عن مسار التطبيع العربي مع الكيان الصهيوني

في مخالفة لجميع الأعراف الدبلوماسية، يعلن البيت الأبيض في واشنطن، وعلى لسان رئيس الولايات المتحدة الأميركية، وقبل إعلان الأطراف المعنية، تبادل العلاقات بين المغرب وإسرائيل، مقابل اعتراف أميركي بالإقليم الصحراوي إقليمًا مغربيًا! ومتى كان غير ذلك؟ وهو ما يعرفه الشعب المغربي، المتمسّك بوحدة ترابه، والمجمِع عليه، إذ لا يضيف الاعتراف الأميركي شيئًا على مستوى حل هذه المشكلة القائمة منذ عقود، بل قد يزيد في تعقيدها، وفي تعميق الخلاف بين المغرب وجاراتها، فليس ذلك في حقيقته سوى غطاء يبرّر فيه النظام توجهه نحو التطبيع العلني مع إسرائيل، ليحوز مقابله رضا الشعب المغربي.

ثمّة مبرّرات قُدّمت لجميع اتفاقات التطبيع المعلنة خلال الأشهر الفائتة؛ فتارة هي دفع لعقوبات ظالمة فرضتها الولايات المتحدة على إحدى الدول، ثم منّت عليها برفعها، كما في حالة السودان. وتارة أخرى هي تطوير لتطبيع قائم ليتحول إلى تحالفاتٍ أمنيةٍ في مواجهة محاور إقليمية وعدو خارجي مفترض، كما في حالة الإمارات والبحرين، على نحو يعيد لإسرائيل دور الشرطي في المنطقة العربية. وفي كل مرّة، ثمة إيهام للأنظمة العربية المطبعة بأن تل أبيب هي الطريق الوحيد المؤدّي إلى البيت الأبيض، والوسيط الذي لا غنى عنه لكل من يريد أن يصل إلى واشنطن، والضمانة الوحيدة لتثبيت القائمين على الحكم في وجه معارضيهم، حتى بات طاقم البيت الأبيض وموظفو الخارجية الأميركية في حلهم وترحالهم وكأنهم يعملون لدى الوكالة اليهودية، أو في سلك الخارجية الإسرائيلية، لتسويق هذه الأوهام.

ما نشهده هذه الأيام هو موجة من التطبيع العلني، أما التطبيع السرّي فلم يتوقف يومًا، منذ نشأت الفكرة الصهيونية. قبل نكبة عام 1948، حاول مندوبو الوكالة اليهودية على الدوام الاتصال بشخصياتٍ متنفذة، من مختلف البلدان العربية، فنجحوا أحيانًا وفشلوا أحيانًا أخرى. استمر هذا النشاط بعد النكبة، وقد نُشرت عبر الأعوام الماضية تفاصيل كثيرة عن لقاءاتٍ سرّية عقدها مسؤولون ورؤساء وملوك عرب مع نظرائهم الإسرائيليين، لكنها بقيت سرّية، ولم يُعلن عنها في وقتها، إذ كان المسؤولون العرب يتجنبون أي لقاء مع أطراف إسرائيلية، وإنْ مصادفة، في ممرّات المنظمات الدولية، بل ويبادرون إلى نفي عقد أي لقاءات معهم خلف الكواليس، لئلا تُستخدم في الحملات الإعلامية والاتهامات المتبادلة بين الدول العربية. أما مكتب “المقاطعة العربية” لإسرائيل، فكان من أهم الهيئات الفاعلة في جامعة الدول العربية، ولم يتوقف إلا بعد توقيع اتفاق أوسلو.

عندما زار أنور السادات مدينة القدس المحتلة، ووجه باستنكار عربي شامل، وبعد توقيع اتفاقية كامب ديفيد قطعت الدول العربية كلها (تحفظت عُمان والسودان والصومال) علاقتها بمصر، وجُمّدت عضويتها في جامعة الدول العربية، ونُقل مقر الجامعة من القاهرة إلى تونس مدة زادت على عشرة أعوام (1979 – 1990)، ولم يجرؤ أي نظام عربي على عقد صفقة مشابهة إلا بعد اتفاق أوسلو الكارثي.

في تلك المرحلة، كانت اللقاءات مع الجانب الإسرائيلي سرّية تمارَس في الخفاء، وتهدف أحيانًا إلى جس النبض حول نية إسرائيل بالانسحاب من المناطق المحتلة عام 1967، أو في سياق التمهيد لتسوية قادمة، كما في الاجتماعين في الرباط في 1977، أولا بين حسن التهامي، مستشار الرئيس أنور السادات، ورئيس المخابرات الإسرائيلية (الموساد)، يتسحاق حوفي، ثم مع وزير الخارجية الإسرائيلي، موشيه دايان. وفي تلك الفترة، أدى المغرب دورًا لافتًا في تسهيل الاتصالات مع المسؤولين الإسرائيليين، فضلًا عن الرسائل المتبادلة عبر وسطاء أوروبيين أو أميركيين. وفي العام 1991، كان تصويت الأمم المتحدة على إلغاء قرار الصهيونية شكلا من أشكال العنصرية، وموافقة أغلبية الدول العربية عليه، أو صمتها عنه، مقدّمة للانخراط في اجتماعات مدريد وواشنطن، لكن ذلك كله لم يرقَ إلى مستوى تطبيع العلاقات، وإنما كان خطوة على طريق التمهيد لها.

أدّى اتفاق كامب دايفيد إلى عزل مصر عن العالم العربي، ولم يؤدِ إلى موجة تطبيع علني بعده، لكن الحال تغير بعد توقيع اتفاق أوسلو في عام 1993، والذي اعترفت فيه منظمة التحرير الفلسطينية بحق إسرائيل في الوجود، في حين اقتصر اعتراف الحكومة الإسرائيلية بالمنظمة ممثلًا للفلسطينيين في مفاوضات الحل النهائي، أي أن المنظمة لم تعترف بإسرائيل أمرا واقعا فحسب، بل وبحقها في الوجود، مقابل اعتراف إسرائيل بالصفة التمثيلية للمنظمة، من دون أي اعتراف بالحقوق الفلسطينية التي أُجّل البحث فيها إلى مفاوضات الحل النهائي. ومنذ الاتفاق تغيّرت النظرة إلى التطبيع مع الكيان الصهيوني، فصار علنيا، بذريعة أن أصحاب القضية ذاتهم قد اعترفوا بالعدو وبالمفاوضات معه. كان لدى السلطة الفلسطينية الوليدة نظرة مختلفة لمفهوم التطبيع العربي، إذ أرادت استخدامه جزرة تلوّح بها أمام المسؤولين الإسرائيليين، مدّعية أنها هي القادرة على فتح أبواب العالم العربي والإسلامي أمام علاقات طبيعية مع الكيان الصهيوني الطامح لذلك، على أن يكون التطبيع مقابل الاتفاق على الحد الأدنى من الحقوق الفلسطينية، وهو ما تضمنته المبادرة العربية للسلام المعلنة في قمة بيروت العام 2002، وما ورد أيضًا في قرارات مؤتمرَي القمة العربية عُقدا في فاس، في 1981 و1982. توهم الفلسطينيون أنهم سيشكلون بوابة لفتح العلاقات العربية – الإسرائيلية، وأنهم سيتقاضون ثمنًا أميركيًا وإسرائيليًا، يتمثل في تنازلات إسرائيلية لصالحهم في مفاوضات السلام المرتقبة، لكنها كانت جزرة من دون عصا، فقد راهنت القيادة الفلسطينية على شيءٍ لا تملكه، ولا تملك القدرة على التأثير فيه، بعد أن فقدت سلاحها الأمضى، وهو التمسّك بالرواية التاريخية الفلسطينية.

عقد في الدار البيضاء في 30 تشرين الأول/ أكتوبر 1994، المؤتمر التطبيعي الأول مع الكيان الصهيوني. في حينه، طلب رئيس الوزراء الإسرائيلي، يتسحاق رابين، من الرئيس ياسر عرفات، بعد توقيع الاتفاق في واشنطن، أن يساعده في زيارة المغرب، كي يتمكّن، على حد زعمه، من أن يقول للإسرائيليين عند وصوله إلى تل “هل رأيتم؟ عندما وقعت اتفاق سلام مع الفلسطينيين، بدأت أبواب الدول العربية تُفتح لكم، وهذا ما لم يحدث عندما وقّعنا اتفاقًا مع مصر”. وهكذا، عرّج رابين على المغرب في طريق عودته من واشنطن، وعلى أثر هذه الزيارة، وبناءً على إلحاح الرئيس الأميركي، بيل كلنتون، دعا الملك الحسن الثاني العالم لحضور قمة اقتصادية شرق أوسطية في الدار البيضاء، وشاركت فيها إسرائيل ومنظمة التحرير. قَبِل الدعوة ممثلون رفيعو المستوى من 61 دولة، بينما قاطعت المؤتمر سبع دول عربية وإيران. وقد وُصف المؤتمر عند انعقاده بأنه منتدى دولي لتسويق مشروعات التعاون الإقليمي في الشرق الأوسط من أجل تقوية السلام. والتقى وزير الخارجية الإسرائيلي، شيمون بيريز، في غضونه، بنظراء عرب له. ويصف الوزير الفلسطيني، نبيل شعث، المؤتمر بأنه كان غريبًا إلى أقصى حد، فقد تصرف الإسرائيليون والأميركيون فيه وكأنهم يملكونه، وكأن السلام الدائم مع العرب قد تحقق، وأنهم أصبحوا “أصحاب البيت”. أعلن بيريز أن المقاطعة الاقتصادية العربية لإسرائيل قد انتهت عمليًا، وافتتح “مكتب التنسيق الإسرائيلي” في الرباط. ولم ينجح الوفد الفلسطيني بالحصول على أي مشروع حيوي، إذ بذل الإسرائيليون والأميركيون جهودهم لتعطيل هذه المشروعات، مصرّين على ربطها بتعديل الميثاق الوطني الفلسطيني ووقف للعنف.

فتحت السلطة الفلسطينية الباب أمام التطبيع العربي مع الكيان الصهيوني، وأرادت التحكّم في مساره، بربط تقدّمه بتقدّم مفاوضات الحل الدائم، بحيث يسير التطبيع العربي مع إسرائيل، أو ما سمَوْها “حوافز السلام”، تدريجيًا ومرحليًا، ويرتبط بسرعة وفاء إسرائيل بما هو مترتب عليها من التزامات؛ أرادت أن تكون هي نافذة هذا التطبيع، لكنها، ومنذ اللحظات الأولى، فقدت التحكّم فيه، ولم تتراجع بعض الدول العربية عن خطواتها التي تمثلت في فتح مكاتب تمثيلية لإسرائيل إلا بعد الانتفاضة الثانية.

تغيّرت الشعارات، فبدلًا من أن يكون السلام وتحقيق العدالة للشعب الفلسطيني مفتاح التطبيع، كما كان يرغب ياسر عرفات، أصبح التطبيع، بزعم المطبعين الجدد وحلفائهم، مفتاح السلام ووسيلتهم للضغط على إسرائيل ودعم السلطة الفلسطينية. لم يقطع هؤلاء مع القضية الفلسطينية، ولا يستطيعون ذلك أمام شعوبهم، لذا عملوا على توظيفها وسيلة لتبرير التطبيع. نذكر كيف أصرّ السادات على ياسر عرفات أن يحضر خطابه أمام مجلس الشعب المصري الذي أعلن فيه عزمه زيارة القدس، وكيف زعمت الإمارات والبحرين أن عملية التطبيع هدفت إلى وقف خطة ضم أراض من الضفة الغربية. وبعد ساعات من إعلان ترامب عن الاتفاق المغربي الإسرائيلي، يتصل ملك المغرب محمد السادس بالرئيس محمود عباس. وكانت زيارة قام بها عباس إلى مسقط في أكتوبر/ تشرين الأول 2018 للتغطية على زيارة رئيس الحكومة الإسرائيلية، نتنياهو، بعدها بيومين.

التطبيع ثمرة من ثمار هشاشة النظام العربي وانقسامه وفشله، وما كان من المحرّمات حتى للنظام الرسمي العربي، أصبح مباحًا اليوم. ومع ذلك، لا يزال التطبيع يفتقر تمامًا للشرعية الشعبية، ما يجعل أصحابه يتمسّحون بالقضية الفلسطينية، ويستترون بها، ويدّعون خدمتها وتأييدها. ومقاومة التطبيع تستند أساسًا إلى الجمهور العربي في البلاد العربية كلها، والذي لا يزال يعتبر فلسطين قضيته القومية الأولى. أما السلطة الفلسطينية فلا يمكنها ادّعاء مقاومة التطبيع، وهي منغمسة فيه، في ظل تراجعاتها المستمرة، وآخرها إعادة سفيريها إلى البحرين والإمارات، وصمتها الكامل عن قرار المغرب، وعودة التنسيق الأمني مع الجانب الإسرائيلي، إذ لا تستطيع أن تنهى عن الشيء وهي تأتي بمثله.

عن العربي الجديد

About The Author

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *