عن صديقي سميح شبيب…ذهب إلى رام الله علها تكون طريقا إلى يافا


اشترك معنا في قناة تلغرام: اضغط للاشتراك حمل تطبيق الملتقى الفلسطيني على آندرويد: اضغط للتحميل

التقيت العزيز الراحل سميح شبيب لأول مرة، في أول زيارة لي إلى لبنان، في العام 1976، أي في بداية الحرب الأهلية التي اندلعت في ذلك البلد، إذ كان يقطن في شقة مستأجرة في منطقة الفاكهاني، تطل على مباني جامعة بيروت العربية. وكان سبب اللقاء أنني لبيت دعوة صديقي خالد عيسى، رفيق الكفاح من أيام المرحلة الثانوية (فلسطيني من مخيم حمص وبات مقيما في السويد، وكان عضوا في الأمانة العامة للاتحاد والكتاب الفلسطينيين) لزيارته في بيته، وتبين لي أنهما شريكان في تلك الشقّة. وقد فهمت من السكن المشترك أنها نتاج عملهما معا ككتاب وكصحفيين، ونتيجة اشتغالهما معا في الإطار الإعلامي لجبهة التحرير الفلسطينية، التي ولدت وقتها، نتيجة انشقاقها عن الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين ـ القيادة العامة، التي يتزعمها احمد جبريل، الذي اصطف مع النظام السوري، في تلك المرحلة.

إذاً كان اللقاء الأول عابراً، وكنا تبادلنا فيه وجهات النظر حول الوضع الفلسطيني وأحوال لبنان، وسوريا، وكانت في ذلك الحين مناخات “غابة البنادق” مسيطرة، على النقاشات. وعلى أية حال فإنني، في ذلك اللقاء، لم أستطيع أن أوثق علاقتي بسميح، لأنني لم امض سوى أياما قليلة في لبنان، إذ عدت بعدها إلى مكان إقامتي في سوريا، وإن كان الانطباع الأولي للقاء كان مريحا، ومطمئنا، ويشجع على الاستمرار.

بعد هذا اللقاء التقيت بسميح في لبنان قليلا، وبشكل عابر، وفي المرات التي كنت أذهب فيها إلى لبنان، وأيضا، لأنني كنت انتمى إلى حركة “فتح”، بمعنى أن ذهابي إلى لبنان كان يجعلني مشغولا بالعلاقات الواسعة لي في حركة فتح، ومشاغلي المرتبطة بها، بيد أنني في كل الوقت كنت على صلة بمشاغل سميح، وكتاباته.

بعد غزو لبنان، وإخراج قوات ومؤسسات منظمة التحرير منه (1982)، اضطر سميح للخروج إلى تونس، ثم اشتغل على إعادة بناء مركز الأبحاث الفلسطيني في قبرص، وهو المشروع /الحلم الذي ظل يشكل هاجسا له إلى أخر يوم في حياته، وفي تلك الفترة تواصل معي سميح لإصدار دراسة لي عنوانها: “فلسطينيو 48 والانتفاضة”، في كتاب عن دار نشر “شرق برس” التي كان يديرها آنذاك، وذلك في منتصف الثمانينيات، وفعلا فقد صدرت تلك الدراسة في كتاب، كان هو أول كتبي، أو فاتحة كتبي، كما تواصل معي لأجل النشر في مجلة “شؤون فلسطينية”، التي كانت تصدر من هناك، إلا أنها توقفت بعد إصدار أعداد قليلة.

على أية حال، فإن فكرة إعادة بناء مركز الأبحاث الفلسطيني في قبرص لم تنجح، ما أدى بسميح إلى اتخاذ قرار بمغادرة تلك المدينة، والمجيء إلى سوريا للإقامة فيها، وكانت تلك هي المرحلة التي توثقت فيها علاقتي به.

سكن سميح مع عائلته، في منزل بجوار المنزل الذي كنت أقطن فيه مع عائلتي، آنذاك، في مخيم اليرموك (غربي اليرموك منطقة الكتل)، وكانت تلك مناسبة أو فرصة لنا للقاء اليومي، بشكل ثنائي، أو مع أصدقاء مشتركين لنا، من فتح ومن كل الجبهات، كما من كتاب وأصدقاء، وقد وجدنا أنفسنا كأننا أصدقاء قدم حقاً، في الروح والعواطف وفي الأفكار، أيضا، مع سمات معينة لسميح، تميّزه عن غيره.

شاءت الصدف أن بلدية اليرموك أرادت شق طريق عريض رئيسي (30 متر، وبات يسمى شارع الثلاثين)، غربي مخيم اليرموك، وهو الذي حدد حدود المخيم، فيما بعد، وفصله عن بساتين منطقة القدم المجاورة. لكن العمل في هذا الطريق أخذ وقتا طويلا، كالعادة، في المشاريع السورية.

في المحصلة فقد شكل ذلك الطريق، الذي يبدأ مساره من أول المخيم أو من مدخله الشمالي من المدينة، عند دوار “البطيخة” (وهو اسم أطلق على مجسم يشبه البطيخة في الساحة التي تفضي إلى المخيم)، إلى أخره في الجنوب (حيث مجمع الخالصة التابع للقيادة العامة)، ومدخل الحجر الأسود، مجالا لنا للمشي، بقطعه ذهابا وإيابا عدة مرات، في كل يوم أو في كل مرة، حتى إننا كنا نمضي ساعتين مشيا دون أن نحس بذلك.

ربما أن ذلك الطريق كان له الأثر في تعميق نقاشاتنا، وعلاقتنا كصديقين، إذ طالما انشغلنا فيه في النقاش حول الوضع الفلسطيني، وحول واقع الفصائل، وترهلها، وحول فساد الطبقة السياسية المهيمنة. وكان سميح بحكم معايشته للتجربة الفلسطينية في لبنان، من بدايتها إلى نهايتها، بمثابة منجم لهذه النوادر، وكان يقصها بطريقة سهلة ولطيفة، لا يمل أحد من سماعها حتى لو تكررت.

في تلك المرحلة، أي مرحلة عودته إلى دمشق وإلى مخيم اليرموك، شهدنا مرحلة التمهيد لاتفاق أوسلو، إبان المفاوضات السرية الفلسطينية ـ الإسرائيلية (مطلع التسعينيات)، وكنا نتحدث بشأنها، وعما تخبئه للحركة الوطنية الفلسطينية، وكم كان سميح مهجوسا بوضع منظمة التحرير، وبضرورة العمل على إبقائها ككيان معبر عن الفلسطينيين. ولعل ذلك يفسر، أيضا، أن سميح اتخذ قرار العودة إلى الداخل، بعد إعلان الاتفاق، وذلك على رغم تخوفاته من بعض بنوده، ومن طريقة إدارة القيادة الفلسطينية للوضع. وكان هذا القرار موضع نقاش متبادل بيننا، وبينما كنت أغلب جانب الحذر، وعدم التفاؤل، فإن سميح كان أميل للتفاؤل، رغم كل شيء، وهكذا.

إذن، عاد سميح إلى الداخل، ومن هناك ظل التواصل بيننا، في شأن الوضع الفلسطيني، وكان يتحدث لي عن مشكلات السلطة، وعن تشككه بإدارة الوضع الفلسطيني، لكنه كان في المقابل يرى بأنه حقق حلمه في العودة إلى الوطن، وكانت معنوياته جد عالية في البداية، سيما أنه تمكن من زيارة مدينته يافا.

في مرحلة لاحقة، وبعد الانتفاضة الثانية، بدأت مخاوف سميح تزداد، وبدأ أيمانه بالحلم في دولة فلسطينية مستقلة يتضاءل، وباتت رسائله القليلة لي تتحدث عما يشعر به، حيث الاستيطان، والجدار الفاصل، والحواجز العسكرية، باتت تأكل الضفة الغربية، وتضع الفلسطينيين في معازل مسورة، ومحروسة، وبات أيضا يعبر عن تخوفه من السلبيات التي تحيط بإدارة العمل الفلسطيني والسلطة.

ولعل اهم ملمح لسميح في تلك الفترة هي محاولته الدؤوبة والعنيدة لإعادة بناء مركز الأبحاث الفلسطيني في رام الله، وإعادة إطلاق مجلة شؤون فلسطينية، التي دعاني للكتابة فيها، والمشاركة في محاورها، وقد نجح فيما عمل من أجله بفضل إصراره وعلاقاته الواسعة وقدرته على إقناع القيادة بذلك، وهو ما توج بعقد مؤتمر خاص لإطلاق المركز (عقد في أبريل 2018 في رام الله)، وكانت تلك الفرصة الأخيرة التي سنحت لي للقاء سميح في المؤتمر، وفي بيته، وفي مكتبه، وبين أصدقاء مشتركين.

ثمة جوانب عديدة يمكن عبرها الحديث عن سميح، فهو كإنسان شخص طيب، وكريم، وودود، وهي صفة عرفها فيه جميع أصدقائه…سميح، أيضا، هو شخص مرح، وصاحب نكتة، والنكتة السياسية عنده حاضرة دوما، ومن واقع التجربة.

وفي شأن أخر، فقد أثرت الأزمة السورية على سميح كثيرا، وغالبا ما ألمه التنكر لعذابات السوريين، والفلسطينيين السوريين، ولطالما ألمه محاباة البعض من حوله لنظام الاستبداد، الذي طالما امتهن قضية فلسطين، ومرمط قياداتها.

ككاتب يعتبر سميح من أهم الكتاب والباحثين الفلسطينيين، سيما في كتبه التي نشرها، والتي تميز فيها كمؤرخ، أو ككاتب سياسي، وضمنها: “حزب الاستقلال العربي في فلسطين 1932-1933″، (مركز الأبحاث 1981)، “منظمة التحرير الفلسطينية: وتفاعلاتها في البيئة الرسمية العربية، دول الطوق، 1982-1987” (دار نشر شرق برس 1988)، و”الاصول الاقتصادية والاجتماعية للحركة السياسية في فلسطين، 1920-1948″، (مؤسسة الأسوار 1999)، و”الصحافة الفلسطينية المقروءة في الشتات، ١٩٦٥-١٩٩٤”، (مركز مواطن 2001).

أما من حيث التجربة السياسية فقد كانت تجربة سميح في جبهة التحرير الفلسطينية أساسا، لكنه فيما بعد ترك العمل الفصائلي المباشر، علما أنه حتى في فترة انخراطه في الجبهة، كان يعمل أساسا في مجال الإعلام وفي مجال الكتابة السياسية، ثم كأحد أبرز أهم الكوادر في مركز الأبحاث الفلسطيني، كما أنه عمل لفترة كمدرس في جامعة بير زيت؟

باختصار فقد ولد سميح في عام النكبة في يافا، أي إنه ابن النكبة الأولى، ودرس في سوريا، وعاش التجربة الوطنية الفلسطينية في لبنان، في إطار مركز الأبحاث الفلسطيني ومجلة شؤون فلسطينية، وكان كاتبا وباحثا ومؤًرخا وأكاديميا، ورصد في كتاباته التجربة الفلسطينية المعاصرة وتلك التي كانت قبل النكبة، بما لها وما عليها، وكان وطنيا فلسطينيا بامتياز، ومن المتمسكين بمنظمة التحرير كممثل شرعي ووحيد، وبالقرار الوطني المستقل، وقد ذهب الى رام الله علها تكون طريقا الى يافا.

برحيل سميح، خسرت صديقا عزيزا، ووفيا، وخسرنا كاتبا وباحثا متميزا..رحل سميح لكنه باق بيننا ببصمته الخاصة، وبذكرياته الطيبة، وأيضا بكتبه المهمة، التي ستبقى مرجعا للباحثين.

 

اشترك معنا في قناة تلغرام: اضغط للاشتراك

حمل تطبيق الملتقى الفلسطيني على آندرويد: اضغط للتحميل

مؤلف: ماجد الكيالي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *