علم الآثار السياسي والنزعة القومية المقدسة(2)

المعارك الأثرية على الكتاب المقدس و الأرض في إسرائيل و فلسطين من 1967-2000 –

ترجمة: محمود الصباغ

الفصل الثاني: علم الآثار التاريخي\ الثقافي و الإثنية

القسم الثاني

تطابق المناطق العمرانية مع الجماعات الإثنية الرئيسية أو الشعب

يطرح وليم ديفر السؤال التالي” كيف السبيل لدراسة النصوص والأدلة الأثرية مثل مجاميع المصنوعات اليدوية من أجل إنتاج صورة متفوقة لإسرءيل القديمة؟(Diver 1997a:21)، ويتابع وصفه عن الطريقة التي راكم فيها الآثاريون معطيات جديدة ألقت الضوء على تاريخ إسرءيل المبكر بطريقة مختلفة جذرياً. ومدر هذه المعطيات أساساً: أولا، المسح السطحي الجهوي (المناطقي) الذي قام به الآثاريين الإسرائيليين لإسرائيل والضفة الغربية، وثانياً حفريات المواقع الرئيسية (Diver 1997a: 26pp): “على النقيض من استمرارية الفخار، تتمثل  أحد الحقائق البارزة من هذه الدراسات والمسوحات الاستقصائية في أن بعض مظاهر الثقافة المادية لهذه القرى هي جديدة ومميزة- وهو ما يمكن أن ندعوه من وجهة النظر الآثارية (السمات التشخيصية) أو ربما حتى (معالم إثنية). وهذه الخصائص ستشمل بوتيرة متزايدة خزانات المياه الصخرية المجصصة، ومخازن الحبوب الأرضية المبلطة بالحجارة لتخزين الحبوب، وأدوات حديدية بسيطة وآلات، والمصاطب الزراعية في التلال، وبطبيعة الحال، المساكن ذات الغرف الأربعة المميزة أو أفنية السكن التي وصفت أعلاه باعتبارها أشكال منازل دعيت بساطة شديدة “البيت الإسرءيلي” (Diver 1997a)..

لماذا ينبغي علينا الاعتقاد على سبيل المثال بأن خزانات المياه ومخازن الحبوب والأدوات الحديدية البسيطة والآلات والمصاطب الزراعية على التلال هي معالم إثنية؟ فأولاً، لا توجد ثمة حجج تؤيد الافتراض الذي يزعم  أن ما سبق تمثل إثنية ما (أتوقع، مثلاً، بأن كل شخص سيحتاج إلى خزان ماء بين الحين والآخر). هذه مجرد تأكيدات لا تتضمن أي صلاحية علمية في هذا السياق، وثانياً يرتبط إنتاج التقنيات الزراعية بسبل العيش أكثر منه بالإثنية، وبالتالي فإن أي مجموعات متعددة، قد يكون لها نفس أنماط الإنتاج ضمن منطقة ما. علاوة على ذلك مازال تحديد تاريخ ظهور هذه الأنماط موضع سجال على نحو كبير. ولكن، كما ذكرت سابقا، سوف لن أناقش المسائل التحقيبية، فالفكرة هي أن أي تدبير اقتصادي، تبعاً للظرف، سوف يجعل من أي فرضية تتفق، على الأغلب، مع الظواهر. الأمر الذي يرضي خيالنا لكنه لن يساهم في تقدم معرفتنا. ولا تعد مثل هذه النتيجة مفاجئة عندما ننظر إلى السمات الاعتباطية كروائز إثنية انتزعت من سياقها النظري والآثاري على حد سواء. والاستدلال الضمني على هذا الاستنتاج يسير نحو الرؤية ذاتها التي تم التعبير عنها عن الثقافات في عشرينيات القرن الماضي، إلا أن الآثاريين في تلك الفترة كانوا أكثر دقة وصرامة في حججهم: “لا توجد ميزة واحدة تخص قرى الهضاب في العصر الحديدي الأول المعروفة الآن من المسوحات السطحية، بل مزيج من المزايا، وهو مزيج ثابت وفريد. وأعتقد بأن هذا الجمع المميز يشكل ما يمكن أن ندعوه “مجاميع آثارية ‘archaeological assemblage’ عادة ما تكون نموذجية لجماعة إثنية أو ثقافية أو اقتصادية-اجتماعية- في هذه الحالة سوف هذه الجماعة هي لتي سوف أقوم بدون تردد بوسمها باسم “طلائع الإسرءيليين proto-Israelite “(Diver 1997a: 30).

وتنبني الحجج هنا على أن أي تجمع أثري أو ثقافي، ينبغي له أن يكون مساوياً لجماعة إثنية. علاوة على ذلك لا توجد فوارق بين الأنماط المختلفة لكيانات الجماعة والجماعات المتفاعلة الأخرى على الصعيد الاقتصادي-الاجتماعي، وجماعات الجنوسة، والجماعة الإثنية أو ما هو في الواقع “الثقافة” في مجتمعات متعددة الإثنيات. ليس هذا فحسب، بل، ليست الإثنية في نهاية المطاف هي التي تؤدي فقط إلى نمط آخر من الإثنية بل أيضاً “طلائع الإثنية”، وهي ذلك النمط الذي نريد إيجاده أي الإسرءيليين. وبوضوح أكثر، تحتاج العديد من المواقع المفترضة على أنها لطلائع  الإسرءيليين إلى عمليات تنقيب بمناهج وطرق حديثة للتخصصات المختلفة ولعلم الطبقات stratigraphy وبعد ذلك يمكن نشر النتائج بشكل صحيح وعلى وجه السرعة. بهذه الطريقة فقط يمكن أن نعالج هذه المسالة البارزة أي “الهوية الإثنية” وذلك عن طريق مقارنة ثقافتها المادية، والبناء الاجتماعي والاقتصادي (وربما إيديولوجية سكانها) بمواقع معاصرة من المرجح أنها “كنعانية” أو “فلستية” (Diver 1997a:37).

من جديد، نرى أن استمرارية الثقافة المادية تتطابق مع الاستمرارية الإثنية. ومع ذلك فالحجج هنا من طبيعة هلامية ورخوة حيث سبق لديفر الإشارة في كتاب سابق بأنه على الرغم من السمات الثقافية مثل تقنيات العصر الحديد المبكر والأدوات، وجرار التخزين واستغلال وتطوير المصاطب الزراعية والمخازن الحجرية المجصصة، يمكن الافتراض بأنها قد تكون نموذجياً مواقع إسرءيلية تعود للقرن القرن الثاني عشر ق.م، فهي ليست كلها كذلك بالمعنى الحصري، كما أنها ليست بالضرورة ابتكاراً إسرءيلياً  كما كان يعتقد في كثير من الأحيان. لقد تم العثور على بعض هذه الخصائص في مناطق غير إسرءيلية مثل شرق الأردن وفي سياقات كنعانية مبكرة تعود إلى العصر البرونزي المتأخر. لذلك يبدو أن التراكيب المميزة لتلك العناصر ليست “إسرءيلية” بذلك القدر الكبير بقدر ما هي ميزة تشخيصية لثقافات العصر الحديدي المبكر في فلسطين عموماً (Diver 1990: 80). أو، بعبارة أخرى، لم تكن هذه المميزات مرتبطة بإثنية ما  لا في العصر البرونزي ولا في العصر الحديدي. بل أن هذا  الارتباط برز حتماً  في مراحل متأخرة .

ويقارن إفرايم شتيرن الثقافة المادية في فلسطين في الفترة البابلية (586 ق.م – 538 ق.م) مع الفترة الفارسية التي تلتها مباشرة (538 ق.م – 332 ق.م) وذلك في سياق الجدل الدائر حول كيفية التعامل مع المواد الأثرية. وعلى المرء أن يتفحص -عند دراسة الفترة البابلية الجماعات بأكملها أو المجاميع، وليس فقط قطعاً أثرية معزولة هنا وهناك بسبب من عدم تمييز خصائص نموذجية للفترة البابلية حتى الآن. أما الفترة الفارسية، فتمتاز، عموما، بثقافة مادية يمكن تعريفها بسهولة على أنها تقاليد إسرءيلية محلية أو فينيقية (Stern 1982: 229).. وتعتبر هذه الحجة انتهازية بحق، لأنها تظهر أن التغيير من الفترة البابلية إلى الفترة الفارسية هو الذي يشرح المنهجية، بدلاً، من الإقرار بأن الإثنية لا تمثل حالة ارتباط كاملة بنسبة 1:1 مع الثقافة المادية بغض النظر عن تسمياتنا الاصطلاحية للثقافات أو للحقب. ووفقاً لآرثر فريش، ثمة 38 إشارة إلى حشبون في العهد القديم. معظمها يتعلق بهزيمة إسرءيل لسيحون العموري ملك حشبون خلال فترة الغزو والتوطن في شرق الأردن (Ferch 1989: 39). وتستند هذه الممارسة التأويلية بشأن البقايا الأثرية التي عثر عليها في المكان وتلك الفترة على التصور التاريخي-الثقافي. وعلى الرغم من أن فريش يذكرنا بالقبول الواسع إلى حد ما بافتراض حشبون الكتابية أنها تل حسبان، ورغم عدم ثبوت المصادر المدونة، فمازالت هذه النصوص هي مصادرنا “الوحيدة حتى الآن التي تخبرنا عن حشبون وعن الصراع بين إسرءيل وسيحون الأموري- وهي تقدم إطاراً مناسباً لتأويل البيانات المصطنعة، و ليس العكس. ولا يعد هذا ردا غير مسؤولاً أو متعجرفاً للمشكلةـ بل هو ضرورة منهجيةـ إذا ما أردنا أن نأخذ على محمل الجد الانتقادات الأخيرة المشرّعة في وجه الارتباط غير المبرر بين الشواهد الكتابية والأثرية (Ferch 1989:55)..

وتجدر الإشارة في هذا الصدد، إلى أنه ليس حقيقياً القول بأن البقايا الأثرية تعكس جماعة إثنية رئيسية أو شعب. فالجماعات حددت بداهة بكونها موجودة قبل النقاش لأنه مشار إليها في الكتاب. و بالتالي يكون جزء من “واجب” الآثاريين الكتابيين هو ربط اللقى بالصورة التي تنبثق من المصادر الأدبية المعاصرة (Geraty 1989:ix). وكنتيجة لمثل هذه الرؤية يمضي “العديد من الآثاريين ضمن علم الآثار الكتابي بعيداً إلى حد القول بأن التاريخ التقليدي يجب أن يكفل، كاستثناء صالح، إلا إذا كان من المستحيل البرهان عليه من الناحية التاريخية. وفقط في السنوات القليلة الأخيرة ابتدأ علم الآثار في تطوير تاريخ فلسطين بشكل مستقل عن هذه التحيزات اللاهوتية (Thompson 1999:4) ، وتكمن مشكلة التحيزات اللاهوتية هذه في منطق التفكير والاستنتاج الدائري .

إن وجود ملك أموري إلى الشمال من أرنون [ وادي الموجب؟] لا ينظر له كاستحالة تاريخية. ولا يوجد أي دليل قسري على أن سيحون لم يحكم حشبون وأن حشبون لم تحتل من قبل الإسرءيليين أثناء اقترابهم من الأرض الموعودة (Vyhmeister 1989:6). نقطة الانطلاق هنا هي أن جماعات إثنية وجدت في الموقع في زمن ما، وبالتالي، يكون حل اللغز بربط اللقى الأثرية المستكشفة بجماعات إثنية معروفة سابقاً. إن الممارسة الاستدلالية أو التأويلية و التفكير المنطقي لا يدور حول ما حدث، وإنما حول ما لا يمكن أن يكون قد حدث، وبالتالي، يتم افتراض ضمني بأن المواد الأثرية ترتبط مع المصادر المكتوبة: وبرغم أن السجل الكتابي لا يقول ذلك، فإنه يمكن الافتراض بأن حشبون والمنطقة المحيطة بها قد وقعت مرة أخرى في أيدي الإسرءيليين. وإلا فلا معنى لكلمات سفر القضاة على لسان يفتاح (حوالي 1100 ق.م ) بأن “إسرءيل سكنت في حشبون وبلداتها.. مدة 300 عاماً (قضاة 11 : 26) (Vyhmeister 1989:7). .

تبدو الممارسة العلمية والاستدلالية ضبابية أكثر و “استخدام التقاليد الكتابية كمصدر أولي لتاريخ أصل ونشأة إسرءيل، إنما يهدف لتكريس وضعية ميؤوس منها للمؤرخ الذي يود كتابة تاريخ نقدي بدلاً من تاريخ مليء بالمغالطات” (Thompson 1987: 26).. ويزداد في تقديري الوضع سوء بالنسبة للآثاريين. ويجادل تومسون بما هو أبعد من ذلك بأننا لا نستطيع الاستمرار بمثل هذه الطريقة لأن المنهج غير منطقي وغير موضوعي ولا جدوى من متابعته. ولكن ثمة مفهوم ضمني في علم الآثار الكتابي يرى بأن الكتاب لا يمكن أن يكون على خطأ. وحتى عندما تكون الأحداث غير مدونة في الكتاب، فقد استخدمت النصوص المقدسة بوصفها إطاراً مرجعياً. يرى بول و ديفر (1973:viii) بأن  آثاريي الشرق الأدنى كافة، عندما يشتغلون على مناطق أو أزمنة تمت بصلة للكتاب، فمن الواجب عليهم أن يوظفوه إن لم يكن لسبب سوى للحقيقة التي تلوح بصفتها عملنا الحي ذو التأثير الكبير والعظيم للأدب من الشرق الأدنى القديم. وهذا له صلة بالمشكلة الرئيسية: أين يكون له صلة وفي أي معنى أو سياق ؟ لكن ما هو أهم وأكثر صعوبة للنقاش، هو أين ومتى يكون الكتاب غير ذي صلة و مضلل لجهة التأويل؟ الهدف الأول هو تقرير ما إذا كان الكتاب له حقا صلة بالتأويلات، فإذا كانت الإجابة بنعم في بعض الحالات، إذن كيف يمكن أن نفترض بعد ذلك التعامل مع المصادر المدونة؟

يجب التأكيد على أنه لا يوجد مناهج وطرق “خاصة” أو أهداف لعلم الآثار الكتابي. فهو يتعاطى مع المواد ذاتها والتقنيات عينها وهو يفترض ذات المعيار من الموضوعية، ويسعى لعمليات إعادة البناء للماضي عينها التي تميز كل علم الآثار (Paul & Diver 1973:ix).. يبدو مثل هذا الأمر واضحاً بما فيه الكفاية، ولكن بول و ديفر يستمران في القول “يقيد علم الآثار التوراتي نفسه ببساطة-ليس اعتباطياً بل بتروٍ- بتلك المناطق التي لها علاقة مباشرة بالكتاب” وهذا ليس جزء من علم آثار “قياسي”، وهو يعكس وجهة نظرهم في الكتاب: إنه مقدس. أو بقول آخر، الكتاب مفيد ومرتبط بالتأويلات بغض النظر عما هي. وهما يقولان صراحة بأن علم الآثار كتخصص هو أدنى مرتبة من البحوث الكتابية، فيتجلى دور ووظيفة علم الآثار عندما يستطيع أن يلقي الضوء على الكتاب. والسبب هو أن هذه المناطق مناسبة بشكل أفضل للاهتمام البحثي للآثاريين الكتابيين، ولأنه يدرك حدود جدارته الآثارية الخاصة. وفي واقع الأمر فالقضية ليست قضية كفاءة آثارية، بل كفاءة بحثية كتابية ضرورية لتأويلاتهم. حيث يتم دائماً تفسير البقايا الأثرية ضمن إطار مقدس كما يستعرضه الكتاب، ويظهر ذلك بوضوح عندما يقرران بأن “الآثاري الكتابي يدافع عن مشروعه من خلال التأكيد على أن أحد الفوائد والقيم العديدة لعلم الآثار تتثمل في توضيحه للكتاب وهو ما يعد أحد الأشياء التي تكون موضع اهتمام الباحث الآثاري” (Paul & Diver 1973:ix). ويستخدم الآثاريون الكتابيون علم الآثار لتوضيح الكتاب، أو بدقة أكثر، لإضفاء الشرعية على الجماعات الإثنية التي يصفها الكتاب. ولهذه الأجندة عواقب خطيرة في تطوير الدراسات الكتابية، كما يجادل بذلك توماس تومسون: “شكّل الافتقار للسياق التاريخي الموثوق للكتاب عائقاً كبيراً للدراسات الكتابية الحديثة. ويحكم الافتقار إلى المناهج التاريخية السليمة بالفشل على البحث عن مكان للكتاب في التاريخ منذ البداية” (Thompson 1999:4).

كان للإيمان الشخصي للباحث دور في توجيه مقاربته العلمية. فالممارسة المضمرة أو الأجندة الخفية في علم الآثار الكتابي لن تنتج أبداً “أدلة” أو تأويلات متعارضة مع إيمان أو دين المؤمن، حتى لو أن بعض المتطرفين أصبحوا مؤذين فالتأويلات “آمنة” بالنسبة للتيار الرئيس للمسيحيين في أمريكا. ويؤكد بول و ديفر (1973) على أن العلاقة بين علم الآثار والكتاب أسيء فهمها في كثير من الأحيان. والخطأ الأكثر خطورة هو أن نفترض أن مهمة علم الآثار هي “البرهان على الكتاب” ويطرحان مثال على تلك المشكلة، فربما يفترض البعض أن على علم الآثار “التأكيد” على الغزو الإسرءيلي لكنعان حوالي 1200 ق.م. يمكننا التنقيب في السويّات المدمرة للمواقع المتنوعة المذكورة في الكتاب، ويمكن عن طريق الوسائل الحديثة المتوفرة لدينا أن نبين بسهولة ما إذا كانت هذه السويات تعود بتاريخها إلى الحقبة المذكورة أم لا. فإذا وجدنا دليلاً على احتلال جديد وثقافة مادية فوق مستويات الرماد، وبشكل خاص إذا وجدنا نقوشاً عبرانية في سويات البناء الجديد فيمكننا، احتمالاً، أن نطمئن إلى استنتاج مفاده أن الدمار نتج في واقع الأمر عن الغزو الإسرءيلي. ألا يمكن لهذا أن يبرهن على صحة الوصف الكتابي لغزو يشوع؟ وبالكاد ومن النقطة الأساسية لزعم مؤلف النص الكتابي بأن ليس إسرءيل من احتلت الأرض، بل الرب هو من منح تلك الأرض لإسرءيل. هذا الادعاء ببساطة ليس تقصياً آثارياً مفتوحاً! ولعلنا نمتلك القدرة على إظهار احتمالية بعض الأحداث الموصوفة في الكتاب بمثل تلك الطريقة لجعل هذا الادعاء ممكناً. ولكن قبول هذا الزعم بحد ذاته هو مسألة إيمانية نظراً لأنه لا يمكن إثباته -ولا حتى دحضه- آثارياً (Paul & Diver 1973:x). وهذا يدل بوضوح على الأجندة المضمرة لعلم الآثار الكتابي وكيفية استخدامه بطريقة قوموية. وهي ليست نقطة انطلاق علمية، بل نقطة انطلاق دينية. فبدلاً من البحث عن الإجابات، يستخدم الآثاري الكتابي الحجج الدينية. إن السجالات من نوع “لأن” هي سجالات دوغمائية صريحة أو سجالات تستنجد بالسلطة. علاوة على ذلك، ينظر إلى الجماعات الإثنية كوحدات مغلقة، خلقت وافترضت مرة وإلى الأبد. وهذا بدوره يلقي الضوء على الطريقة التي فشل فيها الآثاريين الكتابيين في تحمل مسؤولياتهم عن أبحاثهم، كيف يتصورون أنفسهم باحثين” أنقياء” و”أبرياء”. هم يشيرون إلى احتمال أن بعض الحوادث الموصوفة في الكتاب قد حدثت استناداً إلى اللقى الأثرية. ومن ثم يؤدون عملهم بأجندة قوموية. وكما يقولون، لا ينتمي قبول أو رفض المزاعم لعلم الآثار. إنهم ينتجون معرفة أو يقدمون معرفة إلى جانب واحد من الخطاب المعاصر، معرفة أبعد من أن تكون معيار ترسيمي في الممارسة العلمية. المعرفة المقدمة من المفترض أن تكون بريئة. ولكن كما يقول ديفر، الادعاء بحد ذاته هو مسألة إيمان. وعندما ينتجون معرفة تدعم العقيدة أو المعرفة التي يعرفون أنها ستستخدم لتعزيز الإيمان ومن ثم يتم استخدامها بطرق غير علمية بينما نقد تلك المعرفة غير مقبول. حينئذ يكون الآثاريون الكتابيون قد أنتجوا “حقائق مقدسة”.

من الناحية السياسية أو من وجهة نظر أفضلية “المؤمن”، تؤخذ البيانات المقدمة على أنها أدلة على الكتاب، لذلك تدعم النص المقدس. وفي الوقت ذاته “في محاولة لإلقاء المزيد من الضوء على عملية الغزو الإسرءيلي لكنعان وبداية استقرارهم في الأرض، نشد العلماء معلومات موثقة ذات صلة مباشرة أو غير مباشرة من المكتشفات الأثرية (Paul & Diver 1973:10).. إنها حلقة مفرغة، لأن المعرفة المنتجة في إطار ما يمكن أن يقبله الإيمان، وبالتالي، يدعم الإيمان إنتاج مثل هذه المعرفة. ومن جهة أخرى، لا يقبل الإيمان إنتاج معرفة تتعارض مع العقيدة. هذا بحث منحاز يستند على وجهة النظر الدينية للباحث. وعلى الرغم من أن الآثاريين المحافظين يسعون من أجل ذلك، فإنه ينبغي علينا أن نبقى موضوعيين في عملنا، إن نقداً جذرياً لعلم الآثار يخبرنا بأن البحث العلمي لا يزودنا بأي ملاذات عن الصراعات الاجتماعية (Tierney 1996:20). لم يعد ممكناً أخذ علم الآثار اللامسؤول على محمل من الجد، وإذا كان الآثاريون أنفسهم لا يمكنهم التمييز بين علم الآثار الجيد من السيء، فأنا بالكاد يمكن أن أرى سبباً لوجود علم الآثار كتخصص علمي. لقد كانت النزعة القومية، ومازالت في بعض الأماكن سبباً ومصدراً لأسوء المآسي في القرنين الماضيين من التاريخ الأوروبي. وعلى علم الآثار أن لا يكون سلاحاً إيديولوجياً في مثل هذه الحروب.

الاستمرارية الثقافية مؤشر للاستمرارية الإثنية

يعتبر الفخار أساس الحجج المرتبطة بالاستمرارية الإثنية حيث كان على الدوام واحداً من أكثر الوسائط حساسية لإدراك وفهم الاستمرارية الثقافية أو التغيير (Diver 1997a:28). وطبقاً لديفر “يمكن القول وبإيجاز أنه لدينا على الأقل حذراً أكثر عند استخدام المصطلح الإثني [إسرءيلي] في أوائل القرن الثاني عشر ق.م بخصوص التجمعات الأثرية كما نفعل عند استخدام مصطلحات مثل: [المصريين]، [الكنعانيين]، أو [فلسطين] (Diver 1997a:43) وعندئذ من الممكن استنادا على البقايا الفخارية تحديد الهوية الإثنية لأنها مدونة في الكتاب. الجانب الأكثر أهمية في الفخار، والذي كان تقدير الباحثين الكتابيين له بطيئاً، هو الاستمرارية  اللافتة للنظر للذخيرة المحلية لفخار العصر البرونزي الحديث. ويظهر الفخار عدم وجود عناصر “أجنبية”، فلا وجود لمؤثرات مصرية، وبالتأكيد من غير الممكن ربطه مع “نمط الحياة البدوية”(……). وهذا بكل تأكيد فخار قياسي بأسلوب كنعاني محلي في كل البلاد وفي كل مكان في غرب فلسطين. إن الجدال بخصوص الفخار وحده سوف يحسم مسألة أصول السكان الأصليين لمتوطني قرى الهضاب الجديدة، لقد أتوا من مكان آخر من كنعان (Diver 1997a:29-30, ).  وهذا يقودني إلى الإشارة بأنه ينبغي لنا كآثاريين أن نكون حذرين في تعيين علامات إثنية لمجاميع أثرية. ويصبح الأمر أكثر سوءً عندما يحدث ذلك على أساس الفخار وحده، علاوة على أن مفهوم “الثقافة” تم تعديله، فليس هناك ثقافة “نقية” أصيلة أو ثقافة حقيقية: لم يعد في وسعنا بعد الآن التفكير في المجتمعات كمنظومات معزولة وقائمة بذاتها، كما لم يعد ممكناً لنا تصور الثقافات باعتبارها حضارات متكاملة حيث كل جزء منها يساهم في الحفاظ على الكل الثابت والدائم والمنظم والمستقل، هناك فقط ثمة مجاميع ثقافية من الممارسات والأفكار موجودة ضمن حيز التنفيذ لتلعب دوراً من خلال تحديد العامل الإنساني في ظل ظروف محددة. وفي خضم الحدث يتم حشد وتفكيك وإعادة جمع هذه المجاميع إلى الأبد (Wolf 1982:390-391).. ليست “الثقافات” معطى ثابت أو نهائي بمضمون نوعي محدد، فالثقافات هي بنى وكيانات مائعة وغير محددة، ليس هذا فحسب، بل إن ما هو أكثر إشكالية يتمثل في الفكرة القائلة بأن هذه الوحدات والبنى المائعة يمكن تتبعها مباشرة من خلال المادة الأثرية. فالاستمرارية الثقافية، أيا كانت هذه الثقافة، يفترض بها أن تشير إلى استمرارية إثنية. ويقتضي الأساس العقلاني من أجل توظيف أكثر تجريبية لمصطلح “طلائع الإسرءيليين” لفترة ما قبل الملكية القول بأننا هنا على أعتاب أفق يظهر فيه بدايات نشوء إسرءيل الكتابية. ولكن حتى مع هذا الحذر والتحوط، كيف يمكن لنا أن نعرف أن “إسرءيل” التي تنتمي للعصر الحديدي الأول هي في الحقيقة تمهيدا لإسرءيل اللاحقة الناضجة (المكتملة) أي إسرءيل التي تنتمي للعصر الحديد الثاني، بحيث نجد لنا العذر في استخدام مصطلح “طلائع الإسرءيليين” لبدايات القرنين الثالث عشر والثاني عشر ق.م؟ الحجة بسيطة حقاً، وتكمن في فكرة الاستمرارية الواضحة للثقافة المادية لكامل فترة العصر الحديدي الأول والثاني. فإذا كان أساس الثقافة المادية التي تحدد شعوباً تبدي تقليداً لتطوير مستمر غير منقطع، حينئذ من المعقول القول بأن جوهر السكان يبقى هو نفسه (Diver 1997a:44).

لقد ناقشت سابقاً بإيجاز بعض المشاكل المتعلقة “بالأصول” وكذلك مصطلح “طلائع الإسرءيليين”. وهي مصطلحات متناقضة بطبيعتها. علماً أن مثل هذه التناقضات تعد أمراً شائعا في علم الآثار، “فالعصر الحجري الحديث ما قبل الفخار” هو مثال على مثل هذه التناقضات، حيث يتم تعريف فترة سابقة بناء على ما يحدث في فترة لاحقة، ولكن عندما يستخدم مصطلح الإثنية بذات الطريقة فهذا أمر تعوزه المسؤولية على صعيد الآثاريات. ومثل هذا الاستخدام، يخلق خرافات مختلقة وشرعية على الأرض للإسرءيليين لا جذور على أرض الواقع، وتعرض المرويات ماضياً يعزز هذه الشرعية. وقد يتساءل المرء عما إذا كانت الخرافات هي التي تخلق البحث أو العكس بأن يقوم البحث بخلق الخرافة بطريقة مشابهة أو بأخرى. تكمن المشكلة في أن الكتاب هو الذي يصنع أجندة البحث الآثاري، ولكن “أكثر الآثاريون، عموماً، قد يحتاجون إلى عالم قصصي ليكسو عظم التاريخ لحماً، أو ربما أكثر من ذلك من خلال رغبتهم بأن تكون أمم الكتاب مبعثرة ومنتشرة بين الكسر الفخارية، فالرغبة في أن يكون الكتاب تاريخاً تربك تماماً النقاش حول كيفية انتماء الكتاب للماضي، فعالم الكتاب لا ينتمي إلى مجال البحث الآثاري (Thompson 1999:34)..

عقدت جامعة بروان سنة 1992 مؤتمراً بعنوان (الخروج: “الأدلة المصرية”) ونشرت أوراق عمل المؤتمر في كتاب يحمل العنوان ذاته في العام 1997. والسؤال المطروح هنا، لماذا ينبغي لمسألة الخروج أن تكون موضوعاً للبحث العلمي والآثاري؟ ويأتي الجواب -بساطة- بسبب البحث عن أصول إسرءيل القديمة (Frerichs 1997:12)..

لاشك أن أبحاثاً كهذه هي من طبيعة قوموية بامتياز، لأنه إذا ما تم إثبات ذلك، فهذا من شأنه أن يعزز من مكانة إسرائيل[ الحالية]  كدولة قومية. لذلك، تعد حادثة الخروج أمر جوهري في التقاليد الكتابية باعتباره واحداً من الأسس المتعلقة بإيمان إسرءيل، وقد تمت الإشارة إليه بصورة مستعادة في مجمل الكتاب أكثر من أي حدث آخر عن ماضي إسرءيل. ولكن المشكلة هي ما إذا كانت هذه القصة هي مجرد نتاج متأخر لتأمل ذو طبيعة لاهوتية بصورة جوهرية أو حدث بأي مصداقية  تاريخية (Malamat 1997:15).. وهذا ما يعكس وجهة نظر ساذجة عن الثقافة في النقاش. ففي السجال الدائر حول التفاعل بين أعضاء الجماعات المنخرطة في تجارة مع المصريين، يتم تقديم رؤية ثابتة تعادل الفرضية الأولى من أطروحة كوسينا، أي أن الثقافات انعكاس حتمي للإثنية: “أعضاء مثل هذه المجتمعات، وعلى الرغم من اضطرارهم للقاء المصريين في السوق فإنهم يحتفظون بفرديتهم كجماعة. من الناحية الآثارية يختلف السجل الأثري اختلافا كبيراً، اعتماداً على التماس والاتصال بين المستعمرة والوطن الأم (ناهيك عن حالات لا حد لها مثل الإيثار، والمكانة الاجتماعية، والعلاقات مع السلطة وغيرها). ولكن قد يكون هذا الأمر مدروساً على نحو سيء فقط استناداً إلى اللقى أو النسب المئوية، مثل الكلام على سبيل المثال عن درجات متفاوتة من التأقلم ما لم نحصل على أدلة نصية محددة (Redford 1997:58)..

جماعة واحدة من الناس تمثل نمطاً واحداً من البقايا المادية، وجماعة أخرى تمثل نمطا آخر. وكنتيجة لمثل هذا النوع من التفكير والممارسة التأويلية التي تعتمد على مقابلة فكرة بفكرة، فإنه ينبغي وفقا لردفورد أن يكون ممكناً، من الناحية النظرية، على الأقل حساب درجات التأقلم المتفاوتة من خلال النسبة المئوية، فالتفاعل الاجتماعي يكون مساوياً لتمثيل جماعة إثنية واحدة، وتجمع “نقي” للقى الأثرية يمثل جماعة إثنية واحدة، في حين يمثل مزيج التجمعات تفاعلاً وتداخلاً. ومن حسن الحظ أن ردفورد يقر بأن مثل هذا الأمر من الصعب القيام به على أساس الأدلة المادية فقط، ومع ذلك فهذا الأسلوب يكون مقبولاً إذا ما كان هناك ثمة نصوصاً تدعمه. فإذا ما وجدت مثل هذه النصوص أو المصادر غير الكتابية فإن البقايا الأثرية والإثنية يمكنهما أن يمتلكا علاقة يمكن التعبير عنها بفكرة إزاء فكرة أو  بالعلاقات التبادلية الأحادية.

توزيع أنماط اللقى الأثرية السائدة لدى جماعات قبلية محددة يعكس مكان عيش هذه الجماعات في حقب  مختلفة ( علم الآثار الاستيطاني )

نظر كوسينا إلى الجرمان على أنهم وحجهم ممثلين عصور ما قبل التاريخ القومي [ في ألمانيا]، ولذلك كان سؤاله الأول في نطاق البحث الأثري: “أين علينا أن نتعامل مع الجرمان، وأين علينا التعامل مع غير الجرمان؟” وقد طوّر من أجل غرضه هذا منهج علم الآثار الاستيطاني حيث “تتزامن مقاطعات أثرية محددة بدقة مع شعوب أو قبائل محددة عبر العصور” (Wiwjorra 1996:174). إن معظم الحجج التي سبق ذكرها من قبل الآثاريين الكتابيين تدعم هذه الممارسة التأويلية. ومع ذلك يمكن إضافة المزيد من الأمثلة.

“الحقائق على الأرض” من زاوية علم الآثار الاستيطاني هي ما يقوله وليم ديفر باعتبارها واحدة من أكثر القصص لفتاً للنظر في المئة عام من عمر علم الآثار الكتابي- استعادة ما يدعوه [طلائع الإسرءيليين] (Diver 1997a:27-28). ويعد “المنزل ذو الحجرات الأربع” أو المنازل ذات الأفنية من أبرز ملامح هذه السمات للمواقع حيث من المفترض أن يكون “طلائع الإسرءيليين” قد عاشوا فيها. تنتمي هذه البناءات ذات الأنماط المختلفة للكتاب وبالتالي فهي ستلقي الضوء على البقايا الفعلية “لإسرءيل المبكرة”. واستخدم الاعتقاد بعلم الآثار الاستيطاني كمنهج لرفض نموذج الغزو المصري. البقايا الأثرية من عاي وأريحا لا تؤكد التقليد الكتابي، بيد أنه بذلت محاولات شتى لتفسير الأدلة الاثرية التي عثر عليها في تلك المدينتين في ضوء الوصف الكتابي للغزو الإسرءيلي للمدينتين الملكيتين. (Paul & Diver 1973:13). تكمن المشكلة في تفسير التناقض بين  اللقى الأثرية والكتاب. وعلى العموم لا يمكن حل هذه المشكلة ما لم يقتنع الآثاريون الكتابيون بالاختلافات بين الحضارات الآثارية والإثنية والشعب. لقد كانت المدرجات الزراعية الضيقة سمة أساسية واضحة للزراعة المستقرة في هضاب فلسطين منذ العصور قبل التاريخية وحتى فترة الملكية الإسرءيلية. وانتشار هذه المدرجات على نطاق واسع، حدث فقط في الهضاب منذ عصر المملكة المنقسمة أو منذ القرن الثامن ق.م، وليس قبل ذلك. الأمر الذي كان له كبير الأثر في  إعادة بناء سمة ونماذج التوطن في هذه المنطقة خلال عصري الحديد الأول والثاني(Gibson 2001:113).

ويرى فنكلشتين بأن المستوطنين الإسرءيليين كانوا رعاة مستقرين انتقلوا بداية نحو الجزء الشمالي من الهضاب من جهة الشرق إلى الغرب، ومن ثم وعن طريق التخلص من الغابات الكثيفة قاموا بتهيئة التضاريس الصعبة والقاسية للزراعة (زراعة البساتين) [الحواكير]. ولا يرى فنكلشتين بأن الإسرءيليين هم من استنبط تقنية المصاطب أو المدرجات أو أن تلك المدرجات سهلت عملية الاستيطان في العصر الحديدي الأول. من ناحية أخرى، يطرح  فنكلشتين بأن تلك المدرجات الزراعية لابد أن تكون قد بنيت في وقت ما من العصر البرونزي الوسيط إن لم يكن قبل ذلك، وأن المستوطنات الإسرءيلية قد بنيت هناك في هذه القطاعات حيث كانت الحراثة ممكنة دون الحاجة لبناء مدرجات (Finkelstein, I. 1988a:21,202). أما فيما يتعلق بإرث علم الآثار الكتابي، فالاعتقاد السائد هو أن “المنزل الإسرءيلي” ظهر أول ما ظهر كبناء متجانس في أوائل العصر الحديدي (القرنين الثاني عشر والحادي عشر ق.م) وتبلور بشكله النهائي في القرن العاشر ق.م. ومع ذلك، يكتنف أصل “البيت الإسرءيلي” الغموض وعدم التأكيد. فما زال من غير الواضح ما إذا كان من أصل فينيقي أو هو تقليد كنعاني متأخر أتى مع شعوب البحر أو هو محض اختراع إسرءيلي مستقل (Paul & Diver 1973:45)..

الاستمرارية الثقافية تعكس استمرارية إثنية، وكما فهمت وفسرت ما قاله ديفر، فإن أحد غايات الآثاريات الكتابية في المستقبل هو علم الآثار الاستيطاني. وتكمن المشكلة الرئيسية في الخطاب الآثاري الكتابي في رؤيته الساذجة لما يمكن أن تشير له البقايا الأثرية. فلا توجد ثمة طريقة سهلة يمكن من خلالها الولوج مباشرة إلى المعنى “الأصلي” للماضي. لا يمكننا فقط تعيين خواص وهويات ثقافة مادية بطريقة لا نقدية. وعلم الآثار بوصفه تخصصا دراسياً فهو معني بالثقافات المادية. وتكون الأشياء هي نقطة الانطلاق لما تحتويه البيانات، ولكن الأشياء في حد ذاتها ليست كافية. فالشيء يمتلك “خصائص” و”سمات” مستقرة، حتى لو تكن هذه الخصائص والسمات تفي بالغرض لتعريفه. ونقترح لمقاربة ظاهرة الواقع بدراسة الثوابت الحسية. يؤكد فريدريك بارت (1993:170)  على أننا نبني نماذجنا وفقا لمجموعة من التأكيدات كما يلي :

-المعنى، وهو ما يمنحه الشخص لموضوع أو حدث، ولمعنى  ليس شيئاً منصوصاً عليه في ذلك الموضوع أو الحدث أي أنه ينشأ من فعل التأويل

-الثقافة ذات طبيعة توزيعية والجوانب الرئيسة لبنيتها متلازمة بدقة في نماذج توزعها على الناس

-دائما ما تكون العوامل الفعالة متموضعة بصفة أساسية، والتأويلات التي تقوم بها هذه العوامل سوف تعكس هذا التموضع والمعرفة التي تفرضها هذه العوامل

-عادة ما تكون نتائج التفاعل على عكس نوايا المشاركين الفرديين، وبالتالي لا نستطيع الحكم على تأويلات الناس ونواياهم مباشرة من نتائج أفعالهم القابلة للملاحظة.

ويمكن تحليل هذا على أساس الفرق بين “الشكل” و”المحتوى”. والعلاقة بين الشكل والمضمون لم تحدد بصورة واضحة. والشكل هو ما يتبقى للآثاريين أو الخصائص الفيزيقية للأشياء المستكشفة. والهدف هو تحليل المحتوى. فالرموز الآثارية والنقوش والكرونولوجيا والتركيز الإمبريقي الشديد على المواضيع في علم الآثار غالبا ما اعتبر “آمناً” و موضوعياً أكثر من تأويلات المعنى والتي قد ينظر لها باعتبارها ذاتية أو تأملية. ولكن لا يمكن للشكل أن يوجد بدون مضمون والعكس صحيح أيضاً. وهناك فرق جوهري بين الشكل والمضمون. فـ” الشكل” ثابت، مستقر، كمي ويتجلى بصورة مادية، في حين “المضمون” متغير، ديناميكي، نوعي، وغير مادي (أي المعنى).

كل تصنيف هو تصنيع اصطناعي، بمعنى أن يختار الباحث المعايير التي يعتقد أنها هامة للتصنيف، والمشكلة الأساسية في علم الآثار هي في فهم العلاقة بين اللقى الأثرية والعمليات الثقافية التي أنتجتها (Haaland 1977:1). يلقي إيان هودر الضوء على هذه المشكلة بالشكل التالي “جميع الأواني والقدور في منطقة ما تتشابه في أنها مصنوعة من الطين (الفخار)، ولكنها تختلف في أن معالم الزخرفة التفصيلية لها متنوعة قليلاً أو أن توزيع جزيئات القوام المشكل لها ليس متطابقاً. فكيف يمكننا انتقاء أوجه التشابه والاختلاف المتعلقة بها، وما هو المقياس المناسب للتحليل ذو الصلة” (Hodder 1994:138). يتم التبويب والتصنيف من قبل الآثاريين وليس من قبل إنسان ما قبل التاريخ. إن تحليل هذه الكيانات التي خلقها الآثاريون يمكن أن تكون فقط تحليلاً للكيفية التي يعمل بها علماء الآثار. لقد تم الإقرار من قبل الآثاريين بأن الاختلاف الأسلوبي في المادة الأثرية ينطوي على أهمية ما وبالتالي لا توجد مفاهيم أو مصطلحات عديمة القيمة (Conkey & Hastorf 1990).كيف يمكننا أن نقرر الأبعاد ذات الصلة للتباين في التحليل؟

يترابط الشكل والمضمون بصورة تبادلية مع بعضهما البعض، ولكن هناك عدم اتساق في هذه العلاقة. فالشكل يضع قيوداً على التفسيرات الممكنة للمضمون. وكثيراً ما ينظر إلى هذه العلاقة بأنها ذات مكانة أعلى من الحالة العكسية، أي أن يضع المضمون أو المعنى قيوداً على الشكل. وبمقدور المضمون أن يكون أكثر من شكل. وسيكون للرمز معنىً ومضموناً يتجاوز الشكل الذي يعتمد عليه. ولكن الشكل عادة هو الذي يضع قيوداً و حدوداً على وضع ثقافي وليس العكس لأن ما نجده هو الشكل. وهذا يكافئ ما دعاه مايكل شانكس وكريستوفر تيللي “الممانعة” بين ثقافة مادية في طريقها إلى التحول إلى نص آثاري (Shanks & Tilley 1989:5). و برغم من أن الثقافة المادية قد تتيح المجال في بعض الحالات لتأويلات عدة، فالسجل الأثري له حدود ومن ثم فقد تشكل الأطر النظرية ذات الأغراض المختلفة طريقاً مسدوداً يتوجب عدم  سلوكه. ما يريد وليم ديفر التنقيب عنه هو استكشاف الكثير من المواقع المفترضة “لطلائع الإسرءيليين”. ووفقاً للإرث الاستيطاني هذا ضمن علم الآثار الكتابي، قدم نيلز بيتر لامكة، على كل حال مقاربة مختلفة جداً لهذه المشكلة. فلا يمكن إدراج علم الآثار والنص ضمن صيغة واحدة:” وبالتالي فقد كان صحيحاً صرف النظر عن أهمية تقاليد التوطن في العهد القديم والنظر إليها بدلا من ذلك كتعابير لرؤية متأخرة لأصل الأمة (….) إن نتيجة هذه الحقيقة يجب أن تؤخذ على محمل الجد. فلم يعد من المشروع محاولة “إنقاذ مظاهر” أجزاء معينة من السرد الاستيطاني, بل بالأحرى فكرة التوطن كما وردت في العهد القديم، هي التي يجب استبعادها، لأسباب تاريخية” (Lemche 1985:391).

هناك ثمة اتفاق عام الآن بأنه لم تحدث “ثورات” في العلوم الإنسانية. وحتى كلمة “تصور/ نموذج paradigm” ليست شرعية لأنها مرتبطة بشكل وثيق جدا بـ”الثورات العلمية”، و بالتالي “التقاليد” و”المدارس” أو “آفاق البحث” هي مصطلحات أكثر قبولاً، لكن هذه المصطلحات تشير بدرجة أقل أو أكثر للشيء ذاته. وإن كان ذلك بطرق أقل وزناً. وقد كان الفضل لتوماس كوهن (1970) في كتابه بنية الثورات العلمية في تقديم ما يمكن أن يطلق عليه “علم اجتماع المعرفة العلمية” وما ركز عليه كوهن كان منطقيا، فقبول “الحقائق” العلمية أو تزييف النظريات ليس منفصلا عن المجتمع. أو أن “النموذج paradigm” هو العدسة التي يتم رؤية العالم عبرها، أو ما يدعى “التصور”. فالأشخاص الذين تستند أبحاثهم على نماذج مشتركة ملتزمون بنفس القواعد والمعايير في الممارسة العملية. فالأسئلة التي يمكن طرحها والإجابات هي إلى حد ما منضبطة. ومثل هذا الالتزام والتوافق الواضح الناتج عنه هما شرطان أساسيان للعلوم الطبيعية بمعنى لنشأة واستمرار تقليد بحث معين (Kuhn 1970:11). ويكتسب العلماء عند تعلم النموذج نظريات ومناهج ومعايير معاً، وعادة على شكل خليط، لذلك، عندما يتغير النموذج ينتج عادة تحولات كبيرة في معايير تحديد الشرعية لكل من المشكلة والحلول المقترحة أو في القدرة على شرح وتفسير الأدلة التي في متناول اليد (Kuhn 1970:108).

لا يمكن أن يكون هناك ثورات علمية ضمن علم الآثار الكتابي- بل كل ما هنالك هو موت هذا الميدان البحثي. لا يستطيع المرء من الناحية العلمية أن يدرج الكتاب كما يرغب في الخطاب الآثاري بسبب من الإيمان الشخصي.[…] ما الذي يمكن أن يقوم به علم الآثار لجهة الدراسات الكتابية؟[…] بالنسبة لغير المؤمنين هذا التطوير ليس مزعجاً بصورة خاصة. ولكنه يسبب إزعاجاً لأولئك الذين يدعون الإيمان باليهودية أو المسيحية كديانة خاصة بهم، فإجماع الآراء الآن بأن التطور في علم الآثار، بالإضافة إلى التطور في الدراسات الأدبية النقدية يثير العديد من الأسئلة الحادة فيما يتعلق باستخدام الكتاب كمصدر للحقائق الدينية. فالمؤمن يبدو كأنه مأخوذاً ( عالقاً)…[نقلا عن ويليس] “بين صخرة المزاعم الكتابية والأرضية الصلبة للتعارضات الأثرية” (Laughlin 2000:14-15). ويمكن أن تكون أحد مقاربات علم الآثار، التي تدل ضمنا على تحديد حدود المعايير، كالتالي:

-أولا، تمثل المعرفة على الأقل أجزاء من فضاء لأفضل معرفة متوفرة في الوقت الراهن. فمن الممكن “التوصل” إلى “أفضل تفسير” ضمن هذا الإطار المرجعي، وهذا لا يعني الحقيقة، بل التفسير الذي سيكون ملائما إمبريقياً (أي لا يتعارض مع المعطيات كما هي) ويقدم هذا التفسير أكثر التوصيفات اقتصادية لمجال واسع من الملاحظات المتباينة إمبريقياً بصورة واضحة (…) وهناك مجموعة واسعة من الملاحظات الداعمة تتلطى إزاء الركون إلى تفسير واحد مفرد متصل بالنظرية (Anthony 1995:87). وعلاوة على ذلك، يكمن السبب وراء قبول تأويل كعلم آثار جيد في الوقت الراهن في أن التأويل جزء من أفق البحوث المعاصرة أو الخطاب. وترتبط هذه الممارسة الاجتماعية (أو العلمية) ضمنا ببعض معايير الفرز والفصل لأن جزء من المناقشات هو غير مقبول اجتماعياً (أو علمياً). مثل هذا الأمر لايعني أن “الأفكار القديمة” غير مهمة، بل على العكس من ذلك، إذا كانت هذه “الأفكار القديمة” لا تزال سائدة فإنها إما أن تكون مقبولة باعتبارها ذات صلة بالخطاب المعاصر (أجزاء من فضاء لأفضل معرفة متوفرة في الوقت الراهن) أو أن المعرفة تنتمي لتاريخ الفكر الآثاري حيث مازالت تعزز ربما أغراضاً مختلفة وتلقي الضوء على مشاكل مختلفة، ولكن آنذاك في سياق آخر.

-ثانيا، قبول المعرفة في المجتمع المعاصر. وهذه نقطة هامة، إذ يمكن أن يستخدم تاريخ الفكر الآثاري كمعايير ترسيم إذا تعذر قبول الأفكار أو النتائج  المترتبة عن هذه الأفكار في الحاضر. ولا علاقة لهذه المشكلة بأن تكون المعرفة صحيحة حقاً أم لا، بل يتعلق الأمر بأهمية المعنى عندما يتم إدماجه في إنتاج وبناء المجتمعات المعاصرة. قد تؤدي تغيرات في السلوك والموقف  الأخلاقية، على صعيد العلوم الإنسانية، تجاه النموذج الحالي أو التقليد إلى تغيير هذا النموذج، ومن ثم على تأويل البيانات أيضاً، أو حتى ما تكونه هذه “البيانات”. وبالتالي، يمكن تشويه نتائج بعض السجالات العلمية المقدمة باعتبارها غير علمية وتقوم على الأحكام الأخلاقية. لقد أظهر التاريخ بأن أنماطا معينة من التأويلات الآثارية قد يكون لها عواقب اجتماعية وتؤدي إلى معاناة بشرية غير مرغوب فيها.

-ثالثا، وعلى سبيل الممارسة الاجتماعية في المجتمع، يعمل الفرز في علم الآثار في الواقع بطريقة معاكسة لما هو الحال مثلا في العلوم الطبيعية. فالهدف ليس امتلاك تفسير واحد ووحيد، بل العديد من التفسيرات. الماضي متعدد وغامض، هو ليس مفرداً وذو موثوقية. الماضي الأحادي غير علمي  بطبيعته. ولا يبرر التمثيل الأحادي للماضي تمثيل الماضي “الحقيقي”. فإذا ما تم قبول رواية واحدة عن الماضي، فذلك ليس لأن هذا الماضي يعبر عن الفرضية الأفضل، بل لأن آليات معينة من السلطة والقوة تكون قد حددت الجواب. وبالتالي فإن ترسيم حدود ومعالم السلطة وسوء استخدام علم الآثار سيؤدي إلى السعي نحو الماضي المتعدد. وهذا لا يعني البتة أن كل شيء مباح، ولكن هذا بمثابة اعتراف بحقيقة أن الماضي متعدد كما هو حال الحاضر، ولا يمكن لتفسير واحد أن يغطي هذه التعددية. لذا فالماضي الأحادي ليس سوى ماض مزيف ومضلل، وربما ماضٍ يسترشد بأجندات خفية وانحيازات متنوعة. ويجادل توماس هايلاند إريكسون بأن ما يقع على عاتقنا من واجب هو تقديم الماضي كماضً غامض صعب ومتعدد (Eriksen 1996a:75-78)، وبالتالي، يكون الماضي المتعدد فيما يتعلق بعلم الآثار بوصفه ممارسة اجتماعية، معيار فرز للحدود الاجتماعية يسعى جاهداً للحيلولة دون إساءة استخدام المعرفة في المجتمعات .

وأخيراً، قبول التأويلات هي مهمة قومية ودولية على حد سواء. وهو أحد السبل التي يكون فيها العلم مسؤولاً معنوياً و “ديموقراطياً”. وفي هذا الصدد وإذا ما تحدثنا بلغة إبستومولوجية، تكون التأويلات القومية لصالح مطلب بعض الشعوب أو أحد الجماعات الإثنية للإقليم أقل علمية من تلك التأويلات التي تتم لصالح مطالب متعددة الإثنية. لا يوجد من هو وصياً أو من هم أوصياء لتأويل ماضيهم أكثر من غيره أو غيرهم. ويرتبط هذا بتاريخ البحث أو البحوث، السجال الحالي حول الإثنية وقبول حقوق الإنسان. هذه المتغيرات هي، من بين أشياء أخرى، تحدد شرعية التفسيرات في “النموذج” المعاصر، والتقليد، أو ببساطة مجرد وجودنا في هذا العالم. لقد فشل علم الآثار الكتابي في كل هذه الجوانب.

إمكانية التعقب الأثري لجماعات قبلية معروفة تاريخيا في الفترات التاريخية المبكرة

هناك العديد من الأسئلة والمشاكل التي تواجه الآثاريون في ممارستهم الإجتماعية :

-إن سؤالاً من قبيل “على ما ذا ترتكز معرفتنا”؟ هو سؤال وثيق الصلة بسؤال آخر “ما الذي نريد إعادة بناءه”؟ أو بشكل أكثر دقة. ما هو حجم قوتنا وقدرتنا على إعادة البناء؟ إن افتراضاتنا المسبقة ومعرفتنا يضعان قيوداً على ما يمكن  إعادة بناءه. نحن نعيش في عالم مختلف وربما لا توجد لدينا وسيلة لفهمه.

-نرتب قضايانا وجدلنا، في الخطاب العلمي، بترتيب منطقي. وهذا أحد الخلافات الجوهرية بين العلوم الطبيعية والعلوم الإنسانية: وفي إطار النظرة الطبيعية للعالم، ليس هناك فقط سوى ترتيب منطقي واحد مقبول أو مفضل، في حين ينال الترتيب المنطقي الغربي في العلوم الإنسانية الأفضلية لدى الباحثين والعلماء، لأنه يسمح لهم إقرار منطقهم العلمي ضمناً بواسطة من خلال خطابهم الأكاديمي.

-نحن كبشر لدينا تراتيب منطقية ومقترحات مختلفة سابقة عن التراتبيات الإجتماعية hierarchies ، بعبارة أخرى لدينا مداخل إلى ما يجري في العالم. وتعد هذه الآفاق سمة جوهرية لطرح الأسئلة وقبول الحجج بوصفهما خطاب علمي و أكاديمي. ونادراً ما تكون هذه الأفق المتنوعة والمنطق المختلف موضع نقاش في السجالات والمناظرات. وإذن تكمن المشكلة في المؤمن، أو بتعبير أدق، في الممارسة المتشابكة بين الدين والبحوث.

وبخصوص الكتاب[ المقدس]، يصفه وليم ديفر بأنه ليس “تاريخاً  history “بل “قصته ‘His’ story “(صاحب قصة\ وهنا هو الرب أي يمتلك قصة). فهو وصف دراماتيكي للتعامل الإعجازي للرب مع شعب خاص تعين ليكون شعبه المختار. فالكتاب على وجه الحصر تقريباً تاريخ مقدس و\ أو “تاريخ الخلاص”  كُتب كما هو عليه (….) من منظور إلهي، لأن مؤلفيه يزعمون أنهم ملهمون من الرب. وبالتالي نادراً ما يكون الإنسان موضع اهتمام الكتاب، أي التفسيرات التاريخية. بل جلّ ما يقصده هو إخبارنا لماذا نشأت إسرءيل القديمة وليس كيف ومتى نشأت إلى حد بعيد (Diver 1997a:20). .

في اعتقادي، عندما نتحدث عن “لماذا” فهذا يعني تفسيراً تاريخياً طالما أنه يصف العملية. ومع ذلك، ومن وجهة النظر هذه، يكون وجود الآثاريين مجرد تأويل زائد عن الحاجة لتفسير لماذا حدث هذا الأمر أو ذاك، ولكن غير أن فائدتهم ستكون في مسائل التنقيب المادي التي لا يستطيع الباحث الكتابي (أي أسئلة كيف ولماذا) ربطها مع التفسيرات المعطاة للتو للعمليات (أي أسئلة من نوع لماذا المعطاة من قبل الرب). مقاربة ديفر للكتاب أو على الأقل ما يبدو من قوله، هي أن علم الآثار يمكنه أن يبدي تعليقا أو ملاحظات على المشاكل التاريخية فقط، وبكل تأكيد على أنواع محددة من هذه المشاكل ولكن ليس على المشاكل اللاهوتية (Diver 1990:3). لم يكن محرري الكتاب معنيين بسؤال من نوع “ماذا حدث فعلا؟”، بل كانوا معنيين بسؤال من نوع” ماذا يعني ذلك حقا؟”.

فالنسبة لهم وللقراء الأصليين يمثل الكتاب “قصته [ قصة الرب]” وهو تفسير لبعض الحوادث كما نظر إليها من قبل المؤمنين (Diver 1990:7).. ويصف الكتاب الحياة العامة و”عالم الروح”، ويكسو الآثاريون في المقابل الحياة اليومية والثقافة بالمعرفة، وكلا المصدرين ضرورياً، إذا ما أردنا أن نفهم إسرءيل القديمة في تنوعها وحيويتها الكاملة (Diver 1990:7). يكتب ديفر بخصوص علم الآثار وظهور إسرءيل القديمة: “ينبغي من الناحية النظرية، أن يكون إبراز أصل إسرءيل القديمة واضحاً: يمكن للمرء أن يسعى نحو البحث عن المعلومات بكل بساطة من الكتاب العبري (أو العهد القديم كما يدعوه المسيحيين). نظراً لأن هذا المغزى يكون التاريخ الحقيقي لإسرءيل منذ بداياتها الأولى. نشأ شعب إسرءيل كمجموعة من العبيد نجت بأعجوبة من مصر. وبعد ذلك جالوا في صحراء سيناء، حيث، وفي ظل قيادة موسى، التقوا بربهم الذين سيكون إلههم يهوه، وتلقوا شريعته، وأخيراً قاموا بغزو كتعان بقيادة يشوع، واقتلعوا سكانها وتوطنوا هناك حسب وعد الرب. ليس البحث عملياً عن أصول إسرءيل بهذه البساطة، لأن الكتاب العبري ليس “كتاب تاريخ” بالمعنى الحديث، والحق يقال هو لم يزعم  قط أنه كذلك (Diver 1997a:20)..

ومن الناحية النظرية، يرادف مثل هذا الطرح النهج الذي استخدمه كوسينا ورفاقه في تفسيرهم لعصور ما قبل التاريخ باستخدامهم مصادر مكتوبة. ومن المهم التأكيد على أن ديفر لا يجادل أو يعترض ضد هذا النهج في تفسير ما إذا كانت المصادر المكتوبة ملائمة لمثل هذه الاستنتاجات. أو بعبارة أخرى، إذا تم العثور على نصوص غير دينية تتطابق مع نفس الأحداث فإن تلك النصوص المقدسة، بلا شك، ستستخدم في تعقب الهوية الإثنية من خلال العودة بها إلى زمن ماضي. فالمنهج التاريخي لا يرقى اليه الشك، وكما يقول ديفر “بالنظر إلى ما رأيناه من القيود المفروضة على الكتاب كمصدر كافٍ لكتابة التاريخ فمن الواضح أنه سيكون مرغوبا القبول بالمصادر الخارجية الأقل انحيازاً كمصدر للمعلومات (Diver 1997a:21).. ولكنهم لم يجدوا مصدراً آخر من هذا القبيل أو مصدر غير كتابي، وبالطبع يصبح المصدر هو علم الآثار “الذي أماط اللثام عن كتلة بيانات حقيقة عن العالم الكتابي المغيب لفترة طويلة” (Diver 1997a:21).

ليس من الممكن فحسب، ضمن علم الآثار الكتابي وعلم الآثار القومي الإسرائيلي، تعقب الجماعات القبلية المعروفة تاريخيا بالعودة إلى الوراء في الزمن عن طريق علم الآثار، بل يمكن أيضاً، تقفي أثر الأشخاص الذين هم على الأرجح  شخصيات أسطورية. عندما تكون المرويات الكتابية هي الموجه والدليل فإن أي دراسة للأشخاص والأماكن الواردة في الكتاب والمتعلقة بالأرض المقدسة يمكن القيام بها. في الحقيقة، عدم وجود المادة الأثرية لا يشكل عائقا لعملية إعادة بناء أصل ونشأة إسرءيل. فوفقا للكتاب، كان سليمان بن داود وبتشبع، والملك الثالث لإسرءيل وتعود شهرته لثروته الهائلة وحكمته الغزيرة ومشاريعه المعمارية والعمرانية ولعل بناء الهيكل أهمها الذي شيد على مدى سبع سنوات وهو حسب سفر الملوك الأول ( 6, 7 : 15 و ما يليها) كان قصراً عظيمًا استغرق بناءه ثلاثة عشر عاماً (ملوك 1  7 : 1-2)، كما بنى سليمان أيضا قصراً لابنة الفرعون (ملوك 1 7 :8) كما قام ببناء أماكن عبادة لزوجاته الأجنبيات الأخريات (Wigoder 1986:948). ويُزعم أنه كان لسليمان 700 زوجة و300 محظية (ملوك 1 11 : 49) وقام الجيش البابلي، تقليدياً بتدمير الهيكل في العام 586 ق.م. تعود الإشارة الأقدم من خارج الكتاب عن الهيكل لأوائل القرن السادس ق.م من نقش على الفخار وجد في عراد على شكل رسالة موجه إلى أَلِيَاشِيبَ  ذكر فيها “بيت الرب” (Wigoder 1986:975). “وكما كان الحال مع غيره من المعابد الإسرءيلية، لم يبق شيء من هيكل سليمان. ومع ذلك، هناك أدلة كتابية كافية لإعادة بناء واضح ومعقول لتفاصيل (الهيكل)” (Wigoder 1986:976). لا يهم إذا لم يكن هناك أدلة أثرية؛ لأن المروية التوراتية تضمن صدق التأويل، وبالتالي يتبوأ عرش الملك سليمان مكاناً في التاريخ الإسرائيلي والكتابي .

ترتبط المواقع الأثرية عادة بالنص الكتابي. وهذا ليس سوى مثالاً. فمن سفر الملوك الأول 12.26-29، علمنا عن وجود مكان مرتفع في دان في زمن الملكية. نصب يربعام ولأسباب سياسية عجلاً ذهبياً في دان في النصف الثاني من القرن العاشر ق.م، كما بنى بيتاً أو معبداً للأماكن المرتفعة وعين كهنة ليسوا من أبناء لاوي. ولا يتوفر الكثير من النقوش فيما يتعلق بالعبادة في دان. تم تأكيد مطابقة دان الكتابية مع تل دان عند منابع نهر الأردن، والمعروف باسم تل القاضي من خلال نقش ثنائي اللغة “إلى الرب الذي هو في دان” ويعود إلى الفترة الهلنستية. عثر على النقش في الطرف الشمالي من الموقع، حيث تم العثور على مجموعة أبنية من العصر الحديدي. وكان من بين هذه الأبنية مصطبة مرتفعة، وغرفة مع مذبحا وغرفة مربعة بدرجات ومذبح، والعديد من الأشياء المرتبطة بطقوس العبادة. وتكمل هذه الاكتشافات الأثرية المعلومات الضئيلة المذكورة في سفر الملوك الأول 12 الذي يشير إلى وجود مركز عبادة رئيس في دان في العهد الملكي في الفترة ما بين القرن العاشر-القرن الثامن ق.م، وبالتالي، “ربما يكون وجود الدور المركزي لعبادة الأماكن المرتفعة في دان في القرن الثامن ق.م هو الذي قاد النبي عاموس إلى التنبؤ في أيام يربعام الثاني، لتوبيخ الناس لقولهم “يا رب، يا إله دان فلتحيا” (عاموس8 . 14)”(Biran 2001:148-149).

المشاكل هنا عديدة، و لكنها كافية لتحدي الـ 500-800 سنة ما بين النقش الهلنستي والصروح الآثارية. فالمجتمع يتغير خلال 500 عام، ويتم تسجيل المجتمع العاصر لكل زمن من خلال الإرث التالي، وضمن بيئة مليئة بالخرافات والتقاليد.. ويتم إعادة استخدام الماضي بشكل متواصل-أيضاً في فترات لاحقة وأزمنة تاريخية، وهذا لا يضمن واقعية أحداث الماضي كما تم فهمه وتفسيره في مجتمع لاحق. ومن المهم فصل الخرافات عن الأحداث، وفي حالات كثيرة تكون الخرافات أكثر أهمية من الأحداث في الثقافة. هذا مسعى البحث العلمي. ينظر تقليديا إلى “حجر الأساس” في قبة الصخرة على جبل موريا في القدس على أنه المكان الذي أمر فيه إبراهيم بالتضحية بابنه اسحق. الأساطير والأماكن المقدسة اليهودية والإسلامية غير قابلة للفصل. وهذا لايعني بأن الحدث وقع فعلاً هنا، بل يؤكد على أن الثقافات والأديان ليست وحدات “نقية” أبداً بل هي موضع تفاوض متواصل وتتألف من تقاليد كثيرة متعددة وأساطير غير حصرية.

وبالعودة إلى موضوع أصل ونشأة إسرءيل. ثمة ثلاث نماذج أو فرضيات، حاولت، بشكل عام، إعطاء وصفاً عن كيفية ظهور إسرءيل في كنعان. والفرضية الأقدم هي نموذج الغزو، المستند بصورة مباشرة على قصة يشوع حيث قام تحالف القبائل الإثني عشر بغزو كنعان من شرق الأردن بعد تحقيقهم لانتصارات هناك، وفي أريحا وفي سياق هذا السجال يبرز اعتراض سياسي، فيرفض-مثلاً- وليم ديفر الأطروحات التي ترى بأن الإسرءيليين قبائل بدوية هاجرت بشكل جماعي من شرق الأردن لأن مثل هذه الفرضيات هي نزعة علمانية متشددة أو قراءة الكتاب بطريقة قد تبدو فيها متبرئة من انحياز لاهوتي، إلا أنها تظهر قدراً من السذاجة. مثل هذا التصور تم استبعاده ببساطة من قبل بعض الإسرائيليين (وليس الكثير) باعتباره “حنيناً للماضي الكتابي الذي لم يحدث يوماً قط” (Diver 1997a:38).. وفي هذه الحال، لا يتحقق ديفر في إثبات شيء من خلال المنهج، بل هو في الحقيقية يقوم بعملية تزييف، فالمبدأ المنهجي هو نفسه. فمن خلال مطابقة الجماعات القبلية المعروفة تاريخياً (أي الإسرءيليين) مع ثقافة مادية أثرية خاصة لفترة تاريخية مبكرة، يقوم باستخدام هذا المنهج للقول بأنهم لم يكونوا هم. أو بعبارة أخرى، هو يريد تعقبهم بالعودة  في الزمن عن طريق هذه المنهجية، بيد أنه لم يفلح باستخدام البيانات كما هي عليها الآن. ولحسن الحظ، هناك علماء آثار محدثون منخرطون في السجال العلمي حول  الشرق الأوسط وتداعياته السياسية فيناقش، ديفيد إيلان على سبيل المثال في كتابه “فجر الأممية-العصر البرونزي الوسيط” المناظرات الجدالية حول المصطلحات والحقب الزمنية  chronology. وهو يستخدم مصطلح “كنعان” بدلا من المصطلحات ذات الطابع السياسي والأكثر حساسية مثل “فلسطين”، “إسرائيل”،” الأرض المقدسة” بسبب الطبيعة الإشكالية للمصطلحات الأخيرة (Ilan 1998:298). ويثير إسرائيل فنكلشتين جدلاً بخصوص “القدور الفخارية والناس” فهو يرى بوجود قيود في استخدام البقايا المادية كدليل في البحث التاريخي. فالفخار والعمارة قد يلقيان بعض الضوء على مسائل مثل الإثنية والجماعات الإثنية المختلفة، لكنهما-أي الفخار والعمارة- قد يبدوان مضللين على حد سواء (Finkelstein, I. 1998b:352), الأمر الذي يبدو أن ديفر قد تجاهله. ولكن بصفة عامة، هناك ميل نحو الخطاب بحد ذاته، حيث الحجج ليست حججاً، بل سمات ذات أفق ضيق معاصرة ومشاكل ملحقة بماضي لا تنتمي إليه.

ما الذي تعززه أهداف وأغراض مثل هذه الخطابات؟

إنهم يخلقون روابط غير مرئية بين الماضي وشرعية احتلال الأرض في الحاضر، الدولة القومية الموجودة اليوم، وجدت منذ الأزل، ونحن في الوقت الحاضر مساوين لهم في الماضي، إثنيتـ”نا” هي إثنيتهم والعكس بالعكس، وبالتالي، نحن من يخلفهم و تقف الشرعية إلى “جانبنا”. امتلك الإسرءيليون دولتهم القومية في العصر الحديدي، والجماعات الأخرى المجاورة ليست لديهم مثل هذه الدولة. لقد خلقت الأسطورة وشرعنت من قبل الآثاريين أنفسهم كعلماء جديين .

التأويل  العنصري والشوفيني في خدمة الأهداف والاحتياجات القومية

عادة ما تنطوي النزعة العنصرية على فكرة تفوق عرق ما أو جماعة إثنية ما وأحقيتها في السيطرة وحكم الآخرين. أما الشوفينية فهي الإخلاص الشديد والتفاني لأية قضية، لاسيما النزعة الوطنية الحماسية المتهورة والمتطرفة. ويتبادر سؤال في هذا السياق: كيف يتعامل الآثاريون الكتابيون مع مقولات مثل” الشعب المختار والأرض المقدسة المشرعنة من قبل الرب والكتاب”. الأسلوب الذي استخدم فيه الكتاب بوصفه إطاراً تفسيرياً يفسح الطريق أمام بحوث شوفينية محتملة بعدة طرق: فأولاً، يتم فرض المادة الأثرية في إطار تأويلي ليس بالضرورة ينتمي لها. وثانياً يخلق مثل هذا البحث استمرارية إثنية من الماضي إلى الحاضر. وأخيراً، نقد بعض المواضيع ومجالات البحث من غير المسوح القيام به من طرف الآثاريين الذين لا يتعاملون مع الكتاب باعتباره مرجعهم المقدس الأولي أو وجهة نظرهم للتأويل. وبما أننا نتعامل هنا مع الدين ( وثقافتـ”نا” الغربية)، فمن المفترض بنا القبول بأي شيء لأنه وثني وتدنيس لقداسة الرب. ولكن ما سأقوم به هو العكس، أي مسائلة كيف تعامل الرجال العلمانيون مع القوة العليا. وفي هذه الحالة يكون علم الآثار أداة للآثاريين الكتابيين لتفسير الكتاب. لم يكن مشروعاً على كل حال  انتقاد أولئك الذين يهيمنون على الكتاب ويمتلكون السلطة الدينية بالنيابة عن الرب. لقد كانت النقطة المحورية في علم الآثار الكتابي “الجديد” في تسعينيات القرن الماضي، هي أنه ليس من الممكن إثبات صدق الكتاب. مثل هذا البعد ومثل هذه “المقاربة النقدية” من تقليد علم الآثار الكتابي “القديم” يفترض به أن يشرعن علم الآثار الكتابي في السجال العلمي (Bartlett 1997:11)..

ولكن ما هو الفرق في حقيقة الأمر؟

الصورة المقدمة من قبل الآثاري ليست بالضرورة هي الصورة عينها التي يقدمها المؤرخ الكتابي؛ فلكل منهما  اهتمامات بأشياء مختلفة. فلا علم الآثار ولا النقد الكتابي، في الحقيقة، يمكنهما أن يكونا من المدافعين عن الإيمان في الكتاب، على الرغم من أنهما قد يوفران دليلاً على السياق المادي الذي نؤمن من خلاله بعمل الرب أو أن التجسد (الحلول) قد حدث. ونحن قد لا نساوي الحقيقة بالواقع ولا التاريخ باللاهوت، على الرغم من أننا قد نجد بقايا مادية فيزيقية لأماكن نعتقد بأن أسلافنا آمنوا بأن الرب كان حاضراً فيها، ونحفظ كتابات تحتوي على تأويل سلفنا العبراني أو المسيحي لعمل الرب (Bartlett 1997:11-12).. الفرق الوحيد بين علم الآثار الكتابي “القديم” و ” الجديد” هو أن المدافعين أصبحوا أكثر إخلاصاً لحقائقهم. فهم لا يحتاجون إلى  إثبات معتقداتهم بعد الآن. ويمكن لعلم الآثار الآن أن يعزز هدف “أسلافهم”، وليس فقط ما أنشئ من رابط إثني بين ماضي وحاضر المجتمع في إسرائيل. السمة الثانية هي الدافع الديني الشخصي للباحثين لخلق رابط ديني بينهم وبين “أسلافهم الدينيين”. هذه الشرعية الشخصية والدينية تبدو بريئة في البداية، وبعد ذلك يكون قد فات الأوان لأن خرافة  الأجداد الوهميين ابتدأت بالخلق والتأسيس وبالتالي تكريس حقوق المسيحيين والإسرائيليين في الأراضي المقدسة خلافا لأي جماعات دينية أخرى. قد يكون جيداً أن نستذكر ما قاله الرئيس تشاوشيسكو في رومانيا قبل الثورة: مع كل حملة تنقيب، يلقي الآثاريون الضوء على المزيد من الأدلة مبرهنين على أن عظام أجدادنا وأجداد أجدادنا هي ما يمكن العثور عليها، هنا، على هذه الأرض وليس في مكان آخر (op. cit. Kaiser 1995:115)..  لماذا يبدو مثل هذا القول سيئا عندما يصدر من ديكتاتور أكثر منه لو صدر عن آثاريين كتابيين يعرضون نفس النقاشات حول الأسلاف والأجداد؟

يتم تدخل الدولة من خلال إنشاء الصروح التذكارية (Brown 1998:79) وتمتاز السلطات الإلهية بأنها ذات كفاءة وفاعلية في إضفاء الشرعية على الدولة. وتبدو خلفية الباحثين الدينية وانحيازاتهم مرئية وبادية للعيان بوضوح. ويعبر ديفر عن ذلك بقوله: يبدو كل هذا إعجازياً. ينبغي أن يكون الرب هو من فعل ذلك. مثل هذا الاستنتاج قد يبدو منحرفاً بعض الشيء من الناحية التاريخية، بل قد يبدو ساذجاً من الناحية اللاهوتية، كما أنه لا يمكن تأكيده من الناحية الأثرية. و لكن “تفسير” الكتاب لإسرءيل قد يكون بطريقة أو بأخرى جيداً بقدر تفسيرنا، لأن الكثير عن إسرءيل القديمة مازال لغزاً، إن لم يكن معجزة (Diver 1997a:47). .يصبح السجال ضبابياً وغير واضح مع مثل هذا النوع من المقاربة العلمية، لأنه مدون وبشكل صريح أن التفسيرات الإعجازية أفضل كثيراً من أي تفسيرات أخرى. وهذا ما يتعارض مع كل نوع من الممارسة العلمية المعيارية .

تناقش ويندي دونيجر مقولات الجدال الديني في كتابها “سلطة المجاز الأبوي” (Doniger 1993:11)، وهي تقوم بتصنيف السجالات الدينية إلى مجموعتين:

– الأولى: نقاشات تدور حول سؤال “لماذا” وهي مجادلات عقائدية صريحة أو استنجاد بالسلطة. وهي تشبه النقاشات التي يستخدمها الآباء مع أطفالهم عندما يبدؤون بطرح أسئلة تبدأ بـ “لماذا” التي لا يستطيعون الإجابة عنها، إلا أن جدالهم يجب أن يحظى بالاحترام.

-الثانية: تدور حول “هذا لأن” وهي تشتمل على تبريرات ضمنية أو الإقناع بالحجة. وهي ليست حول منطق “لماذا” بل حول التأثير والسلوك القائمين على أساس تجريبي للحجة الأبوية ” كان عليك أن تكون هناك” مساوية لـ “لقد كنت هناك، وأنت لم تكن، ولذلك أنا لدي سلطة استدعاء الماضي الخاص بي (الذي يتساوى مع مستقبلك) لأقول لك بأن لا تفعل هذا” .

الممارسات السلطوية تشعر بالإسناد العاطفي بدلا من العقل، ويتم التشبث بالأفكار بعد تعديلها (Doniger 1993:9). وتقوم كل من الممارسة الآثارية الكتابية وإنتاج المعرفة على أفكار عمرها خمسين عاما على الأقل. وتسود المعرفة عن طريق الممارسة السلطوية كنتيجة لاندماج اللاهوت المحافظ وعلم الآثار. وبالمثل تجادل إيفون يزبك حداد حول التصورات العربية الراهنة لمستقبل الإسلام، بأن السؤال لم يعد “باعتناق الإسلام أم لا” ولكن السؤال هو “متى” و”كيف” (Hadded 1993:147). وضمن علم الآثار الكتابي تكون هناك أسئلة على شاكلة “متى وكيف نشأت إسرءيل” وعلى مدار عقود عدة كانت الأجوبة موجودة في الكتاب. وقد تبنت الثقافة المسيحية هذا الجدال، وهذا ما يمثل أحد المشاكل والانحيازات الرئيسة في علم الآثار الكتابي، وعدم التماثل في مجال البحوث في ما يتعلق بالأسئلة القابلة للطرح والأجوبة الممكن قبولها. فالدين هو الذي يحدد البحث. وبالتالي، فالكتاب بوصفه كتاباً مقدساً هو الذي يمدنا بالحجج، ولذلك فهو يتمتع بتفوق مطلق. بعض التفسيرات العلمية الأخرى رفضت أو دحضت لأنها تطعن في الكتاب والحقيقة. قد ينظر إلى هذه المقولة باعتبارها تجديفاً، في حين أنها ليست كذلك. ما أود قوله ببساطة هو أنه ينبغي علينا فصل التفسير الديني عن التفسير العلمي إلى مجالين مختلفين

إن كتابا يحمل عنوان “علم الآثار والمجتمع في الأراضي المقدسة” [من الجدير بالذكر ان هذه الكتاب نال جائزة أفضل عمل بحثي في علم الآثار في العام 1997 ]. ينضح من عنوانه بالشوفينية، لأن هناك أفكاراً إثنية مضمرة عن إسرءيل وعن الشعب المختار. وعلى الرغم من أن الكتاب يتضمن بعضاً من المقالات الجيدة فالبعض الآخر مقيت بدرجة مرعبة. وفي سياق آخر مختلف كلياً، كتبت لوتي هيديجر كتاباً دعته “ظلال الواقع الآخر”. يتحدث عن الأساطير الإسكندنافية القديمة. وهي ترى بأن المصادر الأدبية تعكس أساطير أقدم وتواريخ ذهنية كان لها استمرارية في فترات لاحقة. وضمّن الناس في المجتمعات المعاصرة هذه القصص في سياقات أخرى في أساطيرهم الشفوية والشعر كصلة ذات طابع إيديولوجي، لكنهم لم يكونوا يعرفون المعنى الأصلي ولا السياقات التي نشأت فيها هذه الأفكار. وهذا الكتاب مفيد جداً بسبب الطريقة التي استخدمت فيها “النزعة الجرمانية” في البروباغاندا في العقود الأخيرة. ودللت هيديجر على أن الماضي الجرماني المجيد والجميل الذي يدعي المتطرفون الشوفينيون أنهم متربطون به لم يوجد قط (Herschend 1998:77).

سوف أركز على هذه الجوانب بسبب مقالة باتريشيا سميث “شعب الأرض المقدسة من عصور من قبل التاريخ حتى الماضي القريب” المتضمنة في كتاب “علم الآثار والمجتمع في الأرض المقدسة”. وسوف أعالج مقالة باتريشيا سميث في إطار علم الآثار الكتابي لثلاثة أسباب :أولاً، الموضوع هو أحد التعريفات الفضفاضة، من بين عدة تعريفات لعلم الآثار الكتابي. وثانياً، تستخدم الكاتبة مفاهيم الأرض المقدسة واليهود في العصر البرونزي الوسيط، وهي مفاهيم استعارتها حتماً من الكتاب، وأخيراً، تدعم باتريشيا سميث بصورة مضمرة مفهوم الدولة القومية في إسرائيل واليهود كجماعة إثنية من عصور ما قبل التاريخ حتى الوقت الحاضر. و هي تجادل بأنه من الممكن تتبع الاتجاهات التطورية الجزئية وحيدة الاتجاه لكل من الجمجمة والفك السفلي والأسنان في الحقب ما بين العصر النطوفي والعصر البرونزي الوسيط الثاني. وابتداءً من العصر البرونزي الوسيط الثانيMB II بدأت تظهر العديد من  التقلبات الهائلة في جميع القياسات، مما يشير إلى قدر أكبر من التغاير في الخواص لجميع الشعوب التي تقطن إسرائيل كما تشير بدرجة أكبر أو أقل إلى اختفاء الدليل على اتجاهات التطور الجزئي في الجمجمة والفك السفلي، على الرغم من أن حجم الأسنان استمر في الضمور.

إن مدى وتوقيت هذه التغييرات في الجمجمة والفك والأسنان لم تقع جميعها في ذات الوقت، وفي بعض الفترات، لا سيما في فترات العصر البرونزي الثاني الوسيط والحقب الرومانية-البيزنطية فإن تغيراً مفاجئاً وانقلاباً واضحاً قد وقع في الجمجمة ولكن ليس في المحددات السنية. الاتجاهات المديدة يمكن ربطها باتجاهات مديدة لضغوط انتقائية عملت على تقليص قوام الهيكل العظمي وحجم الأسنان، في حين أن التغيرات المفاجئة المشاهدة في العصر الوسيط البرونزي الثاني والكثافة السكانية اليهودية تشير إلى استحضار جماعة سكانية مختلفة. (نحن) اقترحنا بأن نمط التغير الجزئي التطوري الذي يميز التعاقب الإسرءيلي يمكن أن يكون متعلقاً بزيادة مستويات وطأة الضغط البيئي لدى سكان حقبة الهولوسين الذي تلى التكيف الزراعي. من الواضح أن هناك حاجة لمزيد من العينات قبل إجراء أي محاولة لرسم خريطة للمدى الكامل ولنمط التنوع الإقليمي المؤقت داخل إسرءيل، أو الصلات بين سكان  إسرءيل والبلدان المجاورة (Smith 1998:73,)..

سوف أقوم ببعض التعليقات الموجزة على هذا، آملاً أن لا يكون هناك حاجة للمزيد.

لتلخيص أساس النقاش والمجادلة، يمكن أن تفسر التغيرات على المدى الطويل في حجم الأسنان وقوام الهيكل العظمي على أنها تكيفات تطورية جزئية ذات صلة بالضغط البيئي. من ناحية أخرى، لا يمكن تفسير التغيرات التي طرأت على الجمجمة والفك السفلي من وجهة نظر تطورية. هذه التغيرات تمثل جماعة مختلفة. وتم توضيح هذه التغيرات في المقالة بالعديد من الصور لجماجم مختلفة، من المفترض بها أن تلقي الضوء على الاختلافات في الجمجمة. على الرغم من أن باتريشيا سميث لا تقول ذلك مباشرة، إذا ما ربطت سمات الهيكل العظمي بجماعة إثنية، وإذا ما كان من الممكن تمييز جماعات إثنية مختلفة استناداً إلى هياكل عظمية، عندئذ، ينبغي لهذه الجماعات الإثنية أن تمثل “أعراقاً”. من وجهة النظر البيولوجية، لا يميل علم الوراثة للتحدث عن “العرق” لسببين. الأول، هناك دائماً ثمة قدراً كبيراً من التزاوج بين البشر (التهجين) وهذا يشير إلى عدم وجود أي معنى للحديث عن حدود ثابتة بين “الأعراق”. وثانياً، لا يتبع توزيع الصفات الجسمية الوراثية حدود واضحة، وهذا يعني أنه غالباً ما يكون هناك قدر أكبر من التباين داخل الجماعة “العرقية” أكثر من وجود اختلافات منتظمة بين جماعتين (Eriksen 1993:4). من ناحية أخرى، إذا كانت باتريشيا سميث تعني حقاً جماعات إثنية، حينئذ تصبح الأشياء أكثر عبثية لأن الإثنية هي بناء اجتماعي. ومع ذلك، وكما يشير إريكسن يمكن لمفاهيم العرق أن تكون مهمة لأنها ترشدنا إلى أفعال الناس. “العرق” قد يكون موجوداً كبناء ثقافي سواء كان ذلك بيولوجياً أم لا. وبالتالي، العلاقة الاجتماعية والثقافية لفكرة وجود العرق (Eriksen 1993:4-5)  قد يكون لها وظيفة سياسية، ونحن على بينة من العواقب المحتملة لهذه “التفسيرات العلمية”.

آمل أن مثل هذه الظلال للواقع القديم سوف ترتد إلى حيث تنتمي، إلى تاريخ البحث كمثال على ما يمكن أن يكون عليه علم الآثار السيء. يقول ستيفن جيه. غولد، و إن كان في سياق آخر، أن “بعض الحجج التاريخية هي في جوهرها غير منطقية أو حتى غير مقنعة بحيث بعد سقوطها من عليائها، لا نتوقع أي انبعاث لها لاحقاً في أزمنة وسياقات لاحقة. ينبغي أن يكون اختفاء بعض الأفكار أمراً لا مفر منه مثل انقراض الأنواع “(Gould 1987:319).. في نهاية المطاف، وباستعمال كلمات وثيقة الصلة أو ما يعني ضمنا، “الأجناس” هي أمر غاية في الخطورة .

لماذا تسود مثل هذه الأفكار اليوم؟

 “الجزء الكتابي” من علم الآثار الكتابي يقف عائقا أمام التطوير العلمي لهذا الاختصاص. وتكمن المفارقة في أنه في اللحظة التي يتخلى فيها  عماء الآثار الكتابيين عن قدسية الكتاب (في الخطاب العلمي، وليس على صعيد الإيمان الشخصي به) فإنهم يكفوا عن كونهم آثاريون كتابيون ليصبحوا بدل ذلك آثاريين مختصين بالشرق الأدنى. ومن ناحية أخرى، إذا ما استمروا باستخدام الكتاب كما يفعلون اليوم (حتى ضمن تصور علم الآثار الكتابي “الجديد”)، فسوف تكون التأويلات مجرد ظل لواقع قديم، وبالتالي سيكون علم الآثار الكتابي كتخصص/ حقلاً منحرفاً وضبابياً طالما يظل متمسكاً بالكتاب. و لذلك سأقوم بإلقاء مزيداً من الضوء على بعض مقاربات الكتاب، التي تحدد الممارسة الأثرية والأسئلة التي كان مسموحاً للآثاريين بطرحها والإجابة عليها.

عن مركز الجرمق للدراسات

About The Author

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *