على هامش الاجتماع القيادي الفلسطيني…لا جديد تحت الشمس
لم يكن الاجتماع القيادي الفلسطيني الذي حدث يوم أمس (3/9) هو الأول من نوعه، إذ شهدت الساحة الفلسطينية لقاءات ومحاولات عديدة لاستعادة وحدة الصف، تضمنت توقيع اتفاقيات، منذ اتفاق مكة (فبراير 2007) إلى اتفاقات صنعاء والدوحة والقاهرة وغزة، التي سرعات ما تصبح مجرد حبر على ورق.
وفي الحقيقة، فلا شيء يشجع على التفاؤل من أية محاولة جديدة، طالما أن الطرفين المعنيين، أي “فتح” وهي السلطة في الضفة، و”حماس” وهي السلطة في غزة، لم تحسما أمرهما، بالتنازل عن مكانتهما كسلطة، أو التوجه نحو انتخابات عامة رئاسية وتشريعية، وللمجلس الوطني، وطالما أن كل واحدة منهما لا يأتي ذهابها نحو الاتفاق أو المصالحة من إدراكها لاعتبار أن وحدة العمل الفلسطيني هي ضرورة وطنية، وليس كنتيجة للضغوط الخارجية.
واضح أن دوافع اللقاء القيادي الفلسطيني يوم أمس ناجم عن الشعور بأن الوضع الفلسطيني بات أكثر صعوبة وتعقيدا وانكشافا، أولا، بحكم المخاطر الناجمة عن السياسات الإسرائيلية، سيما بعد قانون إسرائيل دولة قومية لليهود، وخطة ضم أجزاء من الضفة). وثانيا، انكفاء فكرة الربط بين قضية فلسطين والتطبيع مع إسرائيل، أو الأرض مقابل السلام، لصالح معادلة جديدة قوامها “السلام مقابل السلام”، بل وحتى إقامة نوع من تحالف مع إسرائيل، ما يعني تقويض مركزية القضية الفلسطينية بالنسبة للأنظمة العربية، وانكشاف أنها مجرد قضية للابتزاز والتوظيف والاستخدام لا أكثر. وثالثا، تخلي الإدارة الأمريكية عن دورها في عملية التسوية الفلسطينية ـ الإسرائيلية، وانكشاف أوهام القيادة الفلسطينية، التي طالما رأت فيها بمثابة راع نزيه ووسيط محايد وطرف موثوق، في تلك العملية، إذ إن تلك الإدارة أطاحت بكل المعايير والقرارات الدولية المتعلقة بقضية فلسطين، باعترافها بالقدس عاصمة لإسرائيل وإضفائها مشروعية على الاستيطان ومحاولاتها تصفية حق العودة، وإغلاقها مكتب منظمة التحرير الفلسطينية في واشنطن.
على أية حال، فإن القيادة الفلسطينية في خطوتها تلك أتت متأخرة جدا، سيما أنها لم تعد ذاتها، ولا شعبها، لمثل تلك الاستحقاقات أو التحديات الخطيرة، فهي تفتقر إلى أوراق القوة اللازمة لها لتدعيم موقفها، أو مكانتها، في الصراع ضد إسرائيل، فمنظمة التحرير باتت مهمشة، لصالح سلطة تحت الاحتلال، وهذا التهميش حصل بيد القيادة الفلسطينية ذاتها أكثر من أي طرف أخر، والفلسطينيون في الخارج، أي اللاجئون، باتوا خارج المعادلات السياسية، بعد أن انتقال مركز الثقل إلى الداخل، وبعد أن أضحت المنظمة مجرد فولكلور فلسطيني، أو مجرد منبر للمناسبات (عقدت الدورة العادية الـ 21 للمجلس الوطني في العام 1996، في حين عقدت الدورة العادية الـ23 في 2018، أي بعد 22 عاما، علما أن الدورة الـ22 لعام 2009 فكانت استثنائية وفقط لتمرير ترميم عضوية اللجنة التنفيذية). ومعلوم أن السلطة الفلسطينية في أضعف حالاتها، ليس كنتاج للانقسام فحسب، وإنما كنتاج لأفول الشرعية، للرئيس وللمجلس التشريعي (الذي تم حله قبل عام)، وبواقع ضعف مبنى الحركة الوطنية الفلسطينية، سواء على صعيد المنظمة أو على صعيد الفصائل، وبحكم الفجوة بين مجتمعات الفلسطينيين والقيادة في الداخل والخارج، وغياب، أو ضعف، حواضن العمل الوطني الفلسطيني العربية والإقليمية والدولية، في الظروف والمعطيات الراهنة.
على ذلك بديهي أن تأتي نتائج اجتماع أمس باهتة، ومتأخرة، ولا مفاعيل لها، فهي تتحدث عن مجرد دعوات للمقاومة الشعبية، والإسراع في إنهاء الانقسام وتحقيق المصالحة والشراكة الوطنية، والعيش في ظل نظام ديمقراطي وسلطة واحدة، كأنها ليست هي القيادة، أو كأنها لا تتحمل كقيادة المسؤولية عن غياب أو تغيبب كل تلك العناصر، والأهم من ذلك أن هذا الاجتماع القيادي نتج عنه تشكيل لجنة ستحيل الأمر إلى المجلس المركزي، ما يذكر بقرارات سابقة، ضاعت بين اللجان، أو في أدراج المجلس المركزي.
باختصار، ثمة قضايا رئيسية أخرى ينبغي الحسم فيها أهمها:
أولا، على الحركتين /السلطتين “فتح” و”حماس”، أن تقرا بأن استنهاض الوضع الفلسطيني يتطلب منهما أكثر من التوافق، وأكثر من مجرد الشراكة أو تقاسم السلطة، باتجاه إعادة بناء الكيانات الفلسطينية على أسس جمعية ومؤسسية، وطنية وديمقراطية وتمثيلية وكفاحية.
ثانيًا، لا بد من إعادة بناء وتفعيل منظمة التحرير، إذ القول بالتفعيل وحده من دون إعادة بناء ليس كافيا، بحكم ترهل بنى المنظمة، وبالنظر إلى أهمية إدخال دماء شابة وجديدة إليها، وفي واقع الحاجة إلى تجديد شرعية هيئاتها، وإعادة صوغ الخيارات الوطنية.
ثالثاً، الانتخابات هي المدخل الأسلم لحسم الخلافات حول القضايا المطروحة، وضمنها الخيارات الوطنية التي ينبغي اعتمادها، وأيضا كوسيلة لتحديد الأوزان في الساحة الفلسطينية بطريقة ديمقراطية، والقصد انتخابات للمجلس التشريعي والمجلس الوطني ورئاسة السلطة.
رابعا، لا يمكن الحديث عن اتفاق منجز دون تخلي الحركتين عن واقعهما كسلطتين، مع أجهزة أمنية وموارد مالية، واستعادتهما لطابعهما كحركتي تحرر وطني، أي تغليب طابع التحرر على طابع السلطة، وطابع الصراع مع إسرائيل على طابع الصراع الداخلي، لأنه من دون تغيير في إدراكات وثقافات الحركتين ستبقى الأزمة الفلسطينية قائمة.
خامساً، ما يجب إدراكه أن أزمة العمل الوطني الفلسطيني هي شاملة وعميقة ومعقدة، وهي ناجمة عن تقادم واستهلاك البني الوطنية، وتآكل شرعيتها ومكانتها في مجتمعات الفلسطينيين، وتراجع دورها في الكفاح ضد عدوها، وضياع مشروعها الوطني، بعد تحولها من حركة تحرر إلى سلطة، لذا لا يمكن التعاطي مع الأمر بطريقة جزئية ومزاجية.
باختصار، فمن دون حسم القيادة الفلسطينية لما تريده، ولاسيما من دون حسمها لإمكان تغيير الطريق، وإعادة بناء البيت الفلسطيني على أسس جديدة، ومن دون مصارحتها لشعبها، فإن الوضع الفلسطيني سيصل إلى حائط مسدود، وربما يصل إلى تلك اللحظة المأساوية التي وصلت إليها الحركة الوطنية الفلسطينية التي انطلقت في الثلاثينيات نتيجة قيام إسرائيل (1948)، ونتيجة لإخفاقها في إدارة كفاح شعبها آنذاك، ما أدى إلى غيابها نهائيا، في حين ظل شعبها في فراغ، بانتظار توليد حركة وطنية جديدة في ظروف مغايرة، وهو ما نجم عنه توليد الحركة الوطنية الفلسطينية المعاصرة، التي يبدو أنها ستواجه ذات المصير في حال استمرت فيما هي عليه.