عن احتمال الأمل ما بعد الخيبة
لم يكن انتماؤنا إلى الشعب الفلسطيني، نحن من تبقى في فلسطين بعد النكبة، في موقع شك، وان أربكت مواطنتنا، وظروف معيشتنا «المقبولة»، البعض، بعض الشيء. إسرائيل رضيت بوجودنا، مجبرة، تماما كما رضينا مجبرين في قبول مواطنتها. وكما جميع أجزاء الشعب الفلسطيني، نكبتنا مستمرة.
وإن أربكت مواطنتنا بعضكم، فهي لم تربك إسرائيل للحظة. لا خط أخضر في إسرائيل ولا خط أحمر يردع الاستعمار الاستيطاني. ولم تكن مقولة أحد كبار الصحافيين في إسرائيل، في مقابلة مع امام جامع اللد الكبير، بعد مقتل ابن اللد موسى حسونة على يد مستوطن، الا لتعكس ذلك بشكل واضح: نحن أسياد البلاد، ولن نسمح لكم بالتعدّي على أملاك اليهود، كنتم لاجئين وستصبحون لاجئين، مرّة أخرى.
هبّة على الذلّ والإهانة
لم تأتِ هذه الهجمة على الداخل الفلسطيني من خارج ترسانة البنية الصهيونية، بل تجسيداً لمخيال استعماري استيطاني. فالسؤال إذا، ليس حول استثناء هذه الأحداث- فالصدام بيننا وبين الدولة مستمر منذ بداية الحركة الصهيونية- بل حول توقيتها وموقعها وحدّتها.
خرج أبناء وبنات الداخل، ضد عربدة الاستعلاء الصهيوني وضد محاولات فرض السيادة الحصرية والمطلقة لليهود في فلسطين. عربدة وصلت أوجها في استباحة الأقصى وفي عنجهية استعمارية استيطانية في الشيخ جرّاح، وفي استمرار استباحة جسد الفلسطينيين والفلسطينيات وحياتهم/ن في جميع أماكن تواجدهم/ن. لم تكن هذه هبّةً على التمييز المدني ضدهم، بل انشباك للهبات المحليّة في مجد الكروم وام الفحم واستمرار للهبة الشبابية ضد مخطط «برافر» لمصادرة الأراضي الفلسطينية في النقب، واستئناف لهبة أكتوبر 2000. فهي هبّة على الذلّ والإهانة واستعادة للكرامة الجماعية.
جمعت الشوارع وأزقّة المدن أبناء البرجوازية الوسطى وشريحة الابداع الفلسطينية ومثقفيها مع أبناء وبنات الغيتوهات. خرجوا جميعهم من دافع شعورهم الفطري انهم اصحاب البلاد، مرجئين نقاط تضارب مصالحهم المختلفة مع النظام، واصلين، مرة أخرى، أجزاء الجسد الفلسطيني.
جيل جديد
تدمج هبّة اليوم ما بين هذا الشعور الفطري وخيبة الأمل من السياسة الفلسطينية. ولد هذا الجيل بعد فشل وهم حلّ الدولتين، ولم تصمم نقاشات «حل الدولتين» وعيه السياسي، كما لم تشكّل اتفاقية أوسلو يوما مرجعتيه، او سقف طموحه. ولد هذا الجيل في عالم تصغر فيه المسافات ويسهل فيه الوصول الى بقية العالم، فعلياً وفي الفضاء الالكتروني، بينما يعيش واقعاً يتمدّد فيه الاستيطان الصهيوني في جميع انحاء فلسطين، ويزيد فيه التضييق والفصل الجغرافي ومحاصرة الفلسطينيين.
تزامنت مرحلة دخول هذا الجيل حيز الحياة الاجتماعية السياسية البالغة، في ذروة ترهّل السياسة الرسميّة الفلسطينية. فعايش عن قرب خيبة الأمل من السلطة الفلسطينية وتنسيقها الأمني، وشهد انزلاق الخطاب والفعل السياسيّ للأحزاب الفلسطينية في الداخل. اشتبك هذا الجيل مع الحراكات الشبابية الفلسطينية الرافضة لهيمنة السلطة، وبقي خارج هيمنة الأحزاب في الداخل، متحديا في هذا إسرائيل والمؤسسات السياسية الفلسطينية الرسمية، معاً.
كما كان هذا الجيل شاهداً على الثورات العربية، وعلى الأمل الذي رافقها، جيل شهد الثورة المضادة، وراكم وعياً عالياً لدور الأنظمة العربية في قمع هذه الثورات. جيل يشارك مطالب شباب وشابات الثورات في الحرية والتحرّر والعدالة. جيل يعيش اليوم صداماً مع هيمنة اليمين السياسي والاجتماعي العالمي، ويتماثل مع حراكات مناهضة الكولونيالية بالعالم.
إنّها مرحلة إضافية في مسار النضال الفلسطيني، وهي مرحلة في طور التشكل في نقطة تاريخية مصيرية تجاهر فيها إسرائيل بعدائها لنا، في غياب كامل لرادع عالمي عربي او حتى فلسطيني. نحن امام جيل لا يهاب سلطة الدولة الكولونيالية العميقة ومؤسساتها الأمنية، ويستفيد من دروس الفشل الفلسطيني والعربي. جيل يحيك مرحلة جديدة، ينسج بين تنظيم حيّه والدفاع عن مدينته في الداخل خيوطاً إضافيةً مع الافق الفلسطيني.