عن عبد الفتاح القلقيلي… الانسان والمناضل والكاتب
عبد الفتاح القلقيلي * هو بإجماع آراء المعنيين يحتل المكانة الأبرز بين كتاب فلسطين الساخرين، ولعله كما أراه واحداً من أبرز الساخرين العرب، وله العديد من المؤلفات وثلاثة كتب ساخرة تحت عنوان خواطر فلسطينية: “يوميات اللئيم والظريف” و”على الرصيف” و”دهاليز الحياة”، وهذا الثالث سيصدر قريبا.
ومن يتابع كتابات القلقيلي يلحظ بوضوح انه يترجم فهمه العميق لموقع الأدب الساخر ودوره الهام في الصراع السياسي والثقافي، باعتباره أداة تهديم ضد الفساد بكل منوعاته، وأداة بناء للوعي وللمجتمع.. وهو يرى أن التهكم موقفا والسخرية أسلوباً، مما يجعل كتابته تستقطب أعدادا واسعة من الجماهير التي تبحث عن الجرأة في الموقف الكاشف، خاصة حين يصلها من خلال أسلوب ساخر وممتع.. إنها الكتابة من موقع الضد الحاسم حتى لو بدا الأمر لهواً وضحكا، أو أن الكاتب مجرد متصعلك على الرصيف لا اعتبار أو قيمة له، ولكنه في نهاية المطاف يقلل من هيبة السلطة ذات الأنياب، ويسهم بأن يتجرأ عليها المقموعون والخائفون. ولهذا فالقلم الساخر يسلط سهامه وهو يبتسم ليصيب مقاتل من السلاطين والقطط السمان فاضحا حجم الخواء المريع في كؤوسهم.
يقول عبد الفتاح القلقيلي المعروف باسم أبو نائل:
“أعترف أنني أكتب عن “الجزء الفارغ من الكأس”، سواء كان هذا الجزء يشكل بعض الكأس أو نصفه أو معظمه.. ذلك أن هذه الإيجابيات مهما كانت صغيرة وأحياناً وهمية تجد “مطبّليها ومزمّريها” في كافة وسائل الإعلام المرئية والمسموعة والمقروءة، ولهذا فهو يدعو إلى “ملء” الجزء الفارغ من الكأس حتى لا “يغبُّ” البعضُ ما في الكأس “غبّاً”.
هذا الموقف الحاسم عن موقع الكاتب وخندقه أعادني إلى حوار طريف دار بيني وبين الروائي الكبير نجيب محفوظ، أوائل ستينات القرن الماضي حيث كنت من رواد ندوته الأسبوعية في مقهى ريش، قلت له، من موقعي كناصري متحمس آنذاك، تعقيبا على قصة بعنوان “البارمن” نشرت في الأهرام ذلك اليوم: لماذا لا نقرأ لك إلا انتقادات للنظام ألا توجد إيجابيات يمكن الكتابة عنها؟ فرد ضاحكا: طب وحنسيب إيه لدايرة الاستعلامات! (وهي ما تساوي الآن وزارة الإعلام) بالطبع مع حفظ الفارق الضوئي بين النظامين.
في نقده الساخر يتابع أبو نائل كل المفاصل التي تصوغ حياتنا الراهنة في السياسة كما في الاقتصاد وفي الإدارة كما في الثقافة، ولكنه بحكم موقعه في إطارات السلطة الفلسطينية فهو معني، كما معظم الكتابات الساخرة بتناول الجوانب المحلية المباشرة والتي لا تبعد كثيرا عن مثيلاتها في الأقطار العربية المجاورة والبعيدة. وهو فيما يكتب يركز على المرئي والملموس مسلطاً عليه أوضح ضوء ممكن مستفيدا على وجه الخصوص من لعبة المقارنة، يتساءل:
” في الغرب لا يأتي لمواقع السلطة الهامة إلا من “كان” ثرياً، أما عندنا فيأتي لمواقع السلطة الهامة فقيراً ثم “يمسي أو يصبح” ثرياً “. وحين يذهب للبحث عن أسباب الظاهرة ويسعى لتجنيد الناس لمقاومتها فإنه يستعير من مخزونه التراثي والثقافي وخاصة الماركسي ما يعينه على ذلك، فهو بلا شك من كبار المثقفين العرب، وتجد هذه الثقافة حاضرة بقوة في كل ما يكتب، يقول في معرفة أسباب ظاهرة السلطة والثروة: “وجدتُ جواباً شاملاً وعاماً في قول علي بن أبي طالب “ما اغتنى غني إلا على فقر فقير”، وفي قول الرسول: “ما نما مال إلا من شح أو حرام”. وبحثاً عن الجواب التفصيلي للمسألة يغوص في النظريات الاقتصادية المختلفة، لدى كارل ماركس، وسمير أمين ومهدي عامل وما أورده كل منهم مما له علاقة بهذه الظاهرة، ويلاحظ كيف اتفق المفكران العربيان محمد عابد الجابري (المغربي)، ومحمد جابر الأنصاري (البحريني)، على تسمية نظامنا العربي “بنمط اقتصاد الغزو”، والغازي لا يراكم ولا ينمّي، بل يبذر الثروة والمعرفة في مجالات غير مجدية وغير إنتاجية، فيبقى مجتمعه متخلفاً، ويبقى الغازي “دائماً” بحاجة لمزيد من النهب.. حتى قال عنه الحكماء الشعبيون: هو بئر “مقعور” لا يُملأ، وله بطن “مسعور” لا يشبع، وله أذن صماء لا تسمع، وفي مقدمة رأسه عين لا “تقشع”، وله لسان يلسع، وفم يبلع، ويد تقمع، ومظهر يخدع”. وكل ذلك في مقال واحد.
هكذا يوظف القلقيلي كل ما بحوزته من تهكم وسخرية ومعرفة تراثية واقتصادية وفلسفية ومأثورات شعبية كي يغني عقل المتلقي ووجدانه، كما يشحذ إرادته بفعل التغيير..
يمتلك عبد الفتاح القلقيلي مخزوناً هائلاً من الحكايات والأمثال والمأثورات الشعبية والوقائع والحوادث اليومية والتعبيرات الدارجة وألعاب الأطفال وما لا يخطر ببال، بل والقضايا الفقهية والأحكام الشرعية التي يوظفها في مقالاته لإضاءة فكرة أو موقفاً أو نقداً، حتى ليخيّل إلي أحياناً أن هذه الحكاية أو المسألة لم توجد إلا كي يستخدمها أبو نائل في مقالته الساخرة.
الشيخ جراح
في معرض استحضاره للتراث المقاوم في تاريخ الأمة يرتد القلقيلي إلى زمن الصليبيين ليروي لمستمعي الراهن حكاية الشيخ جراح:
“غزا الصليبيون بلاد الشام وحاول شيخ جليل في دار الحكمة ببغداد تحريض المسلمين للتصدي ولكنه فشل، وواصل الصليبيون تقدمهم فاحتلوا القدس عام 1099م.
في شهر رمضان راح الشيخ يتنقل من مسجد إلى مسجد يعظ ويرشد ويصرخ بالمصلين أن الصليبيين احتلوا بيت المقدس ودنسوا مسجدكم ومسرى نبيكم، وسفكوا دماء المسلمين التي غطت ساحات الأقصى وبلاط شوارع القدس.
كان المسلمون كلما سمعوا شيخنا يصيح صيحات الاستغاثة والاستنجاد وتحريك الهمم يضربون كفاً بكف ويكثرون من الحوقلة (لا حول ولا قوة إلا بالله). عاد الشيخ إلى مسجد بيت الحكمة وصعد المنبر وهو صائم في صلاة الجمعة، وحاول جهده تحسيس المسلمين بهول ما حدث، ورغم صراخه، لم يخرج الناس عن “حوقلتهم”.
أخرج الشيخ قربة ماء من تحت جبته وشرب منها، وهو على المنبر.
هب المصلون: الله أكبر على من طغى وتجبر!! الله أكبر!! أتفطر في رمضان!! وتدافعوا نحوه يريدون أن يفتكوا به.
ووقع بعضهم، فداسوهم بأرجلهم وهم يندفعون ليقضوا على هذا الشيخ “الطاغية” الذي يفطر في رمضان.
رماهم الشيخ بقربة الماء وصاح بهم: أتهيجون جميعاً هذا الهياج ضد مفطر في رمضان، ولا يهيج أحد منكم ضد احتلال القدس وتدنيس مسجدكم وقبلتكم الأولى ومسرى نبيكم؟!
والله يا قوم أنني لم أفطر منذ بلوغي سن الرشد وإنما قصدت أن أحرك الموات فيكم.
حتى هنا يتفق الرواة على ما كان من أمر ذلك الشيخ، ولكنهم يختلفون بعد ذلك.. البعض روى أن الشيخ سار على رأس مجموعة كبيرة من أولئك المصلين إلى فلسطين وقاتل حتى استشهد، وهنالك رواة قالوا أن “العيارين” من حراس “المستظهر بالله” وسلطانه “بركياروق”، وإرضاء للجمهور الغاضب، ألقت القبض على الشيخ بتهمة إفطاره في رمضان، وسجنته حتى يوم العيد، ويقول هؤلاء الرواة أنه بعد خروجه من السجن غادر الشيخ بغداد إلى فلسطين، وهناك كون فرقة جهادية فقاتل حتى استشهد متأثراً بجراحه، ودفن فيما يعرف الآن بـ “الشيخ جراح” في القدس الشريف”.
التطبيع والتكديش
وكما يستعير الكاتب الحكايات من التراث التاريخي المقاوم للأمة لبعث الحياة في الموات من النفوس نجده يلجأ إلى الريف الفلسطيني ليستعير منه ما يكشف به منوعات التطبيع الجارية،
فعلى سبيل المثال، ومع انتهاء زمن الفروسية، يروي بالتفصيل الخطوات المتدرجة التي يتم فيها تحويل الفرس إلى كديش، لاستخدامه بالجر والحرث، وهو ما يسمى عند الفلاحين بالتطبيع، وهي نفسها الخطوات المتدرجة التي تتم فيها عمليات تطبيع شعوبنا أولا مع (الآخر) ثم مع الإسرائيلي الذي نحاوره ثالثا ونستقبل سياحه ومنتجاته من رابعا إلى الألف! هل تذكرون كان في زمن الفرسان، قبل زمن التطبيع والمقاطعة، اسمه العدو الصهيوني.
وفي مقال آخر يرى أن سبب ما يحدث هو ما أسماه “التضبيع” حيث يدفعنا الرعب إلى حالة “تتبيع” للضبع نحو كهفه، دون أن يصطدم رأسنا بجدار لنصحو.. فيأكلنا مريئا.. وصحتين!
السلطةُ زوجةُ مِسْيار
ثم أنظروا كيف يوظف مسألة شرعية مثل زواج المسبار في فضح طبيعة العلاقة بين السلطة الفلسطينية والاحتلال، يقول: ” زوجةُ المسيار هي التي تتزوج وِفق عقدِ زواج يلتزم بالشرعيات الأربع: الإيجاب والقبول، وموافقة ولي الأمر، وشهادة شاهدين، وأن يسجّل في السجلات الرسمية، ويعوجُ الرجلُ بهذه الزوجة كلما رغب ذلك نهارا أو ليلا. وبموجب هذا العقد تتخلى الزوجةُ عن أربعة من حقوقها الشرعية: المهر، والإنفاق، والمبيت معها تحت سقف واحد، والنفقة، إن هجرها أو طلّقها”. ثم فجأة نرى الكاتب ينتقل إلى مسألة يبدو أن لا علاقة لها بالمسيار فنراه يعقد قرانا أقصد مقارنة علاقة السلطة بالاحتلال فيقول: “الاحتلال، حسب القانون الدولي والإسرائيلي، ملََم في المناطق المحتلة بالإنفاق على كافة قطاعات الخدمات التعليمية والصحية، والاجتماعية، وعن البنية التحتية. ولكن السلطة الفلسطينية، وفقا للاتفاقات الموقعة، وافقت، على تحمل النفقات كلها.
فلماذا وافقت مع الطرف الإسرائيلي على علاقة تشبه علاقة زوجة المسيار؟ هل خشيتْ المنظمةُ أن يفوتها قطار الزواج العادي فوافقت على زواج المِسيار هذا؟ أم انها ما عادت تحتمل طغيان “زوج” الأم او تنكيل “زوجة” الأب فقررت أن تقبل زواج المِسيار؟ أم أن “وليّ الأمر” زوّجها دون موافقتها”؟
وهذه الحالة استمرت حتى بعد أن عاد الاحتلال إلى كل المناطق أ و ب و ج إلى الياء وحصار المقاطعة بالسم والتهديد بحد السكين من الوريد إلى الوريد!!
وليس هذا فحسب فيضيف أبو نائل:
” ما نحن فيه الآن “أنيَل” من زواج المسيار: لانه في زواج المسيار لا يجوز للزوج أن يأخذ “عيدية” الزوجة التي يعطيها لها اقرباؤها، أما في حالتنا فيأخذ “الزوجُ” “العيديةَ”؛ وصحيح أن الزوج في زواج المسيار لا يؤمّن للزوجة بيتا يؤويها، ولكنه لا يأخذ بيتَها، أما في حالتنا فيأخذ “الزوجُ” البيتَ أو يهدمه… بل يصبح مطلوبا منا أن نخدمه ونُطعمه أيضا”.
باعوها
وفي حوارية ساخرة يكشف القلقيلي عن إمكانيات عالية لكتابة مسرح سياسي ساخر، حيث رشاقة اللغة وسلاسة الأسلوب ولعبة المفارقات والتشبيهات المفاجئة والتهكم المر والنقد الفاضح، واليكم بعض جوانب الحوار:
“قبل ايام اتّصل بي طيار كبير (بالعمر والمقام) وصوته يتهدّج:
قال: باعوها!!
قلت: ما هذه التي باعوها؟
قال: طيارة ابوعمار الـ”جِت ستار”
قلت: يا سَتّار!!
ولكنني تمالكت نفسي، وحاولت أن أنتعل حذاء المثقفين وأحاول تبرير أعمال المسؤولين لأخفف على المقهورين.
قلتُ: يا صديقي العزيز! الحيّ أبقى من الميت، فلعلهم باعوا أثَرَه ليتمكنوا من صرف رواتب بقاياه (أي المتقاعدين) أمثالي وأمثالك.
قال، وقد زاد صوته تهدّجا: أتعلم بكم باعوها؟
قلت: ببضعة ملايين.
صاح بصوت عال: بثلاث مائة وخمسين الف دولار فقط!! بمبلغ لا يكفي مصاريفَ مهمة لأحد المسؤولين الممنوعين من السفر.
وهنا صحتُ بصوت أعلى من صوته، قائلا: الله اكبر! طيارة رمز الثورة الفلسطينية المرحوم أبو عمار أرخص من فستان “سندرلا” الشاشة المصرية المرحومة سعاد حسني!!
وأغلقتُ الخط لأن صوتي لم يعد صالحا للاستعمال الآدمي”…
على هذا النحو يمضي القلقيلي في مقالاته الساخرة التي ينشرها أسبوعيا في مجلة الحياة الجديدة لصاحبها ورئيس تحريرها حافظ البرغوثي الذي يستحق بدوره الانتباه كواحد من كبار الساخرين الفلسطينيين.
* عبد الفتاح القلقيلي:
من مواليد الجديدة، جنين، تشرين ثاني 1936. وحاصل على بكالوريوس في الاقتصاد. عمل سفيراً لفلسطين عدد منها الصين وإيطاليا وأثيوبيا وبلغاريا .
ثم مديراً عاماً في المجلس الأعلى للتربية والثقافة في منظمة التحرير الفلسطينية.
له عدة مؤلفات منها: الأرض في ذاكرة الفلسطينيين، إلى جانب كتبه الثلاثة الساخرة التي نوهنا عنها في بداية المقال، وهي من القطع الكبير ويبلغ عدد صفحاتها قرابة الـ 700 صفحة، وتضم مختارات من مقالاته التي بلغ عددها 270 مقالة، وهي صادرة عن دار العودة للدراسات والنشر، رام الله في السنوات 2004 و2005 و 2010.