عن الاستعمار الاستيطاني ودولة ثنائية القومية

نبذة مختصرة: 

لا يمكن إنهاء الاستعمار الإحلالي في فلسطين عبر النقاشات الكثيفة بشأن نظرية “مفكِّك الاستعمار”، على أهمية هذا النقاش في إيجاد أُطر نظرية لحل عادل ودائم للقضية الفلسطينية، إذ ثمة اختلاف بين رؤيتين إسرائيلية وفلسطينية في هذا الشأن، بل المطلوب أيضاً تكثيف النقاش والنضال الفلسطيني، سواء في أراضي 48 أو 67 أو في الشتات.

النص الكامل: 

كثرت في العقدين المنصرمين، وبكثافة تبدو أكثر مؤخراً، المجموعات البحثية والسياسية في إسرائيل، والتي ينخرط فيها بعض الباحثين والناشطين السياسيين الفلسطينيين، والتي تُعنى بصوغ حلول سياسية تعتمد ادعاءات ومناحي مستمدة من المفاهيم والنظريات المفكِّكة للاستعمار. وتُطرح هذه المبادرات كأنها خاتم سليمان الجديد الذي في قدرته استبدال مسار “أوسلو” المسدود، ربما منذ انطلاقه، بحلول قد تبدو للوهلة الأولى أكثر عدلاً وإنصافاً للفلسطينيين. ولذا، تأتي هذه المداخلة في إطار المساهمة في السجال الدائر بشأن “صلاحية” هذه التوصيفات في فلسطين اليوم.

فمثلاً، هناك إقرار بين الفلسطينيين والإسرائيليين بأن المدن الفلسطينية التاريخية التي يقيم فيها الفلسطينيون والمستوطنون الإسرائيليون اليوم، هي استثناء في دولة إسرائيل. وبينما يشكّل استثناؤها هذا التعبير الأفضل عن الفصل كمبدأ ناظم في هذه الدولة، فإنه يتم استخدامه من طرف بعض الباحثين، وخصوصاً الإسرائيليين اليهود، كمصدر إلهام لتخيُّل وجود حضري ثنائي القومية يؤسس عليه هؤلاء رؤية مفكِّكة للكولونيالية (de-colonial)

ومع أننا نتشارك في تبنّي الرأي القائل إن من الممكن العثور على مخيال مفكِّك للكولونيالية (ديكولونيالي) في هذا الفضاء الاستثنائي، إلّا إننا في هذه المقالة نجادل بأن المخيال الـ “ديكولونيالي” الفلسطيني يختلف اختلافاً جوهرياً عن المخيال الإسرائيلي ثنائي القومية، وبأن اقتراح ثنائية القومية هو فكرة منبتها الفكر الصهيوني، وفيها اقتطاع وحصر للتجربة الحسية الجماعية الفلسطينية، وهي تعبير عن فرض إدراك زمكاني لفكر استعماري في فلسطين، وإن كانت نيات بعض مقترحي هذه الحلول، ليست سيئة بالضرورة.

ومن أجل تدعيم حجتنا، فإننا نستعين هنا بالمخيال الفلسطيني الذي ينعكس في المساحات الحضرية في المدن التاريخية الفلسطينية التي صارت، بعد النكبة، ضمن حدود دولة إسرائيل، كنموذج لشرح أصل الاختلاف في إدراك الواقع الزمكاني الاستعماري وشروط تفكيكه، بين الفلسطينيين وبين المستوطنين مواطني الدولة الاستعمارية. وتجدر الإشارة هنا إلى أن هذا المخيال الحضري الفلسطيني المحلي المنعكس في هذه الفضاءات الحضرية في مدن الساحل، لا يقتصر على الفلسطينيين المقيمين حالياً في هذه المساحة المدينية، بل هو مخيال يتشكل ويحمله كثير من الفلسطينيين من سكان القرى والبلدات الفلسطينية في الداخل الفلسطيني، وفي الضفة الغربية والقدس وقطاع غزة والشتات.

يعتمد المخيال الجماعي للفلسطينيين في إسرائيل على الذاكرة الجماعية للسكان المحليين، وعلى إدراكهم الزمكاني الذي عملوا من خلاله على إنتاج فضائهم الزمكاني بحكم ما اختبروه من تغيّرات مروا بها، هم وزمانهم ومكانهم، قبل وبعد التحولات الكارثية التي أحدثها المشروع الصهيوني. فالذاكرة الجماعية الفلسطينية الحضرية هي عبارة عن فسيفساء تستند جزئياً إلى عناصر مادية، نحو: ما تبقى من المباني التي نجت من الهدم مباشرة بعد النكبة؛ الصور التي وثَّقت المباني والشوارع والساحات التي لم يعد لها وجود اليوم؛ الإرث الثقافي والممارسات الثقافية المستمرة عبر الأجيال المتعاقبة.

لكن الذاكرة الجماعية تتغذى أيضاً على الذاكرات والروايات التي تتناقلها الأجيال المتعاقبة، وعلى التصورات التي تستحضرها الذاكرة من خلال الصور والإعلانات والأخبار التي ظهرت في الصحافة، والتي وثّقت الحياة الاجتماعية والثقافية الغنية ما قبل النكبة، فضلاً عن تسجيلها العديد من الأحداث الاقتصادية والسياسية. وعلى عكس الشجرة التي يمكن اقتلاعها من جذورها، فإن الوسائط غير المادية، مثل القصص العائلية والشهادات الشفوية والأدب والشعر والأكل والعادات الثقافية، هي جزء من شبكة جذرومية (rhizomic) عصية عن القلع.

وعلى الرغم من وسائل السيطرة الاستعمارية الدؤوبة في محاولات قطعها الفعلي من المحيط الأوسع لجغرافيا المنطقة، فإن هذه الشبكة الجذرومية تتغذى يومياً من خلال تواصلها الحسّي المستمر مع ثقافة هذا المحيط الذي يحضر بأشكال إدراك أُخرى عبر حواسّ السمع والنظر والذوق اليومية. فمهما تحاول المنظومة الاستعمارية قطع التواصل الفيزيائي المادي للفلسطيني في الحيّز الذي أصبح يُسمى إسرائيل، مع محيطه الجغرافي الثقافي، إلّا إن هذه الحواس تنفذ عبر فجوات لا قدرة لموارد السلطة الأمنية على سدها.

وبذا، فإن الزمانية في التجربة الحضرية الفلسطينية الجماعية مختلفة بشكل جذري عن تجربة المستوطنين الإسرائيليين في فلسطين. ذلك بأنه في الإدراك الحسي الفلسطيني، يشكّل المشروع الصهيوني، ولا سيما إقامة الدولة اليهودية بعد نكبة 1948، نقطة في جدول زمني تاريخي متواصل. ومع أن هذا “الانفجار الفلسطيني الكبير”[1] يشكل نقطة مفصلية في غاية الأهمية، إلّا إنه لا يحدد، تحت أي ظرف من الظروف، نقطة البداية لتشكُّل زمن الفلسطينيين والفلسطينيات. إن ربط النطاق الزمني الفلسطيني بين لحظة حدث الفقدان الشامل، أي النكبة وما تلاها،[2] مع ما سبق لحظة “الانفجار الكبير”، يمثِّل استعادة لزمن المستعمَر، وثورة على امتلاك المستعمِر للزمن؛ الزمن الذي يحيله دائماً إلى زمن انتصاره هو ويضع شروطه بنفسه.[3]

أمّا المكان، فيُختبر هو أيضاً بشكل مختلف بالنسبة إلى الفلسطينيين، ذلك بأن المكان الجغرافي لمدينة معينة، هو جزء من حيّز لا تحدِّد حدوده اتفاقيات سلام “متخيلة”. فالعلاقات التجارية والسياسية والاجتماعية والعائلية والاقتصادية التي ربطت فلسطين ومدنها مع العالم، ومع المنطقة الناطقة بالعربية، هي جزء من التجربة المحسوسة والمنقولة عبر الأجيال. فالذاكرة الجماعية الحسّية الفلسطينية اختَبرت التأثيرات المتبادلة بين المدن في فلسطين ومعينها العربي من بيروت ودمشق والقاهرة وعمّان وبغداد، وكذلك المناطق الريفية المحيطة، ونُقشت في مخيال الفلسطينيين. ولذا، فإن الذاكرة الجمعية الفلسطينية تحفظ الفضاء الحضري على أنه التناقض المطلق للواقع الإثنو – قومي الضيق والمحدود الذي فرضه المشروع الصهيوني.

أمّا في اللحظة الراهنة، فإن في هذا الخيال الزماني – مكاني، إدراكاً حسّياً فطرياً لامتداد السلسلة المكانية بين الشيخ جرّاح، والمسجد الأقصى في القدس، وساحة الساعة في يافا، وساحة الأسير في حيفا، وميدان التحرير في القاهرة وميدان الأُسود في رام الله، وبناية المطعم التركي في بغداد… وفيه وعي وممارسة لكون هذا الفضاء ساحة صراع من أجل الحرية؛ حرية الأفراد والجماعات المتنوعة. ويشكل هذان الفعلان: الإدراك والممارسة، تهديداً لمبادىء الفصل العنصري والتفوق اليهودي، والتي تقع في صلب المشروع الصهيوني.

وعلى ذلك، تتغذى التجربة الزمانية – المكانية ويتكثّف هذا الخيال الحضري الجماعي على هيئة عوامل مادية، لكن بشكل أساسي من خلال العناصر العاطفية والخبرات غير المادية التي لا تنعكس بالضرورة في المجال السياسي الرسمي، والتي يصعب استنتاجها و / أو تخيُّلها بمجرد متابعة أدائية الممثلين السياسيين والاجتماعيين الرسميين وتحليل خطابهم. والملاحظ أن المشاركة السياسية لممثلي الفلسطينيين في البرلمان أو السلطات المحلية، وأيضاً الناشطين الاجتماعيين والجمعيات المدنية الفلسطينية المرتبطة بشكل مباشر بشراكات جزئية أو كلية مع مؤسسات إسرائيلية، أكانت حكومية أم غير حكومية، جميعها يتأثر بشرط المشاركة في المجال السياسي الإسرائيلي الرسمي. وهذا الشرط يساهم، بين أمور أُخرى، في تطويع كثير من هؤلاء الممثلين وتأديبهم، الأمر الذي يُنتج فجوة بين أداء التمثيل السياسي الرسمي، وهذه التجربة الحسية الزمانية – المكانية الجمعية. 

“هبّة الكرامة” أيار / مايو 2021

ليس مصادفة إذاً، أن التهديد الذي يحمله هذا المخيال الذي تشكّل المدن الفلسطينية المشار إليها آنفاً حاضنته المركزية، هو الذي حوّل هذه المساحات إلى المناطق الحدودية الجديدة – القديمة. وقد تعزز ذلك أكثر في “هبّة الكرامة” في أيار / مايو 2021، حين عبرَّت هذه الهبّة عن التجربة الحسية الجماعية الفلسطينية، في الوقت الذي كانت ردة الفعل الإسرائيلية تعبيراً عن مدى إدراك الدولة الصهيونية جذرية التغيير السياسي والاجتماعي الذي طالب به مَن نزل إلى شوارع تلك المدن لحمايتها والدفاع عن جميع الفلسطينيين، أفراداً وكياناً. ويمكن تلمُّس جسامة التهديد الذي شعرت به الدولة اليهودية، وتحديداً “اليمين” في إسرائيل، من خلال زيارة إيتمار بن غفير (ممثل الصهيونية الدينية) لمدينة حيفا بعد انتخابات الكنيست الإسرائيلي في سنة 2022، والتي توعّد فيها بأنه سيبدأ بتطبيق سياسته التي يُلخصها بشعار: “نحن أصحاب البيت”.

وخلافاً للأسماء المتنوعة التي أُطلقت باللغة العبرية لوصف الهجوم العنيف التي تعرّض له الفلسطينيون في المدن الفلسطينية المشار إليها آنفاً، في أيار / مايو 2021، فإنه لا يوجد أي لبس في التسمية الفلسطينية: “هبّة الكرامة”. و”الهبُّ” في صيغته الاسمية يعني “صوت حركة الريح”، وهبّة الشعب هي ثورته وانتفاضته. وهَبّ في صيغته الفعلية كما في هبَّت الريح فتعني هبّت واحتدمت كالعاصفة. أمّا كلمة “كرامة” الإنسان فتعني احترام المرء لذاته، وهو شعور بالشرف والقيمة الشخصية يجعله يتأثر ويتألم إذا ما انتُقص قَدْرُه. وفي اختيار هذه التسمية دلالة إضافية على دينامية العناصر المادية وغير المادية في تشكيل التجربة الحسية الجماعية الفلسطينية، والدور الذي تؤديه كدافع حيوي للنشاط السياسي.

في أيار / مايو 2021، خرج الفلسطينيون في أراضي 48 إلى الشوارع ليس كمتعاطفين مع الشعب الفلسطيني، بل كجزء منه. وقد ازداد الغضب والشعور بالانتقاص من القدر الجماعي جرّاء العنف المفرط والسافر الذي تُمارسه إسرائيل في الأراضي المحتلة منذ سنة 1967 وفي القدس (في الشيخ جرّاح وسلوان وباب العمود والمسجد الأقصى)، وخصوصاً بعد تعرّض الفلسطينيين لاعتداءات الشرطة الإسرائيلية والمستوطنين داخل أحيائهم ومنازلهم. أمّا في حيفا ويافا وعكا واللد والرملة، فقد خرج الفلسطينيون للدفاع عن بيوتهم، معربين عن رفضهم لتجاوز الشعور بالدوس على الكرامة. ولذا، في أيار / مايو 2021، أفصحت المدن الفلسطينية الآنفة الذكر – أو المناطق الحدودية الجديدة، أكثر من أي شيء آخر، عن وجود صراع وجودي على “البيت” يدور اليوم بين مجموعتين فقط، هما: الفلسطينيون ومستوطنو الصهيونية المتدينة، وهما المجموعتان الوحيدتان اللتان يشعر أفرادهما بأنهم “أصحاب البيت”.[4]

لمدة أسبوعين، كان الجيل الفلسطيني الجديد هو الذي يصوغ الخطاب، وهو الذي يضع الأجندة، فأبناء المدن من هذا الجيل هم مَن أوجدوا التنظيم الذاتي: أنشأوا لجاناً لحماية الأحياء والمنازل، وكانت المحاميات في طليعة مبادرات جماعية لحماية المعتقلين، كما ترأس هذا الجيل الخطاب في الإعلام العربي والعالمي البديل. وكانت شبكة العلاقات بين مختلف المدن، ووحدة الشعب الفلسطيني في فلسطين التاريخية وفي الشتات، من أبرز ما حدث في “هبّة الكرامة”، وأيضاً في “إضراب الكرامة” في 18 أيار/مايو 2021. فقد شارك في هذا الإضراب الذي دعا إليه فلسطينيو 48، جميع الفلسطينيين: في الأراضي المحتلة منذ سنة 1967، واللاجئون في مخيمات الشتات في العالم العربي، واللاجئون في أوروبا، إذ انتفضوا جميعاً لكرامة مدن فلسطين التاريخية.

ولا بد من الإشارة، في هذا المقام، إلى أن هذا المخيال الحضري الجمعي الذي تتجلى مظاهره بشكل رئيسي في شريحة من الجيل الفلسطيني الشاب، يبرز فيه الخطاب النسوي – الكويري الذي يعيد إلى الواجهة مرة أُخرى تكاملية النضال الاجتماعي والنضال السياسي. إن إنهاء الاستعمار، وفقاً لهذا الطرح، لا يمكن أن يحدث في مجتمع منقسم حيث “نحن” فيه جامدة ومنغلقة وغير مرنة. وبحسب هذا التكامل، فإن بناء مجتمع منزوع الاستعمار يجب أن يفي بشرطين متساويين في إلحاحهما، هما: الحرية والتحرر.[5] إن عملية إنهاء الاستعمار هذه، تتخيل تحرراً جماعياً لشعب مكون من أفراد أحرار، وقائم على مجتمع متنوع يحترم الحريات الفردية والجماعية لجميع أفراده ويحميها؛ مجتمع يدافع عن حقوق الفئات المستضعفة ويضمنها، ولا سيما الحقوق الجنسية والنسوية.[6] 

ثنائية القومية كحل سياسي أسير للمخيال الصهيوني

على الرغم من القرب المتخيل بين المخيال الفلسطيني لمجتمع متعدد حر ومتحرر، كجزء لا يتجزأ من إنهاء وتفكيك الاستعمار، ومخيال الليبراليين في المجتمع الإسرائيلي الاستيطاني حاملي اقتراح حل ثنائية القومية، فإن الترتيبات السياسية والاجتماعية والجماعية تُباعد كل البعد بين التصورين. فالفكرة الإسرائيلية لثنائية القومية الإسرائيلية لا تزال أسيرة للإدراك الزمكاني الصهيوني، وبذلك فهي غير محررة مكانياً وزمنياً من الحدود (المتخيلة) التي تمليها الدولة (إسرائيل). ففي فكرة ثنائية القومية هناك تبنٍّ للزمن الصهيوني – المستعمِر الذي نشأ في سنة 1948 حين تم تشييد مشروع الاستعمار الاستيطاني على شكل دولة. وفي هذا التبنّي تعبير عن تجربة حسيّة لمستوطن لم يَخْبُر المكان قبل تلك اللحظة، ولا يدرك علاقته بمحيطه الجغرافي الأوسع قبل قدومه.

علاوة على ذلك، يحمل اقتراح حل الدولة ثنائية القومية دمجاً بين عاملين مترابطين يغذي أحدهما الآخر، ذلك بأن كلاً منهما منبعه الفكر الصهيوني. فمن ناحية، يحافظ هذا الحل السياسي على الدولة كنظام جماعي ومشروع أوحد وحصري لتكوين الذات الجماعية اليهودية، ومن ناحية أُخرى، تشكل الدولة نظام حكم حامياً لمخاوف المستوطن المتخيلة، تلك المخاوف النابعة من إدراكه بعدم انتمائه إلى المنطقة الناطقة في أغلبيتها بالعربية، وعدم جهوزيته للتنازل عن الامتيازات التي حصَّلها كمستعمر. وبهذا، تكفل له الدولة، وعلى رأسها الجيش، حماية من احتمال التساوي والانصهار مع سائر سكان المنطقة (من أبنائها وبناتها الأصليين)، أو حتى اختبار تفكيك وإنتاج بديل من المشروع الجمعي اليهودي لا يكون مبنياً على شكل دولة. واستناداً إلى ذلك، فإن هذا الحل يعيد الربط الحتمي بين اقتطاع مساحة جغرافية من حيّز المنطقة وفضائها تكون المجموعة اليهودية فيه صاحبة أغلبية، وتشكِّل الدولة نظام حكم، ونظاماً اجتماعياً أوحد، وشرطاً لا يمكن التنازل عنه في تكوين المجتمع الإسرائيلي.

في المحاججة لمصلحة هذا الحل، وفي معارضة حلول أُخرى تبدو سياسياً وواقعياً غير قابلة للتطبيق، هناك تغليب لمخاوف المستوطن المتخيلة على حساب الواقع المأسوي الفعلي الراهن لحياة الفلسطيني اليومية، وتوقّع بأن يتنازل الفلسطيني عن حقّه في إنهاء المظلمة التاريخية، وفي ذلك موقف استعلائي يدّعي فيه أنصار هذا الطرح أنهم أدرى بمصلحة الفلسطيني والفلسطينية من “نخبة” مجتمعهما. 

ما بعد القومية الشوفينية وتفكيك الاستعمار الاستيطاني

خلافاً لثنائية القومية الإسرائيلية التي لم تحرر نفسها بعد من التعريف الذكوري الضيق والمتشدد للقومية الذي جلبته من الغرب، فإن التطلعات السياسية الاجتماعية والاقتصادية المترتبة على هذا المخيال الفلسطيني المفكِّك للاستعمار الصهيوني، منتفضة أيضاً على التعريفات القومية الشوفينية الضيقة، تلك التي باسمها قُمعت مجموعات سياسية واجتماعية غير مهيمنة. إن الحرية والتحرر اللذين يحملهما مخيال التفكيك الاستعماري الفلسطيني، يتجاوزان فلسطين ويتشابكان مع مخيال المجموعة المتخيلة التي ينتمي إليها الفلسطينيات والفلسطينيون في التجربة الحسية الزمكانية، أي بنات وأبناء شعوب المنطقة.

وبحسب شروط التفكيك الاستعماري هذا، فلا شك في أن التحرير الفلسطيني من الاستعمار الصهيوني هو خطوة واحدة على طريق التحرير والحرية لجميع الأفراد في المنطقة بأكملها. وهذا الأمر يتطلب إنهاء الاستعمار وتفكيك منظومات ما بعد الاستعمار والتحرر من الاستغلال الاقتصادي، ومن الاستبداد السياسي والقمع الاجتماعي، سواء الجندري أو الكويري، وأيضاً التحرر من التعريفات الضيقة والشوفينية للقومية العربية التي اضطهدت باسمها غير العرب في المنطقة. وفي رأينا، هذه هي الظروف التي يمكن أن يبدأ في ظلها أي نقاش بشأن مسألة إنهاء الاستعمار في فلسطين.

المصادر:

[1] عبد الرحيم الشيخ، “الزمن الموقوت: نكبة فلسطين ومسارات التحرر”، “مجلة الدراسات الفلسطينية”، العدد 118 (ربيع 2019)، ص 16 – 26.

[2] إسماعيل ناشف، “ركام: في مقاربة النكبة تعبيرياً” (بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 2019).

[3] الشيخ، مصدر سبق ذكره، ص 18.

[4] البيت هنا يتعدى الشكل الهندسي أو معناه المعماري إلى معناه الأوسع والأعمق، كونه منظومة أخلاقية ناظمة للهوية والذاكرة، وأيضاً استملاكاً للمكان إن بقي البيت/ واستلاباً للمكان إن تمت مصادرته أو هدمه. للاستزادة، انظر: بلال عوض سلامة، “في معنى الكلام: وحي من دروس المقاومة المقدسية” (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 2023)، ص 50 – 51.

[5] عن الحرية كقيمة والتحرر كهدف، يمكن مراجعة طرح الأسير وليد دقة في هذا الشأن، في: عبد الرحيم الشيخ، “الشهداء يعودون إلى رام الله”، “مجلة الدراسات الفلسطينية”، العدد 133 (شتاء 2023)، ص 128 – 155.

[6] للاستزادة عن الحراك الكويري الفلسطيني كمنظومة محلية فلسطينية موطّنة، وتحدياتها الخارجية وتناقضاتها الداخلية، انظر: منتهى عابد، “الجسد الفلسطيني المثلي: بين الاستعمار والاستشراق”، في عبد الرحيم الشيخ (محرراً)، “مفهمة فلسطين الحديثة: نماذج من المعرفة التحررية – 2” (بيروت: مؤسسة الدراسات الفلسطينية، من المتوقع أن يصدر في صيف سنة 2023).

السيرة الشخصية: 

همّت زعبي: زميلة بحث ما بعد الدكتوراه – برنامج دراسات الشرق الاوسط (EUME)، برلين.

محمد جبالي: فنان وكاتب وباحث فلسطيني مستقل، برلين.

عن مجلة الدراسات الفلسطينية – العدد 136- خريف 2023

About The Author

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *