عن المتاهة الفلسطينية في ظلّ خيارات “فتح” و”حماس”
لم يعد في الإمكان فهم الوضع الفلسطيني، وفقاً لتوجهات محمود عباس، وهو رئيس منظمة التحرير والسلطة وحركة “فتح”، أو وفقاً لتوجهات حركة “حماس”، التي تتحكم بقطاع غزة، وتناطح “فتح” على مكانة القيادة في النظام السياسي الفلسطيني.
ففي حين ما برح الأول ينتظر انطلاق قطار مفاوضات جديدة لعله يحيي السلطة في الضفة أو يجدد دماءها، التي نشّفتها إسرائيل بالمستوطنات، وبتعزيز ارتباطها بها إدارياً واقتصاديا وأمنياً، فإن “حماس”، التي تعجز عن توليد شكل مقاومة ناجع، ومستدام، أو تعجز عن استثماره، على ما شهدنا إبان الحروب على غزة، بات مُناها قبول إسرائيل إعادة علاقاتها مع القطاع إلى بداية عهد أوسلو … الفرق الوحيد أنها باتت هي في السلطة في تلك المنطقة، وليس “فتح”.
وبمعنى أكثر تحديداً، فإن الوضع الفلسطيني الذي بات، منذ زمن طويل، يتّسم بالفوات التاريخي، وبالعطالة، وبالتكلّس، في كياناته وخطاباته وأشكال عمله، أضحى يتّسم، أيضاً، بالضياع، إذ ليس ثمة إجماع على معايير معينة للقياس بناء عليها، سواء سلباً أو إيجاباً، إن في الاخفاقات أو في الإنجازات، كما لا توجد إطارات وطنية جامعة، على مستوى المنظمة أو السلطة أو الفصائل، تقدم كشف حساب لشعبها، رغم مضي 56 عاماً من الكفاح المضني والمكلف والمعقّد. مثلاً، هل يمكن فهم الوضع الفلسطيني من مدخل الخيارات السياسية أو الكفاحية المعتمدة، كصلاحية هدف إقامة دولة فلسطينية في الضفة والقطاع بواسطة المفاوضات، وهذه وصلت إلى طريق مسدود؟ أو كإثبات نجاعة خيار الكفاح المسلح، أو حرب الصواريخ، في دحر الاحتلال، أو ضعضعة أمن إسرائيل، أو ليّ ذراعها، إلى الدرجة التي تجعلها تتنازل إزاء بعض حقوق الفلسطينيين؟أو هل يمكن فهم ذلك الوضع من مدخل الكيانات السياسية الفلسطينية، إذ إن واقع المنظمة والسلطة والفصائل في غاية الضعف، على صعيد البنية، والمكانة التمثيلية، والدور الكفاحي، لا سيما مع تهميش منظمة التحرير، وتحوّل الحركة الوطنية الفلسطينية من حركة تحرر وطني إلى سلطة في الضفة والقطاع، ومع ترهّل الفصائل، بحكم تقادمها، وهشاشة بناها، وغياب الحراكات الداخلية فيها، وبالنظر إلى تلك الفجوة بين الفلسطينيين وكياناتهم السياسية السائدة في الداخل والخارج؟
أيضاً، إذا ذهبنا إلى مدخل الشرعية فإن الوضع ليس أحسن حالاً من سابقاته، فقد انتهت ولاية رئيس السلطة محمود عباس، والمجلس التشريعي، منذ قرابة عشرة أعوام، وتم حل المجلس التشريعي قبل عامين، وأقلعت السلطة عن قرارها إجراء انتخابات لمجلس جديد، في أيار (مايو) الماضي، من دون تحديد موعد آخر.
وهذا الحال ينطبق على المجلس الوطني الفلسطيني، وهو الهيئة التشريعية الأم، والأكثر تمثيلاً، للكيان الفلسطيني الجامع “منظمة التحرير” فهو لم تتجدد عضويته منذ زمن، باستثناء الإضافات، ولم يعقد سوى دورتين عاديتين منذ عُقد اتفاق أوسلو (1993)، الأولى، وهي الدورة 21 (عام 1996) والثانية، وهي الدورة 23 (عام 2018)، أي دورتين في 22 عاماً، علماً أن الدورة 22 كانت استثنائية لترميم عضوية اللجنة التنفيذية للمنظمة وكانت عقدت في عام 2009. أما محاولة فهم الوضع الفلسطيني من مدخل الوحدة الوطنية، فيتمظهر على شكل كارثة متحققة، إذ إن الفلسطينيين اليوم ليسوا فقط إزاء مرجعيتين مختلفتين، أو حركتين تننازعان القيادة والمكانة “فتح “و”حماس”، وإنما إزاء واقع يتسم، بغياب المرجعية القيادية، سواء على مستوى القيادة او على مستوى الكيان، بعد إزاحة منظمة التحرير، أو وضعها على الرف، وفي ظل علاقات تنبني على القوة والإزاحة والغلبة، في التنافس وفي التخاصم بين الحركتين الرئيستين، ما يضر بهما، وبالشعب الفلسطيني، ويخدم إسرائيل.
الأهم من كل ما تقدم أن الاختلاف والانقسام والتنازع في النظام السياسي الفلسطيني باتت تخلق ديناميات تؤدي بدورها إلى انقسام في مجتمعات الفلسطينيين في الداخل والخارج، وهو أمر يتزايد ويتعمق باضطراد، ليس على أساس الاستقطاب السياسي الثنائي (لصالح الحركتين الرئيستين أو السلطتين)، بل على أساس التصدع لا سيما مع ظهور نوع من تمحور حول القضايا والأولويات المحلية، دون الوطنية، كأننا نكاد نكون إزاء شعوب فلسطينية كثيرة! وفقاً لكل ذلك لا يبدو أن الحركتين – السلطتين في الضفة والقطاع تدركان عمق الأزمة المستفحلة في الساحة الفلسطينية، أو لا تدركان مدى الفوات والعطالة والتكلس والتفكك والضياع التي بات يعيشها الفلسطينيون في واقع ما كان يسمى يوماً بالحركة الوطنية الفلسطينية. باختصار، فإن الفلسطينيين مكشوفون، اليوم، أكثر من أي وقت مضى في تاريخهم، منذ النكبة، فليس ثمة كيان جامع، ولا رؤية وطنية جامعة، وهذا بالطبع يؤثر سلباً، مع الأسف، حتى على إدراكاتهم لكونهم شعباً، وهذا كله يفسر تراجع قضيتهم في الأجندات العربية والدولية.
عن النهار العربي