عن مظاهرة حيفا… عنفوان الاجيال الشابة في مواجهة آلة القهر وذهنية المجزرة
ماذا وراء استهداف الشرطة للمقاهي والمطاعم؟
مظاهرة حيفا الليلة الفائتة (9 ايار) هي مظاهرة لافتة، حتى حسب معايير النشاط اللافت والمتواصل لأنشطة الحراك في حيفا. في الطريق شاهدت مواقف السيارات الغاصة بالسيارات في الشوارع الفرعية المحاذية لجادة الكرمل، وكانت حركة الناس المتسارعة في الطرقات وهي أشبه بحركة جريان تدفق الينابيع التي تبعث الحياة والتي لا تترك فسحة مكان الا وتحوّلها الى مسار وتيار، وكلها كانت باتجاه واحد – نحو ساحة الاسير، وتبدأ بإغلاق الشارع الصاخب بالحركة. واذ عادة ما يبدأ التجمع في الوقت المحدد والمعلن للمظاهرة، فقد كان الحضور من قبل وكانت الارادة والتحدي سبّاقتين.
وإذ ذكرت آنفا مفردة “الناس”، فهذه الجموع من الناس تشكّلت من الصبابا والشباب وغالبيتهم الساحقة في سنوات العشرين، كانت مظاهرة بروح وحضور جيل جديد، يواصل المسيرة ويبني انطلاقته على مقاس احلامه الكبيرة والتي لا يحدّها حد.
كانت الشرطة واجهزة الامن الاسرائيلي وبكميات كبيرة بكامل عتادها. وكل ما شاهد تحركاتها منذ بداية المظاهرة يدرك انها انتظمت من اجل القمع. الشرطة في تعاملها مع العرب الفلسطينيين ليست مشغولة بالنظام العام بل هي الطرف الوحيد الذي ينتهك النظام العام ومسيرة الحياة الفلسطينية. وقد يكون من الخطأ استخدام مصطلح “الشرطة” بالمفهوم الوظيفي المدني، بل كانت وحدات قمع أقرب الى العسكرية وفي ذهنها انتقام.
انه انتقام ليس من اجل الانتقام الثابت في ذهنيتهم فحسب، بل ظنا بإمكانية ترهيب الاجيال الناشئة بالكفاح الشعبي، والتي هي أقل من يكترث لترهيب الدولة واجهزتها الامنية.
في مثل هذه الحالات من المفيد ان نلتفت الى كيفية عملهم، فالمدججين بالزي الشرطي بالهراوات والقنابل الصوتية والكاميرات المثبتة في خوذهم ولا ندري ماذا ايضا في جعبتهم، فإنهم المنفذون للأوامر والذين يبطشون ويوجههم قائد الشرطة تكتيكيا. أما صاحب القرار فكان الاستخبارات سواء المتوجدين ميدانيا ام الذين يجلسون في مقر القيادة ويشاهدون ما يجري ويوجهون شرطييهم. فالاستخبارات هم الذين اعطوا الاوامر لمن ينبغي اعتقاله والبطش به. وحين تكون الاستخبارات باللباس المدني طبعا هي سيدة الموقف القمعي، فمن الصعوبة ان نجد أية تصرفات وكأنها عن طريق الصدفة. وما شاهدناه في قمع المظاهرة كان بروح عقلية تصعيد متدحرج قد يتحول الى عقلية مجزرة في حال لم نردع قمعهم.
لقد جرى استهداف المحال التجارية من مقاه ومطاعم ألقيت عليها وعلى روادها من عائلات وافراد قنابل صوتية انفجرت وشتتتهم بعد ان انتهكت هدأتهم، وفي هذا كان مسلك استخباراتي جرى استخدامه في سنوات الثمانين والتسعين في وادي النسناس، في مسعى لتأليب عدد من أصحاب المحال ضد المظاهرات والاضرابات تحت شعار “تظاهروا خارج السوق”، و”لماذا تتظاهرون فقط في منطقة سوق وادي النسناس”. إنّ دق الاسافين في حال نجح يكون مؤلما، لانه يحول المواجهة الى داخلية بيننا. لكن هذا النموذج التفسيخي المخطط له، لن يكون حصرا على حيفا بل سيجري تعميمه في الناصرة ويافا وفي كل بلداننا وتجمعاتنا. فالحذر الحذر من أن تنال الدولة واجهزتها من وحدتنا الكفاحية.
لكن فات الاستخبارات أمران، احدهما ان الكثير من اصحاب المقاهي والعاملات والعاملين فيها حيّوا المتظاهرات والمتظاهرين وكانت جوارحهم معهم. والكثيرين منهم تركوا اعمالهم وخرجوا للتصفيق للمظاهرة وبالاحرى للارادة التي هي لسان حالهم هم ايضا. ثم ان جمهور المظاهرة هم رواد هذه المحلات وجزء من روح المكان الجميلة. تحية الى النادلين والنادلات، والى اصحاب المحال الذين رفضوا ان يبلعوا الطعم الاستخباراتي.
والى كل الذين نادوا باقامة مراكز شرطة في البلدات العربية او رحبوا بها واستبشروا خيرا بالقضاء على الجريمة، من الجدير ان يلتفتوا الى جريمة الشرطة والى رؤوس من تصوّب هراوات الشرطة، وقنابلها، الصوتية حاليا. هكذا في حيفا والناصرة وام الفحم وفي كل البلدات العربية الفلسطينية. إنها أجهزة قمع تزداد وحشيتها كلما زاد عنفوان جماهير شعبنا الذي تخيفهم.
تبقى هذه المظاهرة كما كل أخواتها في كل بلداتنا هي دعما للقدس بأهلها وبقائهم وصمودهم وبمقدساتها في مواجهة مخططات التطهير العرقي الاحتلالية. فما يجري في اي موقع من الوطن هو شأننا جميعا ومسؤوليتنا جميعا.
التحية كل التحية الى اولئك الشابات والشباب والى كل من شارك في كل حراكات شعبنا، فالتجربة المتراكمة واشتداد بأس الاجيال الصاعدة وارادتها المصقولة بالكفاح واعدة وماضية نحو الحلم، والتحية الخاصة هي للمعتقلات والمعتقلين وللجرحى، ففي النضال يُدفع ثمن وفقط فيه تُكسب كرامة شعب.