عن رحيل محمود درويش.. و .. رحيل ابني مارسيل عدنان جابر
صـــورة فـــلـــســـطـــيـــن.. وصـــورة حـــزنـــي !
-1-
مع محمود درويش، لا حاجة لنا للقول: هذا شكسبير العرب، أو هذا لوركا فلسطين، أو غير ذلك. فتشبيهه بأي كان، حتى لو كان كبيراً، هو انتقاص جمالي ونقدي منه. يكفي فقط أن نذكر اسمه دون مرافقة أو شبه: محمود درويش.
إذا كان لدى الإغريق هوميروس، والإنجليز شكسبير، والإسبان لوركا، والطليان دانتي، والألمان غوته، والروس بوشكين… فإن لدى الفلسطينيين والعرب محمود درويش.
-2-
أوجعَني قول الدكتور أحمد الطيبي، أمام جثمان محمود درويش: “فالشاعر لا يستجدي.. حتى الحياة”..
ذلك أن محمود درويش يقول في قصيدة “لاعب النرد”:
للحياة أقول: على مهلك، انتظريني
إلى أن تجف الثُمالة في قدحي..
فلنحتفل بسوناتا القمر
وتسامح موت رآنا معاً سعداءَ
فغضَّ النظر!
آه يا محمود، قدر الإنسان، والفنان والشاعر على وجه الخصوص، أن يكابد هذه الحقيقة: ليس لي عمرٌ يكفي لأحلامي!
😚
أفرحَني قول الشاعر المتوكل طه عن محمود درويش: “إن قصيدة منه خير من ألف مدفع ومارش”.
ذلك أن الحلفاء في الحرب العالمية الثانية أرادوا قصف مواقع الألمان في فرنسا، لكنهم أسقطوا من طائراتهم أولاً قصيدة “الحرية” للشاعر بول إيلوار، ثم أتبعوا ذلك بالقصف بالقنابل!
كذلك، فإن عتاة الصهاينة، وعلى رأسهم إسحق شمير، استشاطوا غضباً من قصيدة محمود درويش “عابرون في كلام عابر” وجعلوا منها “قضية” في الكنيست، رغم أنها لا تتضمن بالإسم كلمة “إسرائيل” أو “صهاينة”، لكنهم رأوا أنفسهم فيها، وكانت على الوجع!
الملوك والرؤساء والجنرالات كانوا يغبطون (بل يحسدون!) محمود درويش على شعبيته والعدد الكبير الذي يتوافد (بأمر الحب لا بأمر الحزب!) لحضور أمسياته ولقاءاته الشعرية، التي لا تتسع لها صالة سينما أو قاعة مركز ثقافي، بل تحتاج إلى أرض ملعب كبير!
-4-
مع محمود درويش، تبدو كلمات الشاعر الروماني ميهاي أمينسكو: “ما يضير الغابة، إذا انقطع منها غصن”، قاسية، وغير شافية.
-5-
صديقي ماهر اليوسفي الذي كتب مقالاً بعد العملية الجراحية الأولى لمحمود درويش بعنوان “قلب محمود درويش”، لم يخبرني بوفاته، حتى لا يضاعف حزني ويطيل نشيجي. علمتُ في اليوم التالي.
كنتُ منشغلاً بتقبل التعازي بوفاة إبني مارسيل عدنان جابر، الذي اختار في بلغاريا، صوفيا، الساعة الواحدة ظهراً، يوم السبت الموافق 26 تموز 2008، وهو في الرابعةِ والعشرين من العمر، أن يُتوِّج نجاحه في السنة الرابعة والأخيرة في الجامعة، بالقفز من الطابق السادس. كان على وشك التخرج من الجامعة.. لكنه فضَّل أن يخرجَ من الحياة!
ما الذي قتل مارسيل؟
هل قتله الإكتئاب؟ الشيزوفرينيا “انفصام الشخصية”؟ طلاق الوالدين؟ الأربعة جدران؟ سريالية أن يكون أبوك فلسطينياً؟! أم رفض أمه لطلبه أن تشتري له سجائر للمرة الأخيرة.. حفاظاً على صحته؟!
على أية حال، ثمة ما هو أكيد: لا بد للإنسان أن يموت في النهاية، في مكان ما.. في لحظة ما.. بكيفية ما.
لم أتخيل يوما أنني سأقوم بتغسيل وتكفين ودفن ميت، أو تقبيل وجهه قبلة الوداع، لكنني فعلت كل ذلك مع إبني. قبل هذه التجربة في كل مرة كنت أذهب فيها مع جنازة، أرى كثيراً من الناس يتحلقون حول القبر، ومنهم من يحرص على النظر طويلاً وهم يُنزلون الميت، أما أنا فكنت دائماً أنتحي القبر والناس.. وأبقى بعيداً.
طرتُ من دمشق إلى صوفيا من أجل إبني وعدت مع ابنتي ـ أخته كاميليا حتى تتعرف على الصغيرين دالية وعمر، أختها وأخاها من أبيها (بعد أن تعرف الفقيد عليهما لمدة شهر ونصف قبل عامين)، وكي تعيش بضعة أيام مع الأهل حتى يخفَّ حزنها وأساها على وفاة أخيها.
كان مارسيل خليفة يغني ـ يودِّع محمود درويش بأغانٍ كتب كلماتها الشاعر الراحل، مشهد مهيب مؤثر. شجن مارسيل كان نشيجاً. ناديتُ كاميليا وقلت لها: هذا مارسيل خليفة الذي أسميتُ أخاك مارسيل على إسمه!
عندما جاءني النبأ الصاعق قلت باكياً: يا رب، ليكن مُكسَّراً، المهم أن يبقى على قيد الحياة ، وتذكرتُ ما قالته أمي لي وأنا بين اليقظة والغيبوبة، وهي تتأملني في “مستشفى عالية” في الخليل وأنا مصاب برصاص الصهاينة في رقبتي وقدمي قبل أربعين عاماً، قالت الوالدة (الله يرحمها):
“المهم إنّكْ طَيِّب يَمّا”..
يا لقلب الأم، ويا لحزن “حورية”، أم محمود درويش، التي عشق عمره من أجلها، ومات وهو خجِلٌ من دموعها.. الغائرة!
“المهم تكون طيب يابا”.. لكن كثيرين، من الأهل والأصدقاء، قالوا لي:
” الله تلطَّف فيه، ماذا تتخيل أن يكون عقله وحاله وشكله لو بقي على قيد الحياة، بعد السقوط من هذا العلو.. أحياناً الموت رحمة “
.. وتقبلتُ ذلك!
قرأت كلمات محمود درويش إلى عبد الباري عطوان: “لا أعرف ما إذا كنت سأوافق على العملية الجراحية أم لا، ولكن الشيء الوحيد الذي أعرفه أنني لن أعود “مشلولاً”، فإما في تابوت أو سيراً على قدمي”!
هربتُ من حزني على إبني إلى محمود درويش، وهربت من حزني على محمود درويش إلى محمود درويش. قرأتُ من جديد ما تواجد من دوواين شعرية له في مكتبتي.
قبل موت إبني مارسيل، كان كل موت على مسافة ما مني؛ حتى موت الأخ الأكبر في الكويت، ثم الوالد والوالدة في فلسطين، الذين لم أودعهم، كحال الملايين من الفلسطينيين: الحياة عندهم مشكلة، والموت مشكلة، والدفن مشكلة، والوداع مشكلة. أما موت إبني فقد مسني بشكل مباشر، لمسته وذقت طعمه الخاص، والفظيع، لا أراه الله لأب !
مع ذلك، ماذا يكون إبني مارسيل الذي فقده أهله وأصدقاؤه أمام محمود درويش الذي فقدته الملايين، في فلسطين والعالم العربي والكون؟!
هنا، مع جلال الحزن ولسعة الحزن الشخصي، ومع قول تنيسي وليامز في مسرحية (عربة ترام أسمها الرغبة):”أرني شخصاً لم يعرف الحزن، وأنا أبرهن لك على أنه ضحل وسطحي”، فإن كلمات ميهاي أمينسكو، التي هي قاسية وغير شافية بالنسبة لمحمود درويش، إنما تنطبق على إبني مارسيل بقسوة شافية: “ما يضير الغابة، إذا انقطع منها غصن”! وهي تستدعي، بصورة ما، حكمة السلوى والعزاء: كل شيء يبدأ صغيراً ثم يكبر، إلا مصيبة الموت: تبدأ كبيرة. ثم تصغر مع الزمن!
-6-
نعم، هربتُ من حزني على إبني إلى شعر محمود درويش. فالشعر العظيم، نافذة للأمل، وبلسم للألم. وأنت لا يمكن أن تكون لك علاقة حميمة مع شاعر، أو مبدع، إذا لم ينطق باسم آلامك وآمالك، إذا لم يمس نبض القلب ووتر الروح. ولهذا كان رحيل محمود درويش بالنسبة لمحبيه، عشاق الأرض والحرية والكرامة والإبداع، خسارة شخصية لكل واحد منهم، وإن كان رحيله قد لسع أهله وأصدقاءه والمقربين منه أكثر.
ليست هي المرة الأولى التي “يخدمني” فيها محمود درويش (ويخدم الملايين ماضياً وحاضراً ومستقبلاً)، هذه الخدمة الجمالية النبيلة، بأن يكون مُعالجَ الألم، يداً حنونة على رأس حزين، أو منبعاً للصمود:
.. كن قوياً يا رجل.. كوني قوية يا امرأة.
فقد كان محمود درويش بالنسبة لي كأسير سابق، ولآلاف الأسرى والأسيرات في سجون “العابرين في كلام عابر” أحد دعائم الصمود، جدولاً عذباً يروي شجرة معنوياتنا، إضافة إلى سميح القاسم.. وتوفيق زياد.. وناظم حكمت.. وفيروز طبعاً !
سلام عليك محمود درويش
يا صورة فلسطين.. جدارية إنسان.. وقصيدة وطن
سلام عليك: أيها الجميل.. العميق.. البعيد
يا ناي القلب.. شجن التراب.. وصديق الغمام