عن الحرب النفسية والبروبوغاندا السياسية

في مشهد تمثيلي فاشل، ظهر نتنياهو على الشاشة بعد أن فرك عينيه برأس بصل لاستدرار دموع التماسيح والظهور وكأنه متأثر وحزين على ما ادعاه من اعتداءات وحشية واغتصاب نساء وقطع رؤوس أطفال وحرق إسرائيليين وهم أحياء بنيران العجلات… وعلى حد زعمه أن هذه الجرائم اقترفها مقاتلو «القسّام» أثناء هجومهم على مستوطنات غزة.
ثم تبعه أركان الحرب بوجوه تقطر حقدا وهددوا بسحق «حماس» وإخفائها من الوجود، مبررين ذلك بأنه رد على قتل «حماس» لمئات المدنيين.. واصفين إياها بـ»داعش».
وكان الرئيس الأميركي بايدن أدلى بتصريحات حاقدة وغير معهودة في العرف الدبلوماسي، لدرجة أن البيت الأبيض تراجع عنها فيما بعد، وأكد أن لا بايدن ولا غيره شاهدوا أي صور تظهر عمليات اغتصاب أو أي حرق أو قطع رؤوس، وأن بايدن استند في تصريحاته إلى مزاعم إعلامية إسرائيلية دون أن يتحقق منها.
الخطير جدا في تصريحات القادة الإسرائيليين والأميركيين أنها تعطي للجيش صلاحيات كاملة للإمعان في قتل السكان وتهديم غزة فوق رؤوس مواطنيها دون اعتبار ذلك وحشية وتصنف كجرائم حرب، هذا أولا، وثانيا: أنّ بايدن لم يذكر في خطاباته أي كلمة بحق الفلسطينيين، ولم يلتفت إلى معاناتهم وتطلعاتهم الوطنية، فقط قارن بين هجوم «حماس» وبين كراهية اليهود مستخدما عبارة «الشر المطلق» وهي عبارة تستخدم عادة في وصف النازية.
وثالثا، تصريحات وزير الدفاع الإسرائيلي بأن الجيش يتعامل مع سكان غزة بصفتهم حيوانات بشرية، أي نزع الصفة الآدمية عنهم، وشيطنتهم جميعا، واعتبارهم أهدافا مشروعة للقصف، وهذا يعني أن الإسرائيلي بإمكانه ممارسة القتل والإجرام بضمير مرتاح؛ وهو تصريح غير معزول عن الأيديولوجية الصهيونية التي تعتبر الفلسطينيين (وكل من هو غير يهودي) مجرد أغيار ولا يستحقون الحياة، وهو غير معزول أيضا حتى عن بعض الأدب الإسرائيلي الذي طالما وصف الفلسطيني بأنه كائن مخيف ولا يحب الحياة.
ورابعا: ولأول مرة ربما، يستخدم الخطاب الإسرائيلي وصف «داعش» مقرونا بـ»حماس»، مستغلاً تصريح «سنعدم رهينة من المدنيين وسنبث ذلك بالصوت والصورة».. صحيح أن «حماس» تراجعت عن التصريح وتنبهت لهذا الخطأ، لكن الذهنية الإسرائيلية حاضرة وجاهزة، وهي قبل هذا التصريح تسعى بكل قوتها لوصم الكفاح الفلسطيني بالإرهاب، وقد عاقبت السلطة الوطنية لأنها تدفع رواتب لعوائل الشهداء والأسرى مدعية أنها بذلك تدعم الإرهاب، وقد تساوق الموقف الأميركي والأوروبي مع هذه المزاعم، ولكنها لم تنجح، وظل الكفاح الفلسطيني في المخيلة العالمية كفاحا وطنيا وأخلاقيا ومشروعا، واليوم، لن تكتفي إسرائيل بوصم النضال الفلسطيني بالإرهاب، ستجعله قرينا بـ»داعش»، وما ذلك إلا مقدمة لتصف الشعب الفلسطيني بأكمله بأنهم دواعش.
ومعروف للجميع أن وصف «داعش» في المخيلة العالمية مقترن بالوحشية والقسوة والإرهاب والهمجية، ما يهيئ الرأي العام العالمي لتقبل جرائم إسرائيل، لا بل التعامل معها بصفتها ضحية للإرهاب، وأنها تقاتل الإرهاب نيابة عن العالم الديمقراطي! وما يكفي لأن تعطي الدول الكبرى تفويضا مفتوحا لها لأن تفعل ما تشاء بهؤلاء الدواعش (الفلسطينيين)، وقد قال نتنياهو، «سنسحق (حماس) كما فعل المجتمع الدولي بـ(داعش)».. ونتنياهو بحجة «سحق» (حماس) يسحق غزة، ويدفع بسكانها نحو سيناء، وإذا نجح في ذلك لن يردعه أحد لمواصلة جرائمه في الضفة الغربية.
وقد أحسنت «حماس» التصرف حين نشرت على الفور تسجيلا مصورا يظهر فيه مقاتلون من «القسام» وهم يطلقون سيدة إسرائيلية مع طفليها، دون أن يؤذوها.. ومن المفيد هنا أيضا التذكير بخطاب محمد الضيف الذي أوصى جنوده بألا يقتلوا طفلا ولا امرأة ولا شيخا.. وعلى الجميع تكثيف الجهود الإعلامية للتصدي للبروبوغاندا الإسرائيلية والأميركية التي تحاول شيطنة «حماس»، ونزع الصفة الإنسانية عن الفلسطينيين، وإقران النضال الوطني بـ»داعش».. والتأكيد على أخلاقية الكفاح الفلسطيني ونبل أساليبه ومشروعية أهدافه الوطنية.
تريد إسرائيل أن تظهر للعالم على أنها تقاتل «حماس» وحدها، وأن مشكلتها مع «حماس» فقط، وهذه دعاية مضللة، سبق للأميركيين أن استخدموها قبل غزوهم للعراق (2003) حين زعم بوش بأن هدف الجيش الأميركي إزاحة صدام وولديه عن الحكم وتخليص العراقيين من الدكتاتورية، وجميعنا يعرف أن هذه الكذبة سقطت، لكنها سقطت بعد فوات الأوان، بعد أن صدقها الكثير من العراقيين.
ولا يوجد عاقل يمكن أن يصدق أن حاملة الطائرات الأميركية جاءت من أجل «حماس»، أو أن إسرائيل جندت نصف مليون جندي من أجل «حماس»؛ صحيح أن «حماس» و»الجهاد»، اليوم، في طليعة النضال الفلسطيني وعلى الجبهة المتقدمة، ويدافعان عنا جميعا، لكن علينا أن ندرك أن هذه الحرب تستهدف القضية الفلسطينية برمتها، وتستهدف الشعب الفلسطيني كله، وما يحدث في الضفة الغربية، اليوم، وما يُحضّر لها غدا أكبر دليل على ذلك.
وما تقدم يعني ويبرهن على أن الجبهة السياسية والإعلامية تضاهي بأهميتها الجبهة العسكرية في غزة، والمطلوب التقدم بخطاب إعلامي وسياسي واع، ونظرا لخطورة المرحلة فإن أي خطأ أو تهور سيقود إلى كارثة.
عن الايام