاديث الناس في مجالسهم، تلمس الانبهار بأنفسهم، والرضا عن الذات. بل تستطيع أن تلمس إحساسهم بالمفاجئة من هذا الاندفاع في بذل العطاء المادّيّ، الّذي لا ينفصل عنه البعد الروحيّ. بخصوص هذه الحملة نحتاج إلى الإجابة، ولو بإيجاز على سؤالين:
لماذا هذه العدوانيّة الشديدة من جانب نظام الإبادة، ولماذا هذه الفزعة الّتي قام بها فلسطينيّو الـ٤٨، وكيف نفسّر هذا الحماس الجارف.
بخصوص نظام الإبادة. في بداية عدوانها على غزّة، خطّطت إسرائيل لتنفيذ خطط قديمة تتمثّل في تفريغ القطاع من الديمغرافيّة الفلسطينيّة. وقد أعملت حربًا إباديّة متوحّشة مجنّدة المجتمع الإسرائيليّ وحلفائها الغربيّين الإباديّين لنيل الشرعيّة لهذا الإجرام المهول. ولكنّ أهالي غزّة، وغالبيّتهم هم ممّن طردوا عامًا في الحرب التطهيريّة الأولى عام ١٩٤٨، أظهروا صمودًا أسطوريًّا، وإن بكلفة باهظة. وإزاء هذا الصمود، راحت إسرائيل تصنع عوامل الإبادة البطيئة، أي الّتي يمكن أن تتحقّق عبر التجويع ومنع الدواء وغيره. هي اضطرّت إلى إتاحة تمرير المساعدات القليلة، فقط بعد ضغوط المؤسّسات الدوليّة، وبعد انفضاح خطّة إسرائيل السافرة والمكشوفة بتنفيذ حرب إباديّة. ولكنّها ظلّت تمنّي النفس بوقوع اليأس عند معظم الناس ودفعهم إلى ترك القطاع. ولهذا كلّ إمكانيّة للمساعدة تعني الاعتراض على خطّة الإبادة الصهيونيّة، أو التشويش عليها، أي تحدّي النظام الصهيونيّ.
إنّ ما يجمعه فلسطينيّو الـ٤٨ من تبرّعات على أهمّيّتها المادّيّة، يظلّ جزءًا يسيرًا جدًّا؛ ممّا تحتاجه غزّة للبقاء ولإعادة الإعمار، والّذي لا تستطيع توفيره سوى دول غنيّة، وليس هذا فقط ما يقلق مؤسّسة الأبرتهايد الإباديّ، إذ من الأهداف الأخرى للحرب، استهداف كلّ تجمّعات الشعب الفلسطينيّ، أي القضيّة الفلسطينيّة برمّتها، بكافّة عناصرها، ومكوّناتها، وحقوق هذه المكوّنات. وفلسطينيّو الـ٤٨، باتوا منذ زمن طويل هدفًا صريحًا للمخطّط الصهيونيّ، الّذي خيّرهم، بين السكوت وقبول دونيّتهم، كمواطنين من الدرجة الرابعة أو الخامسة وكجماعة منفصلة عن بقيّة الشعب الفلسطينيّ، أو الطرد. وقد توسّع وتغوّل هذا المخطّط مع تعاظم التطرّف الصهيونيّ، من جهة ومع تطوّر الوعي الوطنيّ، وارتفاع الوزن الديمغرافيّ، ونموّ القوّة السياسيّة لهذا الجزء من الشعب الفلسطينيّ، من جهة أخرى.
ومع بداية هذه الحرب، أقدمت إسرائيل على فرض أشبه بحالة طوارئ علينا، تقوم خلالها بتنفيذ حملات ملاحقة غير مسبوقة من حيث شدّتها وعدوانيّتها.
ولم تعد تكتفي إسرائيل باستهداف هذا الجزء من شعب فلسطين، والعلاقة الّتي توطّدت مع أهالي الضفّة والقطاع وغزّة، خلال العقود الأخيرة، بل النسيج المجتمعيّ، وذلك ضمن مخطّط ذي وجهين؛ استهداف الوجود الفيزيائيّ عبر التهجير وهدم البيوت، وفاعليّتهم السياسيّة. وفي حالة فشل تحقيق هذين الهدفين الاستعماريّين، يصبح تدمير المجتمع من الداخل هدفًا ثالثًا. والحقيقة أنّ جزءًا من هذه الأهداف تحقّق، إذ أضعف المركز السياسيّ الجامع، المتمثّل بالهيئات القطريّة، وتحديدًا الوهن الّذي تعانيه لجنة المتابعة، وسعي المؤسّسة الصهيونيّة إلى نقل المسؤوليّات إلى السلطات المحلّيّة العربيّة، الّتي بات الكثير منها واقعًا تحت سيطرة الجريمة المنظّمة. وينطلق السلوك الإسرائيليّ الرسميّ من النظرة إلى قضيّة فلسطينيّي الداخل كقضيّة غير سياسيّة، بل مدنيّة. وتساوق مع هذا السلوك أو المسار الخطير تيّار إسلاميّ، منحرف، لم يجد عيبًا أو عارًا، وطنيًّا وأخلاقيًّا، في التحالف مع حكومة الأبرتهايد.
ويندرج إطلاق العنان للجريمة، ورعايتها من جهاز المخابرات ومؤسّسة الشرطة، كسلوك استعماريّ ممنهج لتفكيك المجتمع الفلسطينيّ، داخل الخطّ الأخضر. وربّما ظنّت إسرائيل أنّها، عبر هذه السياسة القذرة، تمكّنت من إخماد كلّ ما يمتلكه مجتمعنا من طاقة وذخيرة إيجابيّة.
ولكن تكتشف إسرائيل اليوم، رغم مخطّطات التدمير والملاحقة والإضعاف، أنّ روح هذا المجتمع لا تزال حيّة، ونابض بالحيويّة، وعامرة بالخير والخيرين. ومن هنا المفاجئة والصدمة، أي قدرة هذا المجتمع على “الانتفاض” إذا صحّ التعبير، الّذي اتّخذ هذه المرّة شكل التبرّعات والأعمال الخيريّة. وربّما هذا تعويض نفسيّ عن غياب الفاعليّة السياسيّة، والشعبيّة، المكبوتة.
ليس بالضرورة أن يقود هذا الحراك الخيريّ العارم، إلى استعادة عافية العمل السياسيّ الوطنيّ، والموقف الأيديولوجي والأخلاقيّ الصلب إزاء نظام الأبرتهايد الاستعماري القائم. فالتجنّد للعمل الخيريّ المساعد لأبناء شعبنا الفلسطينيّ كان دائمًا مبهرًا، والّذي كان أوّله بشكله الواسع، تلك الحملات الضخمة الّتي حملها فلسطينيّو الداخل إلى صانعي الانتفاضة الأولى عام ١٩٨٧، وفي محطّات لاحقة، لكنّ ذلك كلّه كان تحت سقف سياسيّ وطنيّ واضح. وهذا الأمر غير متوفّر اليوم.
مع ذلك يمكن لهذه الأجواء أن تشكّل فرصة هامّة لإعادة ترتيب الحياة السياسيّة، واستعادة البعد الأخلاقيّ والوطنيّ بكامل قوّته وتأثيره، وشرط ذلك إجراء مراجعة حقيقيّة تسهم في إعادة التماسك الداخليّ.
إنّ فلسطينيّي الـ٤٨ يظلّون رقمًا صعبًا في معادلة القوّة ضدّ الصهيونيّة وأهدافها العدوانيّة، وذخرًا في مسيرة النضال الفلسطينيّ العامّ، وقوّة ديمقراطيّة في معركة التحرّر الوطنيّ والإنسانيّ، والمساواة بين الناس. ولهذا يشكّل الحرص على بقائهم في أرضهم، وصيانة موقفهم الوطنيّ، وتقدّمهم المادّيّ والعلميّ، مهمّة وطنيّة للفلسطينيّين جميعًا.
عن عرب48