عندما أخفق أندرسون في فلسطين – دلالات قراءة في نصّين فلسطينيين


اشترك معنا في قناة تلغرام: اضغط للاشتراك حمل تطبيق الملتقى الفلسطيني على آندرويد: اضغط للتحميل

خاص ملتقى فلسطين

مما لا شك فيه، بان اكثر الكتب ابداعا وحنكة واكثرها تشويقا لقراءة ثانية وثالثة في مجال دراسة القومية ونشوئها وتطورها هو كتاب بنديكت اندرسون “الجماعات المتخيَّلة – تأملات في أصل القومية وانتشارها”. وفيه يعرّي اندرسون الخطاب القائل بان الجماعات القومية هي استمرار لجماعات تاريخية، ومستنده الى اصول محددة وواضحة وموحدة، ليشير الى ان الجماعات القومية، هي مستحدثة وحديثة وظروف نشأتها مصطنعة بعمل سياسي مفتعل تزامن مع الحداثة وانتصار الدولة القومية في اوروبا، لاجل تحقيق او تبرير تحقق غايات عينية، اهمها “حق تقرير المصير” وتحكم الجماعة من خلال افرادها ونخبها وقياداتها، بنفسها ومصائرها.

يبدع اندرسون في كل اقسام الكتاب، لكن ما يعنينا هنا هو ما طرحه اندرسون في الفصل العاشر، والذي يفصل فيه اهمية الخريطة الجغرافية والمتحف الوطني والتعداد السكاني ، وهي كلها ادوات حديثة ومتأخرة نسبيا في المنجزات الحضارية للبشرية، في صياغة وتعضيد الجماعة القومية ووضعها وتطلعاتها، بمجموع افرادها، لمصيرهم. هذه المركبات، وغيرها مما اورده اندرسون في كتابه المجيد، هي حجر الاساس في تشكل الوعي القومي، كما نشهده خلال القرنين الأخيرين او نيف.
وكان حريا بتوصيف اندرسون ان يلائمنا كفلسطينيين، كما يلائم كل الجماعات القومية في العالم وخصوصا ان الكتاب الاصلي صدر عام 1983، اي بعد النكبة والنكسة وتوابعهم، التي من المؤكد بان اندرسون كان على علم بها كمتابع وكفيلسوف وكباحث في العلوم السياسية. لكن اندرسون، وكما تفهمنا التجربة الفلسطينية المستحدثة والمتغيرة، وهي كذلك –كما في كل العالم- لم يستوعب الرواية، او اخفق، على الاقل كما يخطها ويتصورها ويتخيلها جزء مهم وكبير من الفلسطينيين، واعني تحديدا عدم استطاعته ان يرى ما تراه الكثير من النخب الفلسطينية من اهمية الخطوط. وهنا اعني بالخطوط: خط ايقاف النار، او الخط الاخضر، والخط الازرق مع لبنان، والخط الابيض (اعني البحر المتوسط) وخط وادي الاردن، الخ…

خلال شهر يونيو 2020، وعلى خلفية الاعلان عن “صفقة القرن” للرئيس الامريكي ترامب، واعلان رئيس وزراء اسرائيل بنيامين نتنياهو عن نيته تنفيذ ضم غور الاردن، وبالأساس على خلفية اخفاق فلسطيني جدي في التعامل مع هذه التطورات وغيرها الكثيرة مما سبقتها، اصدرت مجموعتان فلسطينيتان بيانان، وقع على كل واحد منهم المئات من النشطاء الفلسطينيين. الاول بيان تحت عنوان “نحو انتخاب مجلس وطني لإعادة بناء منظمة التحرير الفلسطينية” وهو بيان ساهم ملتقى فلسطين في صياغته ونشره والترويج له ولأفكاره، وبيان ثان صدر تحت عنوان “نداء من شعب فلسطين لشعوب ودول العالم” وتم تعميمه من قبل مراكز ابحاث وشخصيات فاعلة في رام الله.
ويحمل كل واحد من البيانين رسالة فلسطينية منفصلة ومختلفة جذريا، رغم انه تم تبرير اصدار كل واحد من البيانين باستفحال التمييز والضم من قبل حكومة اليمين الاسرائيلية، واعلان “صفقة القرن” من قبل الرئيس ترامب، الخ….واهم ما يفرق البيانين عن بعض هو ما يشير اليه النصين من فهمهما لما هي فلسطين، ومن هو الشعب الفلسطيني الذي يتطلع الى تقرير المصير. والفرق هنا واضح وكبير ويستحق دراسة مطولة، لكنني اورد الفروق بينهما باختصار.
فالبيان الاول “نحو انتخاب مجلس وطني….” ينطلق من ان فلسطين، هي ما يعرف في النقاشات العامة “كفلسطين التاريخية” وان الشعب الفلسطيني الذي يتطلع الى تقرير المصير كجماعة قومية هو عموم الفلسطينيين في فلسطين (التاريخية) واللجوء والشتات الفلسطينيين، ويشدد البيان على ضرورة التطابق بين الشعب الفلسطيني وارض فلسطين ويصر على وحدة الشعب وقضيته ووطنه وبلاده، كما يتخيلها كل فلسطيني، اي كل ما يقع ضمن الخريطة المعروفة، والتي يتقلدها الشباب والشابات في اعناقهم، تعبيرا عن هويتهم الفلسطينية, وبذلك يتم التشديد على ثلاثة مركبات تهمنا هنا.
اولا، ان فلسطين هي تلك التي تحدها الخطوط الاربعة: الخط الازرق مع لبنان، وخط نهر الاردن مع سوريا والاردن، والخط الابيض من حيث البحر المتوسط وخط العريش -طابا الذي يفصل بين سيناء المصرية وصحراء النقب حتى ام رشراش\ايلات.
ثانيا، الشعب الفلسطيني، او الجماعة القومية، هي كل من يعرّف نفسه كذلك وينتسب عموما لهذه الجماعة الفلسطينيون في ال-48 والشتات واللجوء والقدس والضفة الغربية وقطاع غزة، وبذلك يتم تجاوز التفريق والفصل الذي اوجدته اسرائيل ويتم الاصرار على وحدة كل الفلسطينيين بصفتهم جماعة قومية واحدة، طبعا من غير اغفال الفروق الموضوعية بين مكانة كل مجموعة.
وثالثا، لهؤلاء مجتمعين، في جماعة قومية واحدة وموحدة، يحق لهم حق تقرير مصير جماعي وغير منفصل يدعو الى التطابق بين فلسطين والشعب الفلسطيني.

بينما يؤكد البيان الثاني “نداء من شعب فلسطين …” مضمونا وشكلا مختلفا جذريا في المركبات الثلاثة، اي ما هي فلسطين واين تقع، ومن ينتسب للشعب الفلسطيني كجماعة تستحق تقرير المصير، واين يجب ان يكون تقرير المصير وما هو شكله. هذه فوارق جذرية بين توجهين فلسطينيين مختلفين في تصور الماضي والحاضر والمستقبل.
فبالنسبة لنداء “من شعب فلسطين الى …..” الخط الاساسي الحاسم في تعريف فلسطين، ومن يجب ان تضم واين يجب ان تكون هو خط وقف اطلاق النار عام 1949، او ما يسمى بالخط الاخضر والمشكلة الفلسطينية هي بالأساس مشكلة الاحتلال عام 1967، والنكبة هي حدث فقط للذاكرة، وليست اساسا لمشروع سياسي عيني. فالنداء الخارج من فلسطين، معناه النداء الخارج من الضفة والقطاع، وليس من الجليل والمثلث والنقب، لتصبح “فلسطين” في افضل الاحوال خمس “فلسطين”، وليصبح الخط الاخضر صنما نعبده ما يجري بعده احتلال وعمل استيطاني واحلالي، وبغض النظر عن وجهة الموقعين، يكون ما حصل داخل الخط الاخضر “تحرير” وعمل تطويري، والجليل والمثلث والنقب والمدن الساحلية مناطق اسرائيلية، لا فلسطينية، تكون بها عملية الاستيطان شرعية وبدون مجرد تعقيب واحد.

بذلك تكون فلسطين هي التي يحدها في الضفة الغربية، الخط الاخضر غربا وخط وادي الاردن شرقا، وفي غزة خط وقف اطلاق النار عام 1949 شرقا والخط الفاصل بين قطاع غزة وسيناء غربا، وتصبح فلسطين دولة الضفة الغربية وقطاع غزة، لا التي نعرفها كفلسطينيين، بما في ذلك بالتأكيد من وقع على هذا البيان. ويصبح الفلسطينيون مقسمون الى “شعوب واقوام” من حيث وحدتهم الجماعية كشعب يتطلع الى تقرير مصير جماعي، ويكون حق تقرير المصير السياسي منفصل تماما وكأننا امام شعوب لها حقوق جماعية منفصلة ومختلفة تماما. وعلى سبيل المثال، الفلسطينيون في اسرائيل، ليسوا بفلسطينيين من حيث شملهم بحق تقرير المصير السياسي للفلسطينيين حسب البيان.
طبعا ادرك تماما بان هذا الوضع يشكل خلافا بين وجهتين سياسيتين ترجع جذورهما الى النكبة وقرار التقسيم، وقبول منظمة التحرير بحل الدولتين، الخ… لكن كل هذا كان مقبولا سياسيا عندما كانت امكانية اقامة دولة فلسطينية كاملة الاستقلال مهمة ممكنة ومأمولة، لكننا اليوم في زمن اخر وواقع مرير لكن ممكن تجاوزه، ولو كمشروع سياسي يعيد تشكيل الذاكرة، ومعنى الوطن وماهية الشعب الفلسطيني من حيث كونه جماعة وطنية واحدة، لا شعوبا متفرقة، وربما يفتح الباب مجددا على امكانية حل سياسي يليق بنا كفلسطينيين، كما بغيرنا من الشعوب التي تعرضت للاستيطان الكولنيالي.

كل ذلك يأتي في زمن نتنياهو، الذي نجح في تغيير اسرائيل داخليا، وفي تعزيز مكانتها دوليا بشكل غير مسبوق، وفي تغيير اسس الصراع وجداوله وامكانيات حله، وهو بملء ارادته يقول بان الفلسطينيين هم شعب ومجموعة قومية واحده، كلهم عدو له ولدولته ولمشروع اسرائيل الكبرى الذي ينفذه. عدونا يقول باننا شعب واحد وجماعة قومية واحدة، فلماذا يصر بعضنا، وهم كثر، على القول بتفريقنا وكوننا امما وشعوبا وجماعات قومية متفرقة؟
لو قام اندرسون من قبره الان، لرأى العجب مما يخلخل اساس دعوته ورؤيته وتصوره النظري، ولرأى خطوطا تفرق رغم الجغرافيا والخريطة والتعداد السكاني والمتحف، فكلها مركبات لتصور يجمع عليه غالبية الفلسطينيين، بما في ذلك غالبية من وقعوا على بيان “نداء من شعب فلسطين …” ، وكلهم يصرون على التمسك بالرواية الفلسطينية بان هنالك شعبا فلسطينيا واحدا، له ماض وحاضر ومستقبل، لكنه سوف يرى خطوطا تفرق وتمزق، وابناء شعب يدّعون بان هذه الخطوط هي العنوان لمستقبلهم وحقوقهم في تقرير مصائرهم – بالجمع لا المفرد. والاهم، لرأى عدوهم يصر على خط فاصل واحد، لا غيره: من هو اليهودي؟ والباقي كل ما دونه.

اشترك معنا في قناة تلغرام: اضغط للاشتراك

حمل تطبيق الملتقى الفلسطيني على آندرويد: اضغط للتحميل

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *