عن كرة القدم وأُمّي التي فازت بعشرة لاعبين
لست متابعًا لكرة القدم، ولكنني لم أمنع نفسي من الوقوع في حبها.
بعض الناس يتّخذون مواقف مسبقة وحاسمة، لم أكن منهم هذا العام. باختصار؛ تابعت المباريات كمن يتذوق طعاماً مختلفاً.
«حسناً، ما دام مليارات البشر يحبّون هذه الوجبة، فلن أكون على حقّ وكلّهم على خطأ!»، قلت لنفسي.
وتذوّقتها.. وما زلت أطلب صحنًا إضافيَّا بعد كل صحن ألتهمه!
لكن الجمال الذي دفعني للمواصلة لم يمنعني طوال الوقت من تأمل المباريات وقراءة ما يكتب عنها وعن أبطالها، ففيها من أحوال البشر كل ما فيهم!
كان هناك مسلسل أطفال اكتسح المحطات التلفزيونية اسمه «أبطال الملاعب»..
البطولة شيء جميل، ولكنها تبدو أحياناً مُطلقة، فالبطل خال من كل سوء، هكذا يراه عاشقوه ويرى نفسه، وفي ظنّي أن خلوّه من أي سوء يرجع إلى أمرين: استعداد عاشقيه أن يغضّوا الطرف عن تجاوزاته، واستعداده لارتكاب «الأخطاء الضرورية» لأن بطولته، أو سطوته، تتيح له ذلك.
تبدو بعض الفِرق، وبعض النجوم الكبار؛ الكبار حقاً، أكثر أخلاقية، لكنهم محاطون –كما في أي مجال- بجو من الحسد وبالخوف منهم، لذا، يتعرّضون إلى هجمات لعينة لإخراجهم من الملعب باعتداءات يحرص الأقل منهم إشعاعاً وموهبة أن تبدو عفوية وهم يمارسون الكذب أمام مليارات المشاهدين، فيتقلّبون على الأرض يدّعون الألم، على طريقة «ضربني وبكى»!
من ينتمون للفريق الذي هم فيه، يتمنّون أن يفلِتوا من العقاب، ومن يحبون اللاعب المتضرر يفرحون حين يعاقَبون.
هنا العالم نصفان، لا يمتّ الواحد منهما للآخر بصلة. وفي بعض الحالات أو كثير منها، يبدو الشرّ مُبيَّتاً؛ أفكر في ذلك الذي يدوْر في رأس لاعب يتعمّد إلحاق الأذى بلاعب فذّ تحبه جماهير العالم، مثل نيمار أو ميسي أو رونالدو أو الخزري أو حكيمي.. أفكر كيف يمكن أن يتسبب له بضرر متعمّد يُخرجه من المباريات أو يُنهي مسيرته إلى الأبد.
أي بطولةٍ في أن تُنهي حياة نجم مُذهل لتتمكن من إقصائه عن مباراة مع فريقك من أجل هدف؟ هل يفرح جمهور الفريق الذي تسبب بهذا الأذى؟ هل يغضب؟
أفكر في لاعب أنهى مسيرة لاعب إلى الأبد، كيف يستطيع أن يواصل حياته، وقد حرم الرياضة من نجم رائع يفوقه مهارة وجمالاً وأخلاقًا؟ أفكر في طعم كل انتصار يحققه المُعتدي، كلما هزّ شباك مرمى فريق آخر، أو قبيلة أخرى! وأفكر في اللاعب الذي «انتهى» أو جلس بساق معطوبة على المدرجات متفرِّجًا وهو يرى فريقه يُهزم، محترقًا بالكرات الضائعة، وكيف يمكن أن ينفّذها لو كان في الملعب. أفكِّر في حسرة جمهوره وهو يراه على الشاشات العملاقة والصغيرة يصيح، رافعًا قبعته وضاربًا إياها بالأرض غضبًا لخسارة لم يكن سببها. أفكِّر في قبيلة الفريق الآخر، وهي تهتف لفريقها وقد حقق هدفًا في مرمى الفريق الخصم، بسبب إقصاء لاعبيه الأهم.
يبدو لي أن قبيلة الفريق المتقدِّم، بكل ما تضمره القبيلة من مكونات، لا يهمّها، بأغلبيتها شيء، ما دامت تجتاح القبائل الأخرى، ولكن إذا تسبب أحد لاعبيها بضرر لفريقه فيمكن أن يصل الأمر إلى إطلاق النار عليه، كما حدث ويحدث، أو رجْمه حتى الموت، أو رجم بيته ومقتنياته، لأنه نال، بإهداره هدفًا، من شرف القبيلة، أو التربص بحافلة فريق ما ورجْمها، أو اضطرار قوات الأمن التدخل لحماية حافلات الفِرق، أفكِّر بالمشاجرات الدامية للمشجعين، أو الهجمات العنصرية على لاعبين سود في الدول الأوروبية لتسببهم في إضاعة أهداف، وهجمات الإنترنت المرعبة على اللاعبين والفِرق.
لا روح رياضية في الرياضة إلّا نادرًا! فالشرط الذي يبدو ضروريًّا للاستمتاع هو أن تكون قد حدّدتَ موقفك مسبقًا بوضوح مع مَن أنت، أو كما قال بوش الابن «من ليس معنا فهو ضدنا»، أو مثلما كنا نتابع في طفولتنا بعينين مشرعتين فيلمًا ونرى بطلنا المُفضل يقتُل العشرات، ونحن نصفّق له.
.. وكلما تقدَّمت المبارياتُ تكتشف أن تحت ملابس الفِرق وقبائلها ثارات مؤجلة، وجراحًا لم تلتئم بعد من منازلات سابقة.
تبدو الذاكرة مدهشة بل استثنائية في هذا المجال، كما لا تكون في أيّ مجال آخر.
أُدهَش حين تتحدث إحدى القبائل عن هدف مشكوك فيه، أو ملغى، أو تسبب بمنعه لاعب، وهذا الهدف قد حدث قبل خمس أو ستِّ دورات من دورات كأس العالم.
تدهشك قوة الذاكرة في تصريحات المشجعين، وحجم التشفّي، والحديث عن السّماء التي أخذت بثأر هذا الفريق أو ذاك، فكُرَة القدم للكثيرين أمر مقدّس، ويرفعها البعض إلى مرتبة دِيْن. تقرأ عن «العدالة التي تحققت أخيرًا» بهزيمة الفريق الخصم، وتقرأ عن «ليس المهم أننا لم ننتصر، المهم أنهم انهزموا».
أما المُعلقون فمُذهِلون حقًا، أحييهم، من أين لهم هذه الذاكرة الفذّة، والقدرة على معرفة أسماء اللاعبين في كل لحظة، والكُرة تتنقل بَرقًا من واحد لآخر.
أُمِّي التي لعبت في أكبر استاد في العالم: استاد الحياة، كان لديها عشرة لاعبين لا غير، فقد تمّ طرد اللاعب الحادي عشر مُبكرًا؛ من عمره وعمر المباراة التي كانت تخوضها، طردَه الموتُ، لكنها؛ أمّي، وهي التي أنجبتْ لاعبيها ودرَّبتهم وقامت بدور الحَكم، وحارسة مراميهم، كانت تذكر خمسة أسماء، قبل أن تتذكر اسم سادس لاعبيها المقصود بالنداء؛ مثل كل المدربات العظيمات، كانت تقول: إبراهيم، محمد، عوني، وليد، عمر، وهي تقصد «هاني»!
وبعـــد:
يقال إن عدد لاعبي كرة القدم المسجّلين في العالم 265 مليون لاعب، وعدد الحكام والإداريين 5 ملايين، وعدد الأندية 300 ألف. إنهم أُمّة!
بالنسبة إليّ، سأواصل متابعة المباريات بشهية أكبر، ولن أنجو من تمنياتي: لو أن فِرق السعودية وتونس وقطر استمرت، واحتفلتُ بفوز المغرب الذي اعتبرته «مونديال» في المونديال، وسأحلم بتقدّمه، كما حلمت بتقدّم كل فرق الهوامش، فِرق الشعوب التي عانت طويلًا، والتي حققت وتحقق انتصارات كبيرة بفنها وجمالها على فرق المراكز، لكنني سأظلّ حزينًا طوال متابعاتي، وكثيرون مثلي، لأننا حُرمنا لعدة مباريات من جمال وروعة أهداف نيمار الذي أصيب بعد تعرضه لتسعة أخطاء من فريق منافس؛ هجمات! يا للهول، أخرجته من المباراة، (كان قد أصيب في كسر في الظهر في مونديال 2018). لكنني سأتمنى وقد عاد نيمار، ألا يُلحق ضرر بـه، بميسي، رونالدو (رغم الانقسام حوله)، حكيمي، راموش، أو أي لاعب يرفض أن يكون في الملاعب منجلًا يحصد سيقان الآخرين.
أجل، هناك جراح قديمة من نوع آخر، في داخلي أيضًا، كانت تتطلع لانتصار عربي، ولم تزل، لكنني سعيد بفلسطين التي تنتصر في المدرجات وخارجها كقيمة أخلاقية إنسانية ضميرية، رغم كل القبح الذي سعى ويسعى لتحطيم ساقيها.
عن القدس العربي