عن أنانية المدن
ثمة مسافة هائلة بين اختيار المنفى كتجربة انسانية فريدة ثقيلة في فهمها وخوضها وبين المنفى كضرورة. على الأقل هذا هو فهمي حتى الأن عن هذه المفردة الرومانسية في الوجع، وهذا ما عشته لسنتين في مجموعة غزية كبيرة في اسطنبول. عن أصدقائي هناك وعني حين كنت بينهم. وعلى الرغم من أني غادرت كما الكثيرين باتجاه أوروبا إلا أني لا أعرف حتى الأن لمَ كنت هناك! أي في تركيا. لماذا ذهبنا إلى هذه البلاد كمحطة انتقال قاسية إلى البرد البعيد؟ هل لأنها كانت فترة ثمينة في سهولة التأشيرة؟ أم لأنهم قالوا لنا عنها أشياء مثيرة للاهتمام؟
اسطنبول هي المدينة الوحيدة التي لا أعرف اتجاهاتها جيدًا ولم أزر متحفًا واحدًا فيها ولا مكانًا سياحيًا ولم أشارك في أي حدث ثقافي أو فني ولم أعرف أي تركي ولم أكون صداقات مع المجتمع، ولم يكن السبب في الحقيقة نابع من رفضي بل من رفض المكان لي، اسطنبول لا ترحب بالعابرين ولا تأخذهم في حضنها أبدًا، ترحب فقط بمن يرغبون في زيارتها هي وحدها فقط، أي أولئك الذين لا يعتبرونها محطة وهذه تمامًا أنانية المدن.
أنانية فظيعة ومريبة. في اسطنبول فقط يمكنك أن تكون مشغولًا طوال الوقت وانت في الحقيقة لا تفعل شيئًا، في اسطنبول فقط يمر الوقت سريعًا في بطء حياتك، في اسطنبول كل المنازل منازلك ولا منزل لك، هناك الحانات موحشة وقصصها تبعث الحزن سائلًا في كؤوس الجعة السريعة، هناك حيث الكردي يصادق السورية والفلسطيني يصادق اليمنية ويعيدون تشكيل الألم بطريقته الباردة في حرية محصورة في شارعين من المدينة الكبيرة.
هناك أيضًا قصص كثيرة عن شباب غزة الذين لا يعرفون بالضبط لم هم هناكَ وإلى أين هما ذاهبون، ويصارعون القدر في بحر ايجة لللجوء إلى أوروبا، وبحر ايجة هو الاخر لا يرحب بالعابرين، يرحب بالأموات فقط وكثيرو الحظ الذين تمردوا عليه ووصلوا.
معظم تجارب الشباب مع أنانية اسطنبول تقتلهم ببرودة وبطء. إلا أن تجربة واحدة هناكَ جعلتني أغادر المكان والزمان وأبقى حبيسًا في فكرتي عن المنفى، من هم هؤلاء الذين ترحب بهم هذه المدينة؟. ذات يوم استيقظت على هاتف من صديقي يبلغني بوفاة صديق لنا في اسطنبول، شاب من غزة لم يبلغ الثامنة والعشرين من عمره، يعمل في مطعم في إحدى ساحات اسطنبول الشهيرة، وهذا الشاب كان قد مر برحلة عسيرة مع السفر من غزة، لكنه مات فجأة ودون سابق انذار ودون أن يقول وداعًا كغيره من شباب غزة.
كل من في الجنازة كان يردد شيئًا واحدًا عنه: سيدفن هنا ولن يدفن هناكَ. وهذه الكلمات لا تزال عالقة في ذهني حتى الأن. ما المعنى من هناكَ؟ وما القيمة هنا؟ وما بينهما أين يذهب المرء كي يكون حرًا وقادرًا على الحياة؟ هل إن كنا هنا علينا أن نعود إلى هناكَ أي إلى تلك الأماكن التي قذفتنا كجمر في برودة المنافي البعيدة أم أن نموت هنا وندفن هنا في صمتنا الطويل وكذبتنا الكبيرة عن الوطن؟.