عن نماذج “الأكاديميّ” الذي نختار أن نكونه

(أهدي هذه المادة إلى الصديق د. رائف زريق لمناسبة تسميته أستاذًا)
* يُمكن أن نجد حولنا شهادة عليا بدون أكاديميا وأكاديميا بدون معرفة حقيقيّة ومعرفة بدون ثقافة بوصفها معنى وحكمًا وقُدرة على النقد والتمييز والتسمية وإنتاج معرفة جديدة*
عادة ما لا أخفي موقفي النقدي من الأكاديميا بوصفها “سلطة معرفة” و”سلطة منهج” و”سلطة برادايم” قد تُنتج الجمود والأصنام والمسوخ مثلما تُنتج العارفين والألمعيّين. كان هذا مبكرًا في الثمانينيّات، عندما لفتني إصرار أحد المستشرقين الإسرائيليين على تحليل الفلسطينيين بشكل منافٍ لجوهرهم ولجوهر تجربتهم. وحتّى أكون منصفًا أؤكّد أن حديثي محصورًا في العلوم الاجتماعيّة والآداب وإن كنّا نقدّر أنه موجود بهذا القدر أو ذاك في حقول معرفية أخرى، كالعلوم الدقيقة والعلوم الطبيعيّة والتكنولوجيا وسواها. وقد شاهدت لردح غير قصير من الزمن تأثير “المنهج” في أحد الأصدقاء حدّ تعليبه وعجزه عن رؤية شيء خارجه. كما رأيت تأثيره في عدم قُدرته عن الخروج من التشخيص إلى التقييم والحُكم كي يظلّ محسوبًا على الأكاديميا.
بمعنى أن المشاهدات اليوميّة أتاحت لي ـ ولغيري طبعًا ـ رؤية الفارق الذي يُمكن أن يكون كبيرًا بين أكاديميّ وآخر. بين أكاديميّ لا يجرؤ على الخروج من دائرة المنهج خطوة أو كلمة وبين أكاديميّ تصير أكاديميّته منصّة انطلاق لإنتاج المعرفة العمليّة والفلسفيّة وإلى المشاركة في الحياة العام والاشتباك بقضاياها. بين أكاديميّ يراوح مكانه حتى الخروج إلى التقاعد وأكاديمي يتطوّر ويُنتج معرفة جديدة كلّ عام. والمعرفة هنا، لا تُقاس بعدد الأبحاث والمقالات (المنهج) بقدر ما يُقاس بالإضافة المعرفيّة والتشخيص الصحيح للظواهر واللغة الجديدة التي يطرحها للتداول. فما أضافه المعلّم إميل حبيبي مثلًا إلى فضائنا المعرفيّ في الاجتماع والسياسة والأدب واللغة والحياة أضعاف أضعاف ما فعله كثيرون من الأكاديميين علما أنه لم يكن أكاديميًّا بالمعنى التقليدي المنهجيّ.
لا أستطيع أن أتحرّر أحيانًا في ضوء سماع هذا وذاك من أكاديميين في ندوات أو مطالعة ما يكتبون من مقالات وكُتب من الشعور أن “الأكاديميّة” تمنح الشهادات أكثر مما تمنح معرفة أو جناحين كي تطير بهما إلى مزيد من المعرفة. وليس صدفة أن نلتقي مرّات عديدة بـ”أكادميين” أمّيين لا يعرفون شيئًا خارج آخر صفحة في رسالة الماجستير أو أطروحة الدكتوراة. المعرفة عندهم تنتهي عند النقطة الأخيرة فيما كتبوه لنيل الشهادة. سيضيعون إذا تحدثت أمامهم في مسألة أخرى، في موضوع آخر، ويقولون لك مثلًا بطمأنينة وراحة نفس أن الشعر لا يعنيهم ولا الأدب ولا الاقتصاد، وأنهم مرتاحون في تخصّصهم ولا يشعرون أنهم بحاجة إلى أي معرفة أخرى! ومثلهم ذلك الأكاديميّ الذي إذا التقيته جرّك جرًّا إلى موضوع دراسته حتى لو كان تافهًا ـ نعم هناك مواضيع تافهة ـ معتبرًا أن موضوع معرفته هو آخر المعرفة.

إن عبادة المنهج والبرادايم مقرونة بتقديس الشهادات المعلّقة وما تعنيه من إنجاز في علاقة الفرد بنفسه وأهله ومُحيطه، تقودنا في الغالب إلى أكاديميّ (ة) متخصّص، تكنوقراط أو مهنيّ أو إلى أكاديميّ “عدمي” أو “قانع” أو إلى أكاديميّ مشهديّ يصير لقبه هو أهمّ شيء في “الحبكة”. ومن هنا تحديدًا، ذهاب كثيرين إلى “عناوين أكاديمية” غير معروفة لتحصيل الشهادة بدون المعرفة للاسترزاق بها أو للزينة. إذن، يُمكن أن نجد حولنا شهادة عليا بدون أكاديميا وأكاديميا بدون معرفة حقيقيّة ومعرفة بدون ثقافة بوصفها معنى وحكمًا وقُدرة على النقد والتمييز والتسمية وإنتاج المعرفة.
النموذج الأخير من الأكاديميا ـ الأكاديمي العارف المثقّف ذو المعنى والحُكم هو القادر في رأينا على أن يدخل أبواب حياتنا ويٌغنيها. ولو لسبب أنه مُقتدر ومُلهم في نقديّته وفي قُدرته على التفكيك وعلى تزويدنا بأدوات للفهم والأهمّ بأدوات قراءة الواقع والظواهر خارج نصّ السلطات. إنّه مفكك “السلطات” و”قمعها” بامتياز ومثابرة. وهنا تكمن إضافته الأساسيّة، أن يطرح البديل المعرفي الفلسفيّ لما هو “طبيعيّ” وما هو “مفروغ منه” و”يحظى بإجماع”، من خلال سردية جديدة في المضمون وفي اللغة لها أسانيدها ومسوّغاتها المنطقيّة. الأكاديمي هنا بوصفه مثقّفًا (Intellectual) يصير مُنتجا للمعارف وللمعنى من خلال حُكمه على الأمور والظواهر وتسميتها من جديد خارج قاموس “السلطة”، كلّ سلطة. فلا يخشى من مواجهة “السلطة المعرفيّة” للأكاديميا التي درس فيها ولا البرادايم الذي تتحرّك فيها كلّية القانون أو العلوم السياسيّة أو الإعلام حيث حصّل علمه. المثقّف هنا يصير “سلطة” بديلة وثورية إذا شئتم يستطيع أن يُدافع عن أطروحاته بوصفها “عِلما” منافسا لعلم الأكاديميا نفسها. مثل هذا النموذج لا يتكرّر ولا يجترّ، حتى لو دعوته للحديث عن الموضوع ذاته عدة مرّات. ستجده مجدّدا ومُضيفا إلى ما أتى به هو نفسه من مرّة لمرّة.
المثقّف المُنتج لمعرفة جديدة (زوايا نظر وأفكار وتشخيصات جديدة مسنودة بمسوّغات عقليّة) وللمعنى (الحُكم على الظواهر وجُرأة في تسميتها وتسجيل مواقف غير مألوفة واقتحام مسائل وموضوعات محرّمة في العُرف أو الدين أو بالإجماع) سيظلّ فائزًا بهذا الاسم وبالتقدير طالما أعمل قانون النفي المعرفي على نفسه وأخضع مُنجزه أو أطروحته للنقد أو للاختبار العقلي ذاته الذي يستند إليه. ستظلّ مكانته مرموقة طالما أعمل أدواته في نقد المعرفة وإنتاجها على نفسه وعمله هو. ومن عادة هذا النموذج أن يفاجئك ويُفاجئ نفسه في اقتحام مساحات معرفيّة غير مطروقة أو في الدمج بين الحقول المعرفيّة دمجًا خلّاقًا أو في نقد أطروحة كان أتى بها في مرحلة ما من جهده. إنّه الذي تجاوز ما سمّيناه “العضويّ” و”المُلتزم” و”الجذريّ” إلى الاستنارة ـ المُستنير.
من عادته، أيضًا، أن يهتمّ بـ”الجماليّ” على ما يعنيه من فنون ونشاط إبداعيّ. فتراه ذا فهم عميق في حقل الشعر والموسيقى والفن التشكيلي كأنه من دارسي هذا المجالات والمتخصّصين فيها أكثر من “أصحابها”. إنه محدّثك اللبق الغنيّ يذهب معك في أحاديث عن جوهر الأشياء ومعانيها وفلسفتها وجماليتها، إنه الذي يصحبك في رحلة مُدهشة وراء اللغة والمعلومة والمنهج والمراجع. إنه العارف الذي يستحقّ لقب “الفيلسوف” المطبوع على شهادة الدكتوراة. ستسهر معه وتشعر بأن معارفه تتحوّل إلى طاقة دافئة على الحياة والضحك والحكمة والدهشة والصداقة. إنه في نهاية الأمر نموذج لا تنتجه الجامعة كما لا تُنتج غيره بل هو وغيره من نماذج نتيجة لخيارات يعتمدها أصحابها. فأن تكون متنوّر العقل صاحي الضمير ـ هو خيار. وأن تكون أكاديميًّا “على قدر القالب” وفي حدود “الخانة” هو خيار، أيضًا.