عن فيلم ” جواز أحمر”
فيلم “جواز أحمر” للمخرج الفلسطيني عبده الأسدي
يفتتح محمود درويش قصيدته “إلى آخري…وإلى آخره” قائلاً:
“هل تعبتَ من المشي
يا وَلَديي ، هل تعبتْ؟
طال ليلُكَ في الدربِ ،
والقلبُ سال على أَرض لَيْلِكَ
ما زِلْتَ في خفَّة القطِّ
فاصْعَدْ إلى كتفيَّ ،
سنقطع عمَّا قليلْ
غابة البُطْم والسنديان الأخيرةَ
هذا شمالُ الجليلْ
ولبنانُ من خلفنا ،
والسماءُ لنا كُلٌّها من دمشقَ
إلى سور عكا الجميلْ
ثم ماذا ؟
نعود إلى البيت
هل تعرف الدرب يا ابني
نعم ، يا أَبي:
….
….
ويختم درويش قصيدته:
يا أبي، هل تعبت؟
أَرى عرقاً في عيونكَ؟
يا ابني تعبُ … أَتحمِلُني؟
مثلما كنتَ تحملني يا أَبي،
وسأحمل هذا الحنين
إلى
أَوَّلي وإلى أوَّلِهْ
وسأقطع هذا الطريق إلى
آخري … وإلى آخِرِهْ!”
لقد استحضرتُ هذه الكلمات العميقة لدرويش حينما كنت أشاهد بدهشة تمزج الألم بالأمل الفيلم القصير الذي أخرجه الكاتب والمخرج الفلسطيني عبده الأسدي والذي عُرض مؤخرا في مهرجان “أيام فلسطين السينمائية” في رام الله كما عُرض في “صالة مجدلاني” في حيفا وفي مواقع أخرى.
عبده الأسدي هو ابن لعائلة هُجرت من مدينة صفد خلال نكبة عام ١٩٤٨ إلى مخيمات اللاجئين الفلسطينية في سوريا وولد هناك وعانى مع أفراد عائلته كل أشكال المعاناة وتحمل كل صور وأنواع العذابات، ورغم كل ذلك، ألف الكتب وعمل في الصحافة وكان ناشطاً فلسطينيا ملتزما بالهم الجماعي. بعد اندلاع الثورة والأحداث في سوريا وتردي الأوضاع وهيمنة القهر والظلم والاستبداد اضطر لمغادرة سوريا متكبدا هو وأفراد عائلته أصعب ما يمكن أن يتخيله العقل البشري من معاناة وعذاب ( ليس هنا المجال للتفصيل في ذلك رغم اعتقادنا بأن رحلة العذاب ودرب الألام بذاتها تستحق الرواية والتوثيق)، حتى استقر في هولندا وحصل هو وأفراد عائلته على الجنسية الهولندية وجواز السفر الهولندي الذي مكنه من تحقيق حلم ابنته يارا، الجيل الثالث للنكبة، وإحياء أمل كان قد دفنه، بزيارة الوطن سوياً عام ٢٠١٩.
لم يكن عبده ولا يارا يخططان لتصوير فيلم ولكنهما كانا يلتقطان صور الفيديو بآلة تصوير عادية ابتداءً من لحظة مغادرة هولندا وحتى رجوعهما إليها بعد عدة أيام. لقد زار عبده وابنتيه الكبرى والصغرى يارا وسلمى خلال هذة الزيارة القصيرة كل من حيفا وصفد وعكا والقدس ورام الله وبيت لحم.
رغم قصر وقت الفيلم إلا أنه يشتمل على الكثير من المعاني والدلالات فالمجيء بحد ذاته هو مقولة قوية ولكن نقطة القوة الأساسية باعتقادي هي تحقيق الحق بالوجود والتعبير عن المشاعر الشخصية والذاتية التي تجسد الحكاية الجماعية. فزيارة بحر حيفا وجبل الكرمل وأحياء حيفا العربية والالتقاء بالناس وزيارة مدينة صفد مسقط رأس والده وموطنه الأصلي والبحث عن البيت وتلمس حجارة البيوت العتيقة واستنشاق رائحة الليمون والشعور بالإغتراب وتذكر الوالد والحزن على مدينة لا يوجد بها أي إنسان عربي بعد أن ُهوِدت.
بعد ذلك يزور عبده مدينة عكا ويلتقي بأهلها ويتجول في أزقتها ويستمتع ببحرها وسورها ويواصل المسير حتى يصل زهرة المدائن القدس فيزور الأقصى( ويرى عن قرب كيف يحتفل الفلسطينيون بعيد الأضحى) ويتجول في أسواقها ويشاهد أطفالها ويرى جنود الإحتلال مشهرين أسلحتهم على المواطنين العزل. بعد ذلك يزور رام الله ويصاب بخيبة لما يراه من دولة متخيلة وسلطة زائفة رغم طيبة الناس ووجوه الشبهه بين بعض أمكنتها ومخيمات اللاجئين السورية. ومنها يعبر الحواجز الإسرائيلية قاصدا بيت لحم مهد السيد المسيح المحاصرة بالجدران العنصرية العازلة والمستوطنين.
يجمع الفيلم من خلال التوثيق اليومي والمذكراتي المشاهد الانتقائية، الأماكن والأزمنة والأحداث والأشخاص بمحاولة لمفهمتها وصياغتها من خلال اللغة. فالدمج بين المشهد والكلمة والموسيقى التصويرية يعزز الرسائل التي يرغب المخرج بإيصالها إلى المشاهد.
للزيارة لصفد وقع خاص وخصوصية شاعرية متميزة تمزج بين الواقع والخيال والماضي والحاضر والمعمار والدمار والوجود والفقدان والفرح والألم والخيبة والأمل والحياة والموت والتعب والراحة والطمأنينة والاغتراب والحنين والبؤس والبسمة والدمعة واليقين واللايقين والكشف والإخفاق.
هنالك جملة قوية ومؤثرة تحفز على التفكير كان عبدة قد كررها وهي أن” الشعور بالظلم والقهر ينتقل بالتوريث”، بإشارة كما يبدو إلى أنه كما ورث من والده الشعور بالقهر والظلم فها هو يورثه لبناته. هذة الجملة تثير العديد من الأسئلة هل فعلا هذا ما نريدة؟ وكيف يمكن مقاومة هذا الشعور؟ وهل كما أن صاحب المظلومية يُورِث فالظالم هو أيضا يورث للأجيال القادمة القدرة على ممارسة الظلم؟ وكأنها مسارات متوازية؟ وما طبيعة العلاقة بين القاهر والمقهور؟ وكيف يمكن تفكيك هذه البنى؟ من أجل تحقيق العدل والحرية.
زيارة كل من عبده ويارا وسلمى إلى الوطن هي تأكيد على الهوية الفلسطينية والحفر في الذاكرة وتحويل فلسطين من مجرد فكرة أو مفهوم إلى شيء محسوس وتجسيد للربط بين المكان والإنسان رغم تغير الظروف وتحول الأزمنة كما أنها سردية تروى بلسان لاجئ. وكما قال درويش في القصيدة التي استشهدنا ببعض أبياتها سابقا، فتارة تتعب البنت فيحملها والدها وتارة يتعب الأب فتحمله ابنته ويحملان الحنين ويقطعان الطريق إلى آخره ويعرفان الدرب إلى البيت.
لا يمكن من خلال هذة المساهمة القصيرة والسياق الضيق والمحدود الإحاطة بمجمل جوانب هذا العمل الضروري والهام الذي يؤكد الانتماء للوطن وحفظ الذاكرة وتسلسل الأجيال وتواصلها ووحدة القضية والشعب وتربية الأمل فشكرا للأخ عبده على هذا العمل مع تمنياتنا له بمواصلة المسيرة.