عن “فتح” أو ما تبقى منها بعد تجربة 57 عاما

استطاعت حركة “فتح” التي انطلقت في 1/1/1965، استنهاض شعب فلسطين من النكبة، وقيادة كفاحه الوطني، وطبع حركته الوطنية بطابعها، ويشمل ذلك التحول من خيار الكفاح المسلح إلى خيار المفاوضات، ومن هدف تحرير فلسطين إلى هدف إقامة كيان فلسطيني في الضفة والقطاع، ومن كونها حركة تحرر وطني إلى كونها سلطة تحت الاحتلال. فوق كل ما تقدم، ثمة مسائل مهمة لا بد من ملاحظتها في هذا السياق، الأولى، طول عمر تلك الحركة، إذ هي الأطول بين كل حركات التحرر الوطني، مع 57 عاماً. الثانية، أن “فتح”، ومعها باقي الفصائل، لم تنجز الأهداف التي أخذتها على عاتقها لدى انطلاقتها، ولو بالحد الأدنى، رغم كل المعاناة والتضحيات والبطولات التي بذلها شعب فلسطين في كل أماكن وجوده. الثالثة، نكوصها عن أهدافها الأساسية، لاسيما تحولها إلى مجرد سلطة على شعبها، في ظل سلطة الاحتلال. الرابعة، أن كل الإنجازات التاريخية التي حققتها تلك الحركة تمت في منتصف السبعينات من القرن الماضي، أي استنهاض الشعب الفلسطيني وإقامة كيانه الوطني (منظمة التحرير) وفرض قضيته في الأجندة العربية والدولية، أما بعد ذلك فباتت تأكل أو تعيش على تلك الإنجازات حتى نضبت تماما على ما نشهد منذ سنوات. بيد إن مراجعة لتاريخ صعود هذه الحركة تمكننا من تفسير صعودها السريع والقوي واللافت، بأسباب عدة ، لعل أهمها يكمن في العوامل الآتية: 1- هزيمة حزيران 1967 والتداعيات الناجمة عنها، وما أحدثته من هزّة في الوجدان العربي والفلسطيني، بخاصة مع اختلال النظام السياسي والأمني العربي السائد، وحاجته للتغطية على تلك الهزيمة، وإيجاد تعويض للجماهير العربية يصرفها عن محاسبة النظم المسؤولة عن ذلك الحدث المزلزل. وقد شكل السماح بتوسّع المقاومة المسلحة، ولو إلى حدّ الانفلاش، مخرجاً لتنفيس الاحتقان وتهدئة الخواطر في المجتمعات العربية. ولاشكّ في أن هذا التوسع أفاد “فتح”، حينها، ولكن هذه الحركة بطريقة بنائها وإدارتها لم تستطع تأطير التوّسع، أو التدفق، بشكل مناسب ومدروس، بتحويله من حالة كمية إلى حالة نوعية، ما انعكس عليها سلباّ في مرحلة لاحقة، وأصابها بالترهل، وبتضخم بناها البيروقراطية والخدمية، وتوسع صفوفها من دون الالتزام بالمعايير النضالية أو معايير الكفاءة والدور. 2- تدفّق الموارد المالية على الساحة الفلسطينية وخصوصا على “فتح”، ما مكّنها من استقطاب ألوف المتفرّغين، وإقامة المؤسّسات الإدارية والخدمية والعسكرية. وفي الواقع فإنه من دون هذه المساعدات ما كان بالإمكان تأمين متطلبات العمل الفلسطيني المكلفة. وبديهي أن تلك المساعدات خلقت واقعاً من الاعتمادية على بعض الدول العربية، بكل ما لذلك من تبعات سياسية، كما خلقت نوعاً من طبقة سياسية متميّزة في العمل الفلسطيني، تحصل على مواردها من خارج علاقات الإنتاج الطبيعية. وإضافة إلى هذا وذاك فإن هذا الوضع جعل من “فتح”، وغيرها، “مستقلة” عن شعبها (من حيث الموارد)، فبدلاً من أن تعتمد الحركة الفلسطينية على شعبها، بتأمين مواردها، بات الشعب (أو قسماً منه) يعتمد على حركته الوطنية. ومعلوم أن هذه واحدة من أهم معضلات العمل الفلسطيني، حيث لم تعد الحركة الفلسطينية مرتبطة تماماً بشعبها، من الناحيتين التمثيلية والموارد الذاتية، لذا باتت القيادة الفلسطينية كأنها متحررة من أي التزامات أو ضغوط من شعبها، ما يفسر، بين أسباب أخرى ضعف علاقات المشاركة، واحتكار القرارات المصيرية، وغياب المساءلة، والمحاسبة، والنقد، وعدم مقايسة التضحيات بالإنجازات. 3- إطلاقها المقاومة المسلحة، وقد حدث ذلك في واقع فلسطيني وعربي كان بحاجة إلى أي عمل ضد إسرائيل. وفي حين رأت الأنظمة السائدة في المقاومة نوعاً من تغطية على هزيمتها وقصورها في مواجهة إسرائيل (كما قدمنا)، فسارعت إلى النفخ فيها، وتضخيمها، فإن الجماهير العربية رأت فيها نوعا من الخلاص، ليس فقط في مواجهة إسرائيل، وإنما حتى في مواجهة الأنظمة، التي قيدت الحريات، وحرمت مجتمعاتها أي مستوى من المشاركة السياسية. والحاصل فإن المقاومة المسلحة ألهبت مخيّلة كثيرين في العالم العربي، ونخبه الثقافية وتياراته السياسية، وبات الفدائي حينها بمثابة المخلص، وحملت الحركة الفلسطينية مالا تحتمل من أحلام التغيير في العالم العربي. 4- لاشكّ في أن الأوضاع العربية، وتناقضات النظام الرسمي، سهّلت ذلك، ففي تلك الفترة كان العالم العربي يتنازع بين تياري مصر عبد الناصر من جهة، والسعودية وسوريا من الجهة الأخرى، وكانت مصر تسعى الى خلق تمثيل فلسطيني، وهو ما نتج منه تأسيس منظمة التحرير، وقتها (1964). وفي هذا الإطار فقد وجد المحور المناوئ لعبد الناصر في انطلاق “فتح” فرصة مناسبة لأخذ القضية الفلسطينية بعيداً عن مصر، ولعل ذلك يفسّر التسهيلات التي أتاحها نظام “البعث”، في سوريا، لهذه الحركة منذ بداياتها، في منتصف الستينات، كما يفسر ذلك في العموم الدعم الخليجي لها. 5- على الصعيد الدولي، أيضا، بديهي أن ظروف الحرب الباردة، وانقسام العالم إلى معسكرين، أسهم بدوره في تدعيم المقاومة الفلسطينية، وشرعنتها، وتعزيز التعاطف معها والدعم لها، وهو ما أمنه الدعم السوفياتي والمنظومة الاشتراكية، في تلك المرحلة، لحركة المقاومة، وبالخصوص لحركة “فتح”، التي رأت فيها ساحة مواجهة مع النفوذ الأميركي والغربي في الشرق الأوسط. مع ذلك ثمة حقيقة لابد من الاعتراف بها هنا، مفادها أن المشروع الوطني، كما حاولته “فتح”، نشأ من الأساس مأزوماً بحكم عوامل متعددة، بسبب عدم التكافؤ في المعطيات والإمكانات وموازين القوى بين الفلسطينيين وإسرائيل، وبحكم افتقاد الفلسطينيين لحيز جغرافي مستقل، وبواقع تمزق مجتمع الفلسطينيين، وعدم ملاءمة الظروف العربية لفكرة الكفاح المسلح الفلسطيني، أو لفكرة الصراع ضد إسرائيل.  في الختام ثمة ثلاث ملاحظات: الأولى مفادها أن الحركة الوطنية الفلسطينية ليست الأولى من نوعها التي لا تنجح في تحقيق أهدافها، إذ حصل ذلك في كثير من التجارب التاريخية التي عرفتها البشرية، وضمنها التجربة الوطنية الفلسطينية ذاتها في المراحل السابقة. ومع أن كثيراً من التعقيدات والصعوبات ناجم عن عوامل موضوعية خارجية، إلا أن ذلك لا يمنع من رؤية مكامن قصور الإستراتيجيات أو الخيارات التي اتبعتها “فتح” في الصراع ضد إسرائيل، وتبيّن دور العوامل الذاتية في ذلك. الثانية، للإنصاف، فإن المآلات التي وصلت إليها “فتح” (وغيرها من الفصائل) نجمت أيضاً عن المشكلات والتعقيدات والصعوبات الجمّة التي حالت دون تحقيق أي من خياراتها أو أهدافها، ومن ضمنها الخلل في موازين القوى لمصلحة إسرائيل، وعدم توافر العوامل الدولية والعربية الملائمة لها، وافتقار الفلسطينيين إلى إقليم واحد، بحكم تشتتهم وخضوعهم لسلطات أو أنظمة مختلفة. مع كل ذلك، فما تقدم لا يعفي قيادة تلك الحركة، وهي قيادة المنظمة والسلطة، من المسؤولية عما حصل، إن بالنسبة الى خياراتها السياسية والكفاحية، أو بالنسبة الى طرق عملها وقصور إدارتها لمواردها، أو بالنسبة الى تكلس بناها. الثالثة، أن تلك الحركة لم تراجع يوما، ولا في أي من مؤتمراتها السبع، التحولات والتراجعات والإخفاقات التي تعرضت لها، بل إنها تركز كل ثقلها على تعزيز مكانتها في السلطة والقيادة، والهيمنة على الشعب والموارد. هكذا، فإن “فتح” هي التي أطلقت الكفاح المسلح وهي اليوم تصر على اعتماد خيار المفاوضات خيارا وحيدا، وهي التي فرضت منظمة التحرير ممثلا وحيدا للشعب الفلسطيني في كل أماكن وجوده، وهي اليوم التي تهمش تلك المنظمة، وهي التي عززت إدراكات الشعب الفلسطيني لذاته كشعب وهي التي تختزل اليوم هذا الشعب بفلسطينيي الضفة وغزة، وهي التي ألهمت الروح الكفاحية عند الفلسطينيين وهي المسؤولة عن الإحباط الحاصل. باختصار، الشعب الفلسطيني بحاجة إلى حركة وطنية تعددية متنوعة، مثل تلك التي كانت متمثلة في “فتح”، حركة تنطلق من إعادة الاعتبار لوحدانية الشعب والأرض والقضية والرواية التاريخية، وتؤسس نفسها على قواعد مؤسسية وتمثيلية وديموقراطية وانتخابية.

عن النهار العربي

About The Author

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *