
في 12 من هذا الشهر، نشرت مقاطع تظهر لاعبيين يرفعون علم إسرائيل خلال عزف النشيد الإسرائيلي لأول مرة في الرياض على هامش بطولة العالم لكرة القدم الإلكترونية. في الوقت الذي تمنع ألمانيا اللاعبين الفلسطينين من ارتداء ملابس تحمل علم فلسطين أو الخارطة باعتبارها معاداة للسامية، تسمح بعض الدول العربية رفع علم إسرائيل في بلادهم.
كطالبة مقيمة في ألمانيا بعد تخرجي، كنت قد قدمت على وظيفة لوكالة إعلامية ألمانية دولية. وخلال مقابلة العمل طُرح علي ثلاثة أسئلة مضامينها كانت مفاجأة بالنسبة لي، وهي: هل تعادين دولة إسرائيل؟ هل تعترفين بحق إسرائيل في الوجود؟ ماذا لو وضع أحدهم الخارطة وكتب عليها إسرائيل على منشور للوكالة على مواقع التواصل الإجتماعي، وجاء فلسطيني وكتب بأنها خارطة فلسطين، كيف ستتعاملين مع التعليقات؟ كانت إجابتي على بعضها، “أنتم تسألون الشخص الخطأ، أنا فلسطينية.”
منذ بداية العام لغاية الشهر الماض، صدرت العديد من القرارات لحظر وتقييد النشاط الفلسطيني السياسي في ألمانيا. حيث تم حظر رفع العلم الفلسطيني، ومنع إحياء ذكرى النكبة، واعتبر بعض المسؤولين الألمان أن خارطة فلسطين تشكل مظهر من مظاهر معاداة السامية. وبالرغم من التاريخ الألماني الطويل في اضطهاد اليهود، إلا أنها تُعتبر اليوم من أكثر الدول تماشياً مع السياسات الإسرائيلية في ملف معاداة السامية. ولذلك، تسعى هذه المقالة لعرض صورة مختصرة عن التطور التاريخي لمعاداة السامية في الفكر والسلوك السياسي الألماني ضد اليهود الألمان وصولاً إلى ربطها خارجياً مع إسرائيل في مرحلة قبل وبعد الهولوكوست.

معاداة السامية قبل الهولوكوست
عرّف المفكرون الألمان معاداة السامية بأنها استمرارية تاريخية عدائية تجاه اليهود حول العالم والتي بدأت مع هامان التوراتي الذي دعا إلى ارتكاب مجازر لإبادة اليهود، ووصولاً إلى المحرقة اليهودية “الهولوكوست” على يد أدولف هتلر خلال الحرب العالمية الثانية. عام 1860، استخدم المستشرق النمساوي اليهودي موريتز شتاينشنايدر مصطلح معاداة السامية للمرة الأولى مهاجماً الفيلسوف الفرنسي ارنست رينان بسبب ارائه المتعصبة ضد السامية. كان يرى رينان أن السامييّن أصحاب عرق أدنى من الأعراق الآرية. وفي عام 1879، أي بعد ما يقارب العشرين عاماً، أعاد الصحفي الألماني ويليام مار استخدام المصطلح في كتاب عنوانه “انتصار اليهودية على الألمانية” مشيراً إلى العداء العرقي تجاه اليهود.
وبالرغم من أن شتاينشنايدر هو أول من استخدم المصطلح، إلا أنه يتم النظر إلى ويليام مار على أنه هو من اخترع مصطلح معاداة السامية قبل 144 عاماً. أسس مار رابطة سياسية تدعى” الرابطة المعادية للسامية”، وهاجم اليهود قائلاً بأن “التشريع الليبرالي جعل من اليهود -شعب من التجار المولودين بيننا- طبقة أرستقراطية تسحق المجتمع وتفككه من خلال المساومة والربا.” أما يوجين دوهرينغ كان العمل الرئيسي المعادي للسامية له بعنوانِ “المسألة اليهودية كمسألة العرق والأخلاق والثقافة مع إجابة تاريخية عالمية”. شرح دوهرينغ في كتابه أن وظيفة اليهودي فقط السرقة واستغلال قيم الشعوب الأخرى. وشبههم بأنهم “طفيليات تضمن فساد محيطها؛ لأن هذا هو المكان الذي يشعر فيه اليهودي براحةٍ أكبر وهو يشن حرب قمع واستغلال ضد الجنس البشري منذ زمن.” حاجج دوهرينغ بأن مصطلح معاداة السامية غير علمي وزائف وفضفاض، إذ يحمل في طياته أكثر من معنى، معللاً ذلك بأن العرب أنفسهم فيهم ساميون، لكن العرب الساميون يعارضون ارتباطهم بالمسألة اليهودية. ويقول دوهرينغ أن سعي النازيين إلى بناء علاقات مع حلفاء عرب أثناء الحرب العالمية الثانية يعني أننا لسنا بحاجة لاستخدام مصطلح معاداة السامية. وبالتالي، وجد أنه من المستحسن عدم استخدام المصطلح في الدعاية الموجهة ضد الشرق الأوسط وإنما النظر إلى العرب على أنهم “حلفاء محتملين” موضحاً أيضاً أن هناك ممن يعادي اليهود، الذين لا يمكن اتهامهم بأي شكلٍ من الأشكال بمعاداة السامية لأنهم ساميون (غير عرب) أيضاً.
كانت كتابات دوهرينغ آنذاك موجهة ضد السيادة اليهودية على الحياة الألمانية أو بمعنى أدق موجهة ضد سيادة العرق السامي اليهودي على العرق الآري. كما حازت هذه الكتابات على إعجابِ المستشار الألماني أوتو فون بسمارك المُلقب بالمستشار الحديدي، ما دفعه إلى دعم هذا التوجه. ففي عهده نشأت جمعية معاداة السامية التي تقضي بطرد اليهود، حيث تمكنت الجمعية من جمع 225 ألف توقيع وقامت بالعديد من المظاهرات والاحتجاجات مطالبة بطرد اليهود من ألمانيا.
لاقت الجمعية رواجاً كبيراً في الدول الأوروبية، حيث تبنت جمعيات في روسيا والنمسا والمجر نفس الأفكار التي طُبق فيها القتل الطقوسي لليهود، وانتشرت فيما بعد في فرنسا وانجلترا وايطاليا والولايات المتحدة الأمريكية. وأيد هنري فورد مؤسس شركة فورد لصناعة السيارات ومالك جريدة ديربون إندبندنت في الولايات المتحدة الحركة ودعمها مادياً، حيث نشرت الجريدة المملوكة لفورد كتاب بعنوان “اليهودي العالمي-أكبر مشكلة في العالم.” وفي المانيا كانت معاداة اليهود أحد أهم المبادئ الأساسية لبرنامج الحزب النازي بقيادة أدولف هتلر، الذي دعا إلى إبادة اليهود والحفاظ على العرق الآري.
تبنى هتلر فكر مار وتأثر ببعض الكتاب مثل جورج ريتر وكارل لوجر. ريتر الملقب بوالد معاداة السامية السياسية في النمسا، حاجج بأنه “من أجل تنفيذ الإصلاحات المطلوبة، من الضروري القضاء على التأثير اليهودي في جميع مجالات الحياة.” أما لوجر الذي وصف اليهود بالحيوانات المفترسة في شكلٍ إنساني قال مرة ساخراً “أنا أقرر من هو اليهودي.” وبذلك، اتُهم اليهود آنذاك بأنهم يعانون من إدمان غير المعقول على الكسب النقدي ونزع ملكية السكان الأصليين.
هناك ممن كتب عن اليهود قبل استخدام مصطلح معاداة السامية، مثل مؤسس حركة الإصلاح الديني في أوروبا والطبيب النفسي مارتن لوثر، الذي جمع مقالاته في كتابين “عن اليهود وأكاذيبهم” و”الاسم المقدس ونسب المسيح”. يقول لوثر في كتابه عن اليهود وأكاذيبهم أنهم “أبناء زنى وليسوا شعب الله المختار، وهم الشياطين والديدان السامة.” ودعا إلى احراق وتدمير الكنيس اليهودي ثم قتل أو طرد اليهود، قائلًا، “على اليهودي أن يعمل أو يُطرد إلى الأبد، سنكون على خطأ إن لم نقتلهم.” لوثر له الأثر البارز في تطوير معاداة السامية في المانيا.

في المقابل، رفض البعض مثل حنة أرندت معاداة السامية باعتبارها عبثية وخطيرة. فعلى الرغم من أنها يهودية لكنها قللت من شأن “ظاهرة أو فرضية معاداة السامية” بقولها أن اليهود قبل الهولوكوست كانوا أصحاب القوة الإقتصادية والتأثير السياسي، وبأنهم فقدوا تأثيرهم بعد الهولوكوست السياسي مع حفاظهم على القوة الإقتصادية مما جعلهم محل رفض من المجتمع. وفي مقابلة تلفزيونية قالت “من يعتقد أن اليهود تلقوا صدمة بسبب استلام أدولف هتلر لزمام السلطة، فإن هذا لبس وسوء فهم. كان صعود هتلر للحكم أمراً فظيعاً لكنه في نهاية الأمر كان شأناً سياسياً وليس شخصياً. لم نكن بحاجة لصعود هتلر إلى السلطة لنعرف أن النازيين هم أعداء لنا.” وفي مقال نشرتها أرندت عام 1941 في مجلة البناء “مجلة نادي المهاجرين_نادي الألمان اليهود” في نيويورك، قالت “اليهود حريصون فقط على عدم الدفاع والمطالبة بأكثر من أرض يهودية في فلسطين، رقعة الأرض التي يأمل المرء أن يكون هناك في مأمن من معاداة السامية، لكن المرء في مأمن من معاداة السامية على القمر فقط.” وأضافت، “وقد ثبت أن قول رئيس المنظمة الصهيونية العالمية وايزمان الشهير، بأن الرد على معاداة السامية هو بناء فلسطين وجعلها دولة يهودية هو وهم خطير. لا يمكننا محاربة معاداة السامية إلا إذا قاتلنا هتلر بالسلاح في أيدينا.”
إذا، ظهرت معاداة السامية تاريخياً كإيديولوجية سياسية وحركة احتجاجية سعت إلى منع المساواة المدنية لليهود وإلغائها، بفعل النظرة لليهود كعنصر مدمر للحياة الفكرية والعرقية والإقتصادية لألمانية. لم تكن معاداة السامية مجرد كره للأجانب أو تحيزات دينية واجتماعية استمرت ضد اليهود، بل كانت ظاهرة جديدة بنظرةٍ عالمية مناهضة لليبرالية ومعادية للحداثة، تعتبر المسألة اليهودية أصل كل المشاكل داخل ألمانيا.
معاداة السامية بعد الهولوكوست
عرّف التحالف الدولي لإحياء ذكرى الهولوكوست معاداة السامية بأنها “تصور خاص لليهود” بحيث يُعبر عن كراهية قائمة على تعزيز صورة عامة ووجهة نظر محددة عن اليهود بدلاً من إدراك أن كل شخص مختلف ومنفرد بغض النظر عن ديانته اليهودية. هذا يعني أن أي شخص يقوم بتكوين رأي عن الشعب اليهودي بناءً على ديانته اليهودية بدلاً من سلوكه الشخصي فهو يتصرف بشكلٍ معادٍ للسامية. وتبدأ معاداة السامية أيضاً عندما تُشتق خصائص الأفراد من عضوية المجموعة التي تنتمي اليها، أو عندما يُنسب لليهود كمجموعة صفات تتخطى حقيقتهم اليهودية، فهذا يُعتبر معادٍ للسامية. وينطبق هذا أيضاً على السمات الإيجابية مثلاً عندما يُزعم أن اليهود أذكياء بشكلٍ خاص أو أنهم أذكى من غيرهم. ويشمل تعريف معاداة السامية أيضاً القول بأن اليهود أغنياء أو أنهم لا يدفعون الضرائب أو أنهم يملكون نفوذ قوي بسبب المال، أو أي قول أو فعل ضد مؤسسات المجتمع اليهودي وأماكنهم الدينية.
تم تطوير التعريف من قبل المنظمة السابقة للوكالة الأوروبية للحقوق الأساسية في عام 2004، من أجل إيجاد معيار لرصد معاداة السامية في أوروبا. وفي عام 2016، اعتمد التحالف الدولي لإحياء ذكرى الهولوكوست التعريف السابق في بوخارست بمبادرة المانية رومانية. وبالرغم من أن هذا التعريف لا يملك قوة قانونية، إلا أن المانيا ملتزمة بمنظور مختلف فيما يتعلق بمكافحة معاداة السامية داخلياً وخارجياً. وتبنت الحكومة الإتحادية الألمانية التعريف وقامت بتعميمه كفهم مشترك ومحدد لمعاداة السامية على المستوى الوطني في 20 سبتمبر 2017 بقرار من مجلس الوزراء.
معاداة السامية وإسرائيل في ألمانيا
في ألمانيا، ارتبطت معاداة السامية بمعاداة الصهيونية بعد إنشاء دولة إسرائيل، حيث كانت معاداة الصهيونية تعني رفضها باعتبارها حركة تاريخية تهدف إلى إقامة دولة يهودية في الشرق الأوسط. بعد تأسيس دولة إسرائيل عام 1948 أصبحت معاداة الصهيونية مصطلحاً يشير إلى موقف أيدلوجي وسياسي، لا يدعي محاربة اليهود فحسب بل محاربة دولة اسرائيل “الدولة اليهودية.”

على المستوى السياسي الألماني، فإن نشأة دولة إسرائيل تمثل ذروة النجاح في محاربة معاداة السامية، ولذلك اعتبر أي انتقاد للسياسات الإسرائيلية هو معاداة للسامية في داخل ألمانيا. وفي أحدث خطاب رسمي ألماني، قال الرئيس الاتحادي لجمهورية ألمانيا الاتحادية فرانك فالتر شتاينماير في الذكرى 75 لنشأة إسرائيل، “حصل الشعب اليهودي أخيراً على وطن…، بعد قرون من العنف والاضطهاد والتهجير، وتفشي معاداة السامية…، منح إعلان الاستقلال في عام 1948 اليهود في الشتات أكثر من مجرد وطن جغرافي، منحتهم منزلاً روحياً.” اللافت للنظر في خطاب شتاينماير أنه أعطى فضل نجاح ألماني على الصعيد الدولي بولادة دولة إسرائيل، قائلاً “بالنسبة لألمانيا، فإن مسؤوليتنا عن دولة إسرائيل مستمدة من تاريخنا… نحن ممتنون للغاية لهدية المصالحة التي منحتها لنا إسرائيل… تمكنت ألمانيا من إيجاد مكانها في المجتمع الدولي.” وأنهى خطابه بتهنئة باللغة العبرية قائلاً “مازل توف،” أي “حظًا موفقًا.
وبناء على ذلك، يتم محاربة وحظر الأنشطة الفلسطينية التي تنتقد دولة إسرائيل باعتبارها معادية للسامية. فمثلاً، اعتبر مكتب حماية الدستور الألماني أن إحياء يوم الأسير الفلسطيني هو نشاط معادٍ للسامية وتم حظره، وقامت الشرطة بإعتقال بعض الناشطين الفلسطينيين والألمان الذين شاركوا في التجمع. وفي حالة مماثلة، منعت الشرطة الألمانية أي نشاط فلسطيني يقام يوم السبت باعتباره يوماً دينياً يهودياً مقدساً. وفي شهر آيار، تم منع ثلاثة مظاهرات فلسطينية، وهي مسيرة السلام من أجل النازحين، ومسيرة التضامن مع الشعب الفلسطيني ومظاهرة من أجل الحق الأساسي في حرية التجمع والتعبير في الذكرى الخامسة والسبعين للنكبة.
لقد أصبحت الشرطة الألمانية تحظر أي نشاط فلسطيني قبل حدوثه. فبحسب أحدث تصريح صدر عن مسؤولين ألمان، فإن السلطات الألمانية تمنع النشاطات الفلسطينية السياسية، لأنه قد ينتج عن هذه النشاطات شعارات معادية للسامية. السؤال هنا، إذا ما استمر الوضع على ما هو عليه، هل ستتطور الحالة إلى أن يتم اتهام الهوية الفلسطينية بأنها معادية للسامية، الأمر الذي سيشكل خطراً وجودياً مستقبلياً على الفلسطينيين في ألمانيا.
ريتا محليس: كاتبة في جريدة هانوفر الألمانية، تخصص اعلام وعلوم الاتصال والعلوم السياسية في جامعة برلين الحرة.