
أما بعد، فأمسكت عن الكتابة إليك زمنًا شحيحًا لأسباب أمنية، أمني، هذه المرة. لا أمن الدولة، وأمن إخوتي الفضائيين الذين أقيم في كنفهم، في دياميس عكا، آمنًا غير مطمئن…
اميل حبيبي “المتشائل”
لا تحتمل اسرائيل اي نقد، لكنها تعمل على مهاجمة ومعاقبة كل من يجروء على نقد ممارساتها ضد الفلسطينيين حتى لو كان ذلك بالحد الأدنى من النقد، لقد قامت اسرائيل بمهاجمة كاثرين اشتون ممثلة الاتحاد الاوروبي للعلاقات الخارجية والسياسات الأمنية في شهرنيسان ابريل لمجرد انتقادها قتل الأطفال بمن فيهم اطفال غزة.
تطالب اسرائيل العالم ان يتعامل معها كدولة ديمقراطية محبة للسلام تكرس سياستها لمحاربة الارهاب وذلك بالرغم من استمرارها في احتلال الاراضي الفلسطينية والاستيلاء على اراضي الفلسطينيين وقمعهم وقهرهم، وبناء المستوطنات غير الشرعية.
وليس من قبيل الصدفة الا تعترف تلك “الدولة المتحضرة الديمقراطية” بأي بحث علمي يظهر حقيقة ممارساتها وتأثيرها على الشعب الفلسطيني وحياته اليومية وطموحاته المشروعة باقامة دولة، بل ولا تتردد في بعض الأحيان في ان تعاقب من يقوم باعدادها.
فالعالم بنظر اسرائيل مطالب ان يغير التسميات ونتائج الأبحاث كي تتناسب مع نظرتها لذاتها، فالقتل مبرر لغايات محاربة الارهاب، وقتل الاطفال ايضا له ما يبرره فهم اما ضحايا حرب او انهم قتلوا بعد استخدامهم دروعا بشرية من قبل اعدائها.
لا عجب اذا ان الرواية الاسرائيلية الرسمية تقوم على اساس ان كافة ممارساتها تأتي من منطلق الدفاع عن النفس او لأسباب امنية وعلى العالم ان يستدخل تلك الأسباب و يؤمن بها.
على اساس تلك الخرافة قامت دولة اسرائيل بعد حرب عام 48 التي جاءت حسب المبررات الاسرائيلية دفاعا عن النفس، وأقنعت معظم شعبها بذلك، لكن ذلك لم يمر دون تحدي من قبل بعض الاسرائيليين القلائل الذين ناقضوا الرواية الصهيونية الرسمية حول التزام اسرائيل بالسلام، واسباب ومبررات الحرب في العام ثمانية واربعين ومقولة انه لا توجد خيارات سلام من قبل الدول المعادية، واقنعت شعبها وحاولت تسويق روايتها أن تلك الدول تود تدميرها، وعملت على تشويه حقيقة تلك الحرب، وحذف واضافة احداث بما يتناسب مع تلك الرواية بما فيها انكار مجازر ارتكبت بحق الشعب الفلسطيني وطردهم وتهجيرهم.
وهنا تجدر الاشارة الى وجود بعض الكتاب الاسرائيليين الذين حكّموا ضمائرهم وعملوا على البحث واستقصاء الحقائق حول حقيقة ما جرى عام 48، وعملوا على توثيق ونشر معلومات مغايرة للرواية الرسمية الصهيونية، لعل ابرز اولئك هو المؤرخ البروفسور ايلان بابية الذي قدم ابحاثا علمية حول التطهير العرقي في فلسطين .
احد طلبة بابيه كان تيدي كاتس وقد كان طالبا في دائرة تاريخ الشرق الأوسط في جامعة حيفا، وقدم رسالة الماجستير بعنوان “تهجير العرب من القرى المحاذية لجبل الكرمل”، ووثق المجزرة التي قام بها الجنود الاسرائيليون في مايو من عام 1948 في الطنطورة بعد استسلامها، لقد وثق المجزرة باستخدام منهج التأريخ الشفوي بعد ان بقيت مطموسة في الوثائق الرسمية المنحازة حتى تم الكشف عنها من قبل كاتس.
لقد عمل كاتس على جمع شهادات من عشرين فلسطينيا من سكان الطنطورة وعشرين جنديا اسرائيليا من فرقة الجيش التابع للهاغانا والذين شاركوا في تلك المجزرة او كانوا شهودا عليها في تلك القرية .
الا ان اسرائيل ترفض اي معلومات مهما كانت علمية تخالف روايتها الرسمية وتعمل على معاقبة من يجرؤ على القول او التعبير او نشر تلك الحقائق، فبعد ان تم نشر رسالة الماجستير تلك، قام الجنود الذين قابلهم كاتس بمقاضاته، تراجعوا عن شهاداتهم، واتهموه بتزوير المعلومات، فتم الضغط عليه ليقوم بتقديم الاعتذار، بالمقابل يتم منحه الفرصة لاستكمال دراسته في الجامعة وهذا ما قام به في المحكمة. الا انه تراجع عن اعتذاره واستأنف لدى المحكمة، فرفضت الدعوة وفي عام الفين تم تجريده من شهادة الماجستير من قبل جامعة حيفا.
جدير بالذكر ان مجزرة الطنطورة نوقشت بالمحاكم الاسرائيلية ولأول مرة تتم مناقشة مجزرة في المحاكم الاسرائيلية، وبحسب رأي ايلان بابيه، كان لا بد من رد الدعوة المقدمة من تيدي كاتس بحيث لا تشكل سابقة للفلسطينيين للتوجه الى المحاكم الاسرائيلية ومقاضاة اسرائيل بشأن المجازر التي ارتكبت بحقهم، وفي رأي بابيه كانت ايضا رادعا لأكاديميين او طلبة آخرين للبحث في المجازر الاسرائيلية. وهو ما نجحت اسرائيل بالقيام به بالفعل.
- نشرت في (الأيام، 2012)