علاقة عمالقة التكنولوجيا وإسرائيل في حرب غزة
تحظى إسرائيل بدعم عسكري وسياسي كبيرين من دول عدة أبرزها الولايات المتحدة الأميركية، في حربها في قطاع غزة. إضافة الى هذا الدعم الكبير، لجأت إسرائيل إلى دعم من نوع آخر، وهو دعم تكنولوجي من أكبر شركات التكنولوجيا في العالم مثل “أمازون” و”غوغل” و”ميتا”، وهي الشركة المالكة لتطبيقات “فايسبوك”، و”إنستغرام” وتطبيق المحادثات “واتساب”.
هذا الدعم أتاح لإسرائيل استخدام كم هائل من المعلومات لتغذية أنظمة تكنولوجية حربية تعتمد على الذكاء الاصطناعي، ومنها نظامان مهمان، الأول، “غوسبال” (The Gospel)، والثاني، “لافندر” (Lavender). تبعث هذه الأنظمة ببيانات المستهدفين إلى الجيش الإسرائيلي الذي يقوم بدك البيوت على رؤوس ساكنيها من غير تمييز بين المدنيين والمقاتلين.
مساعدة عمالقة التكنولوجيا لإسرائيل أزعج موظفين داخل هذه الشركات، حيث قاموا بوقفات احتجاجية عدة لحث إداراتهم على التوقف عن مساندة إسرائيل، وآخرها تظاهرات داخل شركة “غوغل” للمطالبة بوقف مشروع “نيمبوس”.
بدأ مشروع “نيمبوس” الضخم باتفاق تعاون بين إسرائيل وشركتي “غوغل” و”أمازون” في عام 2021 بمبلغ يقدر بـ 1,23 مليار دولار
تطور الأمر إلى حد دفع “غوغل” إلى إصدار قرار بفصل هؤلاء الموظفين بسبب “تعطيل العمل وتعريض الموظفين الآخرين للخطر”. وهذا المشروع هو مثل حي على تحيز شركات التكنولوجيا لإسرائيل، وتسهيل تقديم خدماتها لبناء مراكز حفظ بيانات داخل إسرائيل امتثالا لقوانينها الداخلية.
مشروع “نيمبوس”
انطلق مشروع “نيمبوس” الضخم نتيجة اتفاق تعاون بين إسرائيل وشركتي “غوغل” و”أمازون” للخدمات السحابية في عام 2021 بمبلغ يقدر بـ 1,23 مليار دولار. يعد هذا المشروع من أكبر المشاريع التكنولوجية في إسرائيل، إذ كانت تحتاج لنظام حوسبة سحابية يمكنها من معالجة قدر هائل من البيانات وحفظها بسرعة ضخمة لتغذية أنظمتها التي تعتمد على الذكاء الاصطناعي.
لم يكن ليكتب النجاح لإسرائيل في تطوير هذه الأنظمة إلا من خلال مشروع “نيمبوس” السحابي والتسهيلات التي قدمتها الشركتان. حيث قدمت شركة “غوغل” حسما على التكلفة الإجمالية لحكومة إسرائيل بنسبة تصل الى نحو 15 في المئة.
لم توفر إسرائيل صناعة تكنولوجية لم تشارك فيها أكبر شركات العالم
كذلك، نص الاتفاق مع الحكومة الإسرائيلية على إلزامية إنشاء مراكز البيانات داخل إسرائيل بدلا من وجودها في إيرلندا وألمانيا وهولندا لكي تضمن إسرائيل امتثال شركات التكنولوجيا لقوانينها الداخلية. أيضا خضعت كل من “غوغل” و”أمازون” لمطالب إسرائيل بإنشاء شركات محلية تكون هي المسؤولة عن مراكز البيانات وليس الشركات الدولية. إضافة إلى تخصيص مناطق هبوط لمشروع “نيمبوس” فقط، بشكل عام، لحماية البيانات وزيادة موارد البنية التحتية عند زيادة الطلب على البيانات أو الطلب على معالجتها، مما يعزز سرعة الاستجابة والفاعلية في اتخاذ القرار، وهو بالطبع ميزة كبيرة تخدم إسرائيل في تطوير برامجها التي تعتمد على إتاحة البيانات ومعالجتها بسرعة كبيرة.
كانت إسرائيل تخشى إمكان توقف هذه الشركات عن تقديم خدماتها بسبب استخدامها لهذه التكنولوجيا من دون مراعاة الجانب الإنساني أو الأخلاقي، لكن هذا لم يحصل
كانت إسرائيل تخشى إمكان توقف هذه الشركات عن تقديم خدماتها أو فرض قيود عليها خصوصا بسبب استخدام إسرائيل لهذه التكنولوجيا “من دون تمييز أو مراعاة الجانب الإنساني أو الأخلاقي”، أو على الأقل تأثر إدارات شركات التكنولوجيا بالرفض الداخلي لقطاع عريض من الموظفين العاملين على هذا المشروع نتيجة المسؤولية الأخلاقية التي تقع عليهم عند استخدام الذكاء الاصطناعي لتحديد أهداف ومقاتلين وقصفهم حتى وهم في بيوتهم ومع أسرهم، لكن هذا الأمر لم يحصل. فمنذ توقيع الاتفاق، أرسلت مجموعة “الشتات اليهودي في التكنولوجيا” رسالة إلى إدارة “غوغل” تحثها على عدم إكمال المشروع.
ذكرت الرسالة التي نشرت على الانترنت، بأن الفلسطينيين تأثروا كثيرا بسبب عنف الاحتلال العسكري على مدار السنين وطالبوا بتخصيص أموال لتخفيف آلامهم. فكانت هناك معارضة شديدة للمشروع من العاملين داخل شركة “غوغل” منذ اللحظات الأولى لإعلانه. أيضا تم تسريح نحو خمسين موظفا اعترضوا على إكمال هذا المشروع نتيجة لارتفاع أعداد الضحايا في قطاع غزة وتفاقم الأزمة الإنسانية.
فما كان من رئيس مجلس إدارة “غوغل”، سيندار بيشاي، إلا أن قال بإن شركة “غوغل” مكان للعمل وليس لبحث أمور السياسة. الغريب في الأمر أن شركة “غوغل” تروج لنفسها بأنها مع حرية الرأي والتعبير وتقدم بيئة عمل صحية تستوعب كل الأفكار والآراء.
تكنولوجيا تزيد أعداد الضحايا
لم يقتصر التعاون بين حكومة إسرائيل وشركة “غوغل” على هذا الحد، إذ شمل أيضا تقديم خدمات استشارية للحكومة الإسرائيلية للانتقال إلى المرحلة الثانية من المشروع. وفقا لوثيقة تحدثت عنها مجلة “تايمز” في أبريل/نيسان الماضي، تعكف “غوغل” على مساعدة إسرائيل في جعل مناطق الهبوط المخصصة للمشروع تعمل أوتوماتيكيا، أو على الأقل، بتدخل بشري محدود لإدارتها. هذا التحول من شأنه الاعتماد على القرارات التي تنتجها الحواسيب الآلية بناء على المعلومات التي تمت تغذيتها بها. الأمر الذي يؤدي في كثير من الأحيان إلى زيادة أعداد الضحايا، كون النظام لم يتم تدريبه بالشكل الأمثل لتفادي المدنيين عند القصف أو القصف الدقيق في المحيط الذي يوجد فيه الهدف فقط. وذكرت الصحيفة أن المشروع هو حجر الزاوية لمشروعات إسرائيل السحابية، التي مكنت إسرائيل أيضا من تحديد المقاتلين بسهولة ثم قصفهم لتصفيتهم.
آخر مظاهر الدعم الهائل من مجموعة “ميتا” لاسرائيل كان في تقديم “واتساب” معلومات عن فلسطينيين سجلت من محادثات لهم مع أقاربهم، خلافا لما يروج له في كون التطبيق يوفر الحماية والخصوصية
تقرير لمجلة “972+”
سعت شركة “ميتا” للدخول في سباق الدعم التكنولوجي لإسرائيل إسوة بالشركات الأخرى. وآخر مظاهر دعمها الهائل يتمثل في تقديم تطبيق “واتساب” معلومات عن أشخاص فلسطينيين سجلت من محادثات لهم مع أقاربهم عبر التطبيق، خلافا لما يروج له تطبيق “واتساب” في كونه التطبيق الذي يوفر الحماية والخصوصية بين أطراف المحادثات بدون تدخل خارجي. ونشرت مجلة “972+” تقريرا عن دعم “واتساب” لدولة إسرائيل، وهي مجلة تأسست عام 2010 من مجموعة من الصحافيين الفلسطينيين والإسرائيليين.
شعار “فيسبوك”.
ذكرت المجلة أن الهدف المنشود من ذلك التعاون هو تغذية برنامج الذكاء الاصطناعي “لافندر” بمعلومات عن المقاتلين الفلسطينيين مثل رصد موقعهم وبصمة صوتهم لتكوين مكتبة صوتية لهم، يمكن من خلالها تتبع المقاتلين وإرسال إحداثيات أماكنهم للجيش الإسرائيلي لقصفهم على الفور. من ضمن هذه المعلومات أيضا، بيانات دقيقة عن مجموعات الدردشة الذي يستخدمها مقاتلو “حماس”، مما يساعد إسرائيل على التعرف إلى عدد كبير من هؤلاء المقاتلين في زمن قياسي.
غوتيرش يدين استخدام التكنولوجيا في القتل
شكل ذلك التقرير صدمة للمجتمع الدولي مما أدى إلى إدانة الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيرش، هذه المعلومات المتداولة عن استخدام إسرائيل الذكاء الاصطناعي في تتبع وقتل ليس فقط العسكريين، وعدم تمييز القصف الصاروخي المعتمد على بيانات وقرارات الذكاء الاصطناعي بين المدنيين والعسكريين مما يؤدي إلى قتل عشرات الأبرياء في كل هجوم.
الدعم الأخير من شركة “ميتا” لإسرائيل ليس الأول ولن يكون الأخير، ولكن سجل شركة “ميتا” طويل في دعمها لدولة إسرائيل. ففي عام 2023، سمحت خوارزميات تطبيق “فايسبوك” بنشر خطاب الكراهية ضد الفلسطينيين. جاء ذلك بعد رصد إعلانات على موقع التواصل الشهير باللغتين العربية والعبرية، بعضها ينطوي على محتوى عنيف يدعو مباشرة إلى “قتل المدنيين”. تمت إزالة الإعلانات بعد تقديم شكاوى تحث “فايسبوك” على إزالتها لأنها تخترق القواعد التي وضعها “فايسبوك” نفسه بعدم السماح بخطاب الكراهية والعنف والقتل.
يتجلى عدم حياد الخوارزميات، عندما ينشر خطاب الكراهية والعنف نفسه، ولكن ضد الإسرائيليين، فيحذف على الفور تحت مسمى “معاداة السامية”
الأمر واضح وجلي لجهة عدم حياد هذه الخوارزميات، إذ عند نشر خطاب الكراهية والعنف نفسه، ولكن ضد الإسرائيليين، يحذف على الفور تحت مسمى “معاداة السامية” وتعريض صاحب هذا المنشور للحظر لفترة معينة أو الحظر النهائي من منصة “فايسبوك”.
“هيومن رايتس ووتش” تدين “ميتا” وشركاتها
وتحت عنوان “وعود ‘ميتا’ غير الكاملة”، أصدرت منظمة “هيومن رايتس ووتش” تقريرا في ديسمبر/كانون الأول الماضي ركزت فيه على ممارسات شركة “ميتا” غير الحيادية ضد الفلسطينيين وضد كل ما يدعم قضيتهم على الـ”فايسبوك” و”إنستغرام”. جاء التقرير بعد رصد نحو 1050 محاولة لقمع الأصوات وإزالة المنشورات التي تدعم حقوق الإنسان للشعب الفلسطيني.
كان وقع التقرير كالصدمة ليظهر شركة “ميتا” ضد الخطاب السلمي طالما يتعلق بالقضية الفلسطينية، إذ إن حالة واحدة فقط كانت تتعلق بخطاب يحض على العنف، والباقي، أي 1049 حالة، كان عبارة عن خطاب سلمي يدعو لتخفيف معاناة الفلسطينيين.
وأعلنت شركة “ميتا” في يناير/كانون الثاني من السنة الجارية نيتها إعادة كتابة سياسة النشر الخاصة بها على منصتي “فايسبوك” و”إنستغرام”. وعند قراءة تفاصيل هذا الإعلان الذي تم نشره للمجتمع المدني، يتبين أن الهدف الأساس من هذه الخطوة هو تقييد الخطاب الخاص بأمن دولة إسرائيل على شبكة الإنترنت.
“معاداة السامية”
كذلك، أرادت “ميتا” فرض قيود على استخدام مصطلح “صهيوني” لأن من شأنه في نظرها التحريض على معاداة السامية. وقد أصبح استخدام المصطلح الأخير، “معاداة السامية”، متاحا ضد أي خطاب يدعم القضية الفلسطينية، ليس فقط على الإنترنت، لكن أيضا عبر وسائل أخرى كما رأينا في المظاهرات التي نظمت في عدد من الجامعات في الولايات المتحدة. وقد استخدمت الشرطة القوة لفض المتظاهرين سلميا بادعاء أن هذه المظاهرات خطر على أمن الطلاب اليهود وتوصل رسائل معادية للسامية.
أرادت “ميتا” فرض قيود على استخدام مصطلح “صهيوني” لأن من شأنه في نظرها التحريض على معاداة السامية
تدرك إسرائيل جيدا قيمة الشركات التكنولوجية بالنسبة اليها، سواء في أوقات الحرب أو السلم. وبالتالي، هناك إرادة سياسية من القادة الإسرائيليين لتعزيز أوجه التعاون بين الحكومة الإسرائيلية وشركات التكنولوجيا العالمية، خصوصا الشركات الكبرى منها مثل “غوغل” و”أمازون” و”أبل” و”إنتل” و”أوراكل”.
شراكات وثيقة مع عمالقة التكنولوجيا
توجت المساعي الإسرائيلية بالوصول إلى شراكات وثيقة مع عمالقة التكنولوجيا في العالم بأشكال مختلفة، أولها من طريق عقد صفقات بين الشركات الدولية وشركات إسرائيلية ناشئة مثل التي حدثت عند شراء شركة “غوغل” تطبيق “وايز” الإسرائيلي، وهو تطبيق خاص معروف بتوفير معلومات عن الطرق والملاحة. شارك التطبيق في هذه الصفقة مع شركة “غوغل” بيانات مهمة عن السائقين حول العالم، حيث استخدمت “غوغل” هذه البيانات في تطوير تطبيقها الشهير “غوغل ماب”.
عمالقة شركات التكنولوجيا شركاء مخلصين لإسرائيل
أيضا استحوذت “فايسبوك” على شركات إسرائيلية، وتحديدا “أونافو” و”فايس.كوم”، مما دعم بشكل كبير نشاط “فايسبوك” في الإعلان المستهدف وإتاحة الإنترنت للجميع. وقد أدت هذه الاستحواذات إلى توفير الإنترنت المجاني للدول النامية، حيث يقوم فريق البحث والتطوير في “فايسبوك” في إسرائيل بالمضي في تطوير خدمة الإنترنت وإتاحتها للجميع، مما أدى إلى انجازات تقنية مهمة جدا مثل الـ”واي فاي” السريع و”فايسبوك لايت”، التي قد يكون لها تأثير كبير على تواصل الملايين من البشر. أيضا، استحوذت شركة “أبل” على شركة “برايم سينس” الإسرائيلية المتخصصة في الاستشعار الثلاثي الأبعاد مما أدى إلى تطوير الساعات والهواتف والتلفزيونات التي تنتجها “أبل” والتي تعتمد على خاصية الحركة.
تعتبر وحدة 8200 من أذكى وأعقد الوحدات التكنولوجية العسكرية عالميا، وقد تعاونت معها “مايكروسوفت” لتطوير نظام الأمن الخاص بالمنتجات السحابية للشركة، ومنها منتجات “مايكروسوفت أوفيس” و”أزور كلاود”
الوحدة 8200 للتجسس على الأبرياء
وجه آخر من أوجه التعاون بين الشركات العالمية والجهات الإسرائيلية، هو التعاون بين وحدة 8200 في الجيش الإسرائيلي وشركة “مايكروسوفت”. تعتبر وحدة 8200 من أذكى وأعقد الوحدات التكنولوجية العسكرية عالميا، وقد تعاونت معها “مايكروسوفت” لتطوير نظام الأمن الخاص بالمنتجات السحابية للشركة، ومنها منتجات “مايكروسوفت أوفيس” و”أزور كلاود”. وحدة 8200 هي بمثابة جهاز استخبارات على أعلى مستوى من التدريب والكفاءة في التجسس وتعقب المستهدفين بشتى الطرق. ووفقا لتسريب نشرته صحيفة الـ”فايننشال تايمز” في 2015، تقوم الوحدة 8200 بمراقبة الفلسطينيين الذين يعيشون في ظل الاحتلال الإسرائيلي في الضفة الغربية وقطاع غزة. وتتبع الوحدة 8200 تكتيكات التجسس القسرية المستخدمة ضد الفلسطينيين الأبرياء، بما في ذلك جمع المعلومات الشخصية الحساسة.
أيضا تعاون موقع “فايسبوك” مع شركة أسسها أفراد سابقون في الوحدة 8200 في مجال الاحتكار. حيث استخدم “فايسبوك” شركة “أونافو” التي استحوذ عليها عام 2013، للتجسس لصالح شركة “ميتا” ضد منافسيها من تطبيقات التواصل الاجتماعي. جاء ذلك في تحقيق تم نشره في صحيفة “هآرتس” الإسرائيلية عام 2020. أيضا، رفعت دعوى من هيئة التجارة الفيديرالية الأميركية (FTC) لتورط “فايسبوك” و”أونافو” في أعمال احتكار وتجسس غير قانونية على المستخدمين.
تحاول إسرائيل الحصول على أفضل وأدق الأسلحة والمعدات التي تمكنها من الفوز في أي حرب، ولضمان أمنها في الشرق الأوسط غير المنضبط. أيضا، تسعى إسرائيل لأن تكون واجهة جاذبة لشركات التكنولوجيا لكي تحصل على كل ما هو جديد تكنولوجي وذكي يمكنها من الحفاظ على بسط سيادتها في المنطقة. وكما هو واضح، نجحت إسرائيل في عقد شراكات وصفقات مع عمالقة التكنولوجيا، وفرت لإسرائيل ما تحلم به من سلاح فتاك، وهو المعلومات، كي ترصد وتستهدف وتنفذ كيف تشاء.
عن المجلة