عقيدة “المجنون”

لدى الرئيس المنتخب دونالد ترامب استراتيجية تفاوضية مفضلة، وهو يستخدمها كما لم يفعل أي رئيس آخر من قبل.
في عام 1979، تم إطلاق مبادرة رائدة في جامعة هارفارد من شأنها تغيير الطريقة التي نفهم بها المفاوضات. أطلق على المبادرة اسم “مشروع هارفارد للتفاوض”، وكان الهدف منها دراسة وتحليل وتحسين الطرق التي يتفاوض بها الأفراد والجماعات والدول لحل النزاعات.
ترأس المشروع روجر فيشر، أستاذ القانون في جامعة هارفارد المتخصص في مفاوضات الصراع الدولي، إلى جانب شريكه ويليام أوري، عالم الأنثروبولوجيا والباحث في المفاوضات . وبعد نحو عامين من إطلاق المبادرة نشر الاثنان كتاباً سرعان ما أصبح من أهم الكتب وأكثرها تأثيراً في مجال المفاوضات – “الوصول إلى نعم” (بالعبرية: “الاستنتاج الإيجابي”).
قدم فيشر ويوري للعالم نهجاً مبتكراً للتفاوض أطلقو عليه اسم “التفاوض المبدئي”، والهدف منه عرض طريقة لإجراء مفاوضات تؤدي إلى إلى الوصول إلى اتفاقيات “ذكية”. وارتكز النهج على البحث عن حلول إبداعية تلبي احتياجات جميع الأطراف قدر الإمكان، مع الاستناد على معايير النزاهة والموضوعية لحل الخلافات . روح هذا الأسلوب كانت غير عدوانية حيث عززت التفاوض في جو معتدل، مع التعاون والسعي إلى إيجاد حلول نزيهة . وشدد فيشر ويوري على ضرورة الإصرار على المصالح، ولكن على أساس موضوعي، من دون مهاجمة الشخص الذي أمامنا.
مع مرور السنين، أصبح الكتاب مادة قراءة مركزية يتم تدريسها في كليات إدارة الأعمال والحقوق، وكذلك في دورات تأهيل المدراء والدبلوماسيين ومستشاري المفاوضات . تم تبني الأفكار والمحتوى الذي تم تطويره من قبل حكومات ومنظمات دولية وجيوش وشركات اعمال .
عندما تعامل الرئيس الأمريكي في حينه ، باراك أوباما، في عام 2015، مع مسألة الاتفاق النووي مع إيران، قيل بأنه في بعض الأحيان عمل وفق روح احدى التقنيات الأساسية في كتاب فيشر ويوري والتي سميت BATNA – ( Best Alternative to Negotiated Agreement )
بالعبرية : (البديل الأفضل للإتفاق )
الفكرة وراء BATNA بسيطة: قبل الدخول في المفاوضات، من المهم بلورة فهم واضح للبدائل الموجودة في حالة عدم التوصل إلى الاتفاق . حيث أن معرفة البدائل تتيح المجال للتفاوض من موقع قوة والامتناع عن قبول الشروط الرديئة فقط من باب الضغط للتوصل إلى اتفاق .
أوصى فيشر ويوري بإعداد قائمة بالبدائل الممكنة مسبقًا – على سبيل المثال، التوجه إلى مورد أخر ، أو تغيير الاستراتيجية في العمل أو إيجاد شركاء بديلين – واختيار الخيار الأفضل منها الذي يمكن تحقيقه عمليًا. يتم استخدام BATNA الذي يتم اختياره كنقطة مرجعية: إذا كان العرض المطروح على الطاولة أسوأ من ال BATNA الخاص بك، فلا يوجد سبب للموافقة عليه. كلما كان ال BATNA الخاصة بك أكثر قوة(على سبيل المثال، عرض عمل بديل جذاب)، كلما كان موقفك التفاوضي أكثر قوة الأمر الذي يسمح لك بإجرائه بثقة ومرونة واستراتيجية واضحة.
كان أوباما معروفاً باسلوبه المدروس وتحليله الدقيق للبدائل قبل اتخاذ القرارات المهمة. ومن أجل إقناع الكونغرس والجمهور الأميركي بجدوى الاتفاق النووي مع إيران، طرح بشكل واضح بدائل الاتفاق : إيران ذات قدرة نووية أو المواجهة العسكرية معها. و بذلك شدد على أن الاتفاق، رغم أنه ليس مثاليا، يشكل الخيار الواقعي والأقل خطورة بين البدائل . يعكس هذا الاسلوب ، الذي ركز على تحليل BATNA، اعتقاده بأن الدراسة العقلانية للخيارات تشكل المفتاح لاتخاذ القرارات الاستراتيجية في المواقف المعقدة .
مع مرور السنين، تبنى رؤساء الولايات المتحدة الأمريكية تقنيات إضافية مستوحاة من النهج غير العدواني في المفاوضات . ومن أبرزها مبدأ المعاملة بالمثل، الذي اكتسب صدى كبير بعد كتاب البروفيسور روبرت سيالديني المؤثر “التأثير: سيكولوجية الإقناع” (1984) (The influence Psychology Of Persuasion )الذي وصف فيه مبدأ المعاملة بالمثل بأنه فكرة نفسية يميل الناس بموجبها إلى رد الجميل لمن ساعدهم أو أظهر الكرم حيالهم – حتى لو لم يخططو مسبقًا لرد مثل هذه البادرة.
بشأن المفاوضات يفترض مبدأ المعاملة بالمثل أن كل طرف يميل إلى الرد على تحركات الطرف الآخر بنفس الاتجاه وبطريقة مماثلة. وبالتالي، إذا قام الطرف “أ” بلفتة إيجابية – مثل تنازل أو مرونة أو استعداد للتسوية – فإن الطرف “ب” سيميل إلى الرد بلفتة إيجابية من جانبه . وعلى العكس من ذلك، إذا تبنى الطرف “أ” موقفًا صارمًا أو تصرفات سلبية، فقد يرد الطرف الآخر بحزم مماثل. مبدأ يمكن استخدامه كأداة استراتيجية في المفاوضات: التنازل المحسوب من قبل أحد الطرفين قد يشجع الطرف الآخر على تقديم تنازل من جانبه وبالتالي يتم خلق ديناميكية إيجابية تقرب الطرفين من اتفاق مشترك.
طبق الرئيس الأميركي رونالد ريغان شيئاً من روح هذا الاسلوب أثناء المفاوضات مع الاتحاد السوفييتي بشأن الرقابة على الأسلحة النووية وتقليصها . حمل ريجان راية اسلوب “الثقة ولكن التحقق”، والذي كان يعني: “أنا على استعداد للتخلي عن بعض الأسلحة – بشرط أن تتخلوا أنتم أيضًا، وتسمحو لنا بالتحقق من ذلك عمليًا ” . ومع ذلك، إلى جانب مبدأ التبادلية ، دمج ريجان أيضًا بين الضغط العسكري والسياسي على الاتحاد السوفييتي، مما أدى إلى زيادة فعالية المفاوضات ومنح الولايات المتحدة موقفًا أقوى في المفاوضات .
عندما تولى دونالد ترامب منصب رئيس الولايات المتحدة الأمريكية جلب معه اسلوبا مختلفا للتفاوض – وهو اسلوب سبب صدمة للدبلوماسيين والقادة ورجال الأعمال في جميع أنحاء العالم. ويرجع ذلك بالأخص لأنه كسر البديهيات التقليدية في المفاوضات، التي كانت تقوم على بناء الثقة والتعاون والبحث عن حلول مفيدة لكلا الطرفين . وقد أطلق الباحثون في العلوم السياسية، الذين حللوا تحركاته، على اسلوبه التفاوضي اسم : (نظرية المجنون) (The Madman Theory) .
نظرية المجنون
في صيف عام 1968، كشف الرئيس الأمريكي ريتشارد نيكسون عن استراتيجيته لإنهاء حرب فيتنام لمساعده بوب هالدمان: “أنا أسميها نظرية الرجل المجنون، بوب. أريد أن يعتقد الفيتناميون أنني وصلت إلى النقطة التي يمكنني فيها فعل أي شيء لوقف الحرب. سنرسل إليهم ببساطة رسالة مفادها: “بحق الله، أنتم تعلمون أن نيكسون مهووس بشأن الشيوعية”. نحن لانستطيع كبح جماحه عندما يكون غاضبا، ويده على الزر النووي». هوشي منه بنفسه سيصل إلى باريس خلال يومين ويتوسل من أجل السلام” .
لمعت نظرية الرجل المجنون كاستراتيجية في ذهن نيكسون بعد تجربته كنائب للرئيس دوايت أيزنهاور (1953-1961). تذكر نيكسون كيف أن أيزنهاور “نقل سرا رسالة إلى الصينيين مفادها أنه سيلقي قنابل نووية على كوريا الشمالية إلا إذا تم التوقيع على اتفاق هدنة بشكل فوري. وخلال أسابيع قليلة، دعا الصينيون إلى هدنة وانتهت الحرب الكورية”، كما كتب هالدمان في مذكراته. وقد سعى نيكسون إلى تنفيذ استراتيجية مماثلة ـ التهديد باستخدام القوة المفرطة لتقويض خصومه ـ ولكنه نجح في تكييفها مع واقع حرب فيتنام.
كرئيس، حاول نيكسون تعزيز صورة زعيم لا يمكن توقع تصرفاته ، وغير تقليدي ، بل وحتى خطير . “نظرية الرجل المجنون” هي استراتيجية يحاول فيها الزعيم أن يبدو غير متوقع أو متشدد إلى درجة الخطر، وذلك من أجل ردع الخصم وجعله يستسلم أو يتنازل. ويستند هذا الاسلوب على افتراض أنه إذا اعتقد الخصم أن الزعيم “مجنون” بالدرجة الكافية لاتخاذ تدابير متطرفة (في هذه الحالة باستخدام قوة عسكرية واسعة أو حتى استخدام السلاح النووي)، فسوف يخشى من العواقب الخطيرة ويفضل اختيار المفاوضات أو الانسحاب. وبهذه الطريقة يصبح عدم اليقين بشأن خطوات الزعيم المستقبلية أداة استراتيجية في حد ذاته .
وبعد نيكسون بحوالي 70 عاما ، طبق رئيس أمريكي آخر، دونالد ترامب، نسخته الخاصة من “نظرية المجنون”، عندما هدد صراحة: “إذا لم يتم إطلاق سراح المخطوفين قبل 20 يناير 2025، وهو التاريخ الذي أتولى فيه بفخر منصب رئيس الولايات المتحدة، فسيكون هناك ثمن باهظ للغاية في الشرق الأوسط، سيدفعه المسؤولين عن ارتكاب هذه الفظائع ضد الإنسانية . وقد نجحت الضغوط – فخلال حوالي شهر ونصف فقط، توصلت إسرائيل وحماس إلى اتفاق” بشأن وقف إطلاق النار وإطلاق سراح المخطوفين.
عمليا طبق ترامب “نظرية المجنون ” خلال فترة ولايته الأولى، عندما صعد من خطابه ضد كوريا الشمالية ، وهدد بأن “رجل الصواريخ الصغير سوف يتسبب في الدمار الكامل لبلاده”.
وفي مقابلة مع الكاتب دوج ويد، الذي كتب التاريخ الرسمي للولاية الأولى، وصف ترامب كيف رد على تهديدات كيم: “قال كيم: لدي زر على مكتبي. زر أحمر”. ومن غير الممكن عدم فهم مايقصده وحينها قلت : “صحيح جدا وأنا لدي زر أكبر من زرك وزري أيضا يعمل “
وقال ترامب إن أوباما حذره قبل توليه منصبه مباشرة من أن التهديد الأكبر الذي سيواجهه كرئيس سيكون احتمال نشوب حرب مع كوريا الشمالية. “في الواقع، قال لي على انفراد: ستكون هناك حرب مع كوريا الشماليةخلال ولايتك ” .
لكن الحرب لم تندلع، ونسب البعض ذلك إلى تطبيق نظرية المجنون. وحسب الكاتب دوج ويد، “إن الدكتاتوريين الشيوعيين مثل الحيوانات المفترسة. ومثل الحيوانات المفترسة في البرية، فإنهم يستهدفون الضعفاء، وليس الأقوياء”. وقال ويد إن ترامب، في خطابه العدواني وغير المتوقع أظهر قوة وعدم قدرة على التنبؤ، الأمر الذي ربما أثر على بيونغ يانغ وجعل كيم جونغ أون يفكر مرات قبل الاستمرار في الاستفزازات العسكرية.
بخلاف نيكسون، الذي عمل على تنمية نظرية الرجل المجنون وبشكل خاص ضد الأعداء، قام ترامب بتوسيع الاسلوب وطبقه على نحو أكثر شمولا وعلى نطاق أوسع. ولم يكتف بردع الخصوم ، بل استخدم هذه الاستراتيجية أيضا ضد الحلفاء – وأحيانا حتى ضد إدارته .
يقول الصحافي الأميركي جيم سكيتو في كتابه «نظرية المجنون »: «لقد أخذ ترامب «نظرية المجنون» في اتجاهات لم يجرؤ حتى نيكسون على استكشافها». “في حين احتفظ نيكسون بتهديداته المتطرفة حيال الدول التي كانت في حالة حرب مع الولايات المتحدة، طبق ترامب هذا الاسلوب على أقرب حلفاء الولايات المتحدة أيضا. فقد هدد بالانسحاب من مشاركة الولايات المتحدة طويلة الأمد في الناتو، ووصف المنظمة بأنها “عفا عليها الزمن”، ورفض التأكيد بشكل قاطع على أن الولايات المتحدة ستهب للدفاع عن حلفائها ” .
يشير سكيتو إلى أن جورج دبليو بوش وباراك أوباما ارادا أن تزيد دول الناتو ميزانياتها الدفاعية، لكن استراتيجيتهما كانت مختلفة تمامًا عن استراتيجية ترامب.
على سبيل المثال، عمل بوش بقوة على تشجيع شركاء حلف الناتو على زيادة مساهماتهم الأمنية أثناء قمتي الحلف في عامي 2006 و2008. وفي قمة بوخارست في عام 2008 أكد: “في هذه القمة، سوف أشجع شركاءنا الأوروبيين على زيادة التوظيف في أمنهم لدعم حلف الناتو وعمليات الاتحاد الأوروبي. وتعتقد الولايات المتحدة أن الأوروبيين إذا استثمروا في دفاعهم، فسوف يصبحون أكثر قوة وقدرة عندما نعمل معًا” .
من جانبه، شدد أوباما الطلب بعد الغزو الروسي لأوكرانيا عام 2014، والذي اعتبر تحديا مباشرا لهيمنة الناتو على أوروبا، وفي مارس/آذار 2014، قال في خطاب ألقاه في بروكسل في مارس/اذار 2014: “إذا كان لدينا دفاع جماعي، فهذا يعني أن الجميع يجب أن يشارك”. لقد كانت لدي مخاوف بشأن انخفاض مستوى الاستثمار في مجال الأمن من جانب بعض شركائنا في حلف الناتو ، ليس الجميع ، بل الكثير منهم” .
هل نجح النهج الدبلوماسي والمعتدل الذي تبناه بوش وأوباما ؟ بشكل واضح – لا. وعلى الرغم من الدعوات المتكررة، فإن معظم دول الناتو لم تقم بزيادة ميزانياتها الدفاعية بشكل كبير.
هل نجح ما فعله ترامب؟ حسنا، نعم. خلال فترة ولايته الأولى، ارتفع عدد الدول التي وصلت إلى المستوى المطلوب وهو 2٪ من الناتج المحلي الإجمالي في ميزانية الدفاع من 4 إلى 9. وفي وقت لاحق، فرض هذا الواقع استمرار هذا الاتجاه – الغزو الروسي لأوكرانيا في عام 2022 جعل هذا المطلب ضروريًا، وأدى إلى أن 23 دولة في الناتو اصبحت ملتزمة بهذا الهدف بالفعل .
امتد اسلوب المجنون الذي اعتمده ترامب إلى كوريا الجنوبية. ففي عام 2017، عندما كانت إدارة ترامب تحاول إعادة التفاوض على شروط اتفاقية التجارة الحرة بين الولايات المتحدة وكوريا الجنوبية، أفاد جوناثان سوان في تقرير له على موقع أكسيوس الإلكتروني أن ترامب أمر على وجه التحديد رئيس فريق المفاوضات التجارية، روبرت لايتهايزر، بنقل رسالة واضحة إلى نظرائه الكوريين الجنوبيين: “ترامب مجنون”.
ووفقاً للتقرير، قال ترامب للايتهايزر: “أمامكم 30 يوماً، وإذا لم تحصلو( في طاقم المفاوضات التجارية ) على تنازلات فسأنسحب من الاتفاقية”. ورد لايتهايزر قائلاً: “حسناً، سأخبر الكوريين أن أمامهم 30 يوماً”.
لكن ترامب قاطعه على الفور: “لا، لا، لا. هذه ليست طريقة تفاوض . لا تخبرهم أن لديهم 30 يوما. بل تقول لهم: هذا الرجل مجنون للغاية لدرجة أنه يمكن أن ينسحب في أي لحظة”. هذا مايجب ان تقوله لهم : في أي لحظة . ومن أجل الحقيقة ربما انسحب فعلا . يجب ان تعرفو بأنني قد أنسحب فعلا . لاتقل لهم 30 يوما . إذا قلت لهم 30 يوما فإنهم سيلعبون على الوقت . قل لهم إذا لم تقدموا تنازلات الآن فإن هذا الشاب المجنون سينسحب من الاتفاق” .
الصيغة
“اعتقد ترامب أن أسلوب إدارة الرئيس أوباما شكل عائقا أمام الاستراتيجية العالمية للولايات المتحدة، لأنه حذر معارضيها مسبقا من التغييرات المتوقعة في سياسته”، يوضح المؤرخ البريطاني جيمس دي بويز (بويز) في مقال بمجلة كامبريدج ريفيو للشؤون الدولية . وحسب قوله فإن ترامب تعهد بكسر هذا الاسلوب وإدخال عامل عدم التوقع في السياسة الخارجية الأمريكية .
“علينا كأمة أن نكون غير متوقعين أكثر .نحن متوقعين تماما . نحن نقول كل شيء .نحن نرسل قوات – نحن نشرح لهم . نحن نرسل شيئا أخر .نحن نعقد مؤتمرا صحفيا . نحن يجب أن نكون غير متوقعين . نحن يجب أن نكون غير متوقعين بدءا من الآن ” . قال ترامب في خطاب فصل فيه نهج سياسته الخارجية في عام 2016 .
ويقول بويس مذكرا بأنه ” عمليا حتى في سنوات الثمانينيات اشتكى ترامب بأن الولايات المتحدة الامريكية متوقعة أكثر من اللازم ” .
” ففي عام 1987 دفع حوالي 95،000 دولار من أجل أن ينشر رسالة مفتوحة في الصحف الرئيسية في الولايات المتحدة يقول فيها بأن ” العالم يضحك على السياسين الامريكيين ” . وعزز موقفه في مقابلة مع لاري كينغ قال فيها بأن دول أجنبية تضحك علينا من وراء ظهرنا . يضحكون علينا بسبب غبائنا ” .
خلال فترة ولايته الأولى، أصبحت صورة ترامب كزعيم لا يمكن التنبؤ به، بل وحتى “مجنون”، جزءا لا يتجزأ من تفاعل الولايات المتحدة مع القادة في جميع أنحاء العالم – من الديكتاتوريات في سوريا وكوريا الشمالية إلى الدول الصديقة مثل كندا والمكسيك وحلفاء الناتو. لكن الافتقار إلى التوقعات لم يكن مجرد أداة في اللعبة الدبلوماسية – فقد بث ترامب أيضا وجود تناقض داخلي ، داخل إدارته، عندما ترك الكثيرين في حالة من عدم اليقين المستمر . وقد لعب هذه اللعبة حتى النهاية.
قال جوزيف يون، الذي شغل منصب الممثل الخاص للرئيس ترامب للسياسة تجاه كوريا الشمالية، وفي بعض الأحيان كان جهة الاتصال الرئيسية بين الإدارة الأمريكية وكبار المسؤولين من كوريا الشمالية والجنوبية، للصحفي جيم شيتو إنه خلال الأوقات الأكثر توتراً في شبه الجزيرة الكورية، كان يخبر زملائه بصدق أنه هو نفسه لا يعرف ما ينوي ترامب فعله لاحقا . وقال يون: “كنا نعتقد أن كيم جونغ أون لا يمكن التنبؤ به”. “الآن لدينا أيضًا ترامب كغير متوقع، وكان علي أن أنقل ذلك إلى الجانب الآخر”.
وأشار يون إلى أنه خلال الأزمة مع كوريا الشمالية في عام 2017، امتنع البنتاغون عن تزويد الرئيس ترامب بمجموعة واسعة من خيارات العمل العسكري، خوفا من أن يأمر بشن هجوم كبير ضد كوريا الشمالية. وقال يون: “يجب أن يكون هناك الكثير من الحذر بشأن الخيارات المقدمة له”. كنا حذرين للغاية، لأنه كان يمكن أن يستخدم أي خيار كان مطروحا على الطاولة ». هذا التصرف الذي يعكس القلق العميق داخل الإدارة بشأن استعداد ترامب لاتخاذ إجراءات غير متوقعة وبعيدة المدى، قد تؤدي إلى تصعيد خطير.
بعبارة أخرى، حتى أقرب مستشاري ترامب والمؤسسات الحكومية التي عملت تحت قيادته لم تكن دائما على علم بنواياه، وفي بعض الأحيان كان عليها أن تعمل في ظلام دامس. وقالت سوزان جوردون، التي شغلت منصب نائب مدير المخابرات الوطنية الأمريكية – ثاني أهم منصب في مجتمع الاستخبارات الامريكية – لسكيتو: “كان حلفاؤنا وخصومنا ومنافسونا يعرفون أننا لا نعرف ما هي الخطوة التالية”.
هل هذا سيء بالضرورة ؟ في ظل أي رئيس آخر، ربما كان مثل هذا التناقض المتعمد يعتبر عيبا، بل وحتى فشلا. لكن بالنسبة لترامب، كان يُنظر إلى نظرية الرجل المجنون في الواقع على أنها ميزة استراتيجية – كأداة مهمة في المفاوضات. قال يون: “بالنسبة له، كان ما هو غير متوقع هو الورقة التي كان يحب حملها”.
ويوضح الباحثان الدكتورة ميشيل بنتلي من جامعة لندن، والدكتورة ماكسين ديفيد من جامعة ليدن (ليدن) في هولندا، أنه بما أن نشاط ترامب بدا في بعض الأحيان متغيرا وغير مستقر، فقد رأى الكثيرون أنه لايعقل أنه يعمل وفقا لاستراتيجية منظمة أو عقيدة واضحة.
بشكل عام، يتم تعريف العقيدة في السياسة الخارجية على أنها مجموعة محددة من المبادئ والقيم والمصالح التي توجه تصرفات الزعيم أو الدولة. وعلى هذا فإن بنتلي وديفيد يقترحان إعادة تعريف مفهوم العقيدة، بحيث تتضمن أيضاً إمكانية وجود “عقيدة مبنية على ما هو غير متوقع” ــ أي استراتيجية يكون المبدأ المركزي فيها أن لا يكون متوقعا أو “شفافاً” حيال الخارج .
وبحسبهم، فإن هذا هو المبدأ الذي تصرف بموجبه ترامب – ليس من منطلق غياب التخطيط أو الفوضى الكاملة، بل من منطلق نهج استراتيجي يهدف إلى ترك خصومه وحلفائه في جو دائم من عدم اليقين .
حتى أن بنتلي وديفيد قاما بصياغة “صيغة” لما هو غير متوقع، تتألف من أربعة مكونات رئيسية، والتي تشكل معًا “عقيدة ما هو غير المتوقع”:
- عدم التحديد – عدم الالتزام تجاه الحلفاء أو في السياسات الثابتة. أمثلة: التغيير الحاد في القرارات المتعلقة بحلف شمال الأطلسي (الناتو)، أو الإعلان عن انسحاب مفاجئ لآلاف الجنود الأمريكيين المتمركزين في ألمانيا في يونيو/حزيران 2020، دون استشارة الحلفاء.
- عدم التناسق – تغييرات في السياسات والبيانات بطريقة تبدو متناقضة. على سبيل المثال: سلوك مختلف تجاه دول مماثلة (موقف مختلف تجاه ألمانيا وفرنسا) أو فجوات بين الخطاب والأفعال.
- عدم وجود قيود – رفض القيود المؤسسية والاتفاقيات والتحالفات الدولية. أمثلة: انسحاب ترامب من اتفاق باريس للمناخ، والاتفاق النووي مع إيران، واتفاقية الصواريخ النووية متوسطة المدى مع روسيا (التي حدت من نشر الصواريخ متوسطة المدى)، وكذلك وقف دعم المؤسسات الدولية مثل منظمة الصحة العالمية.
- عدم الموثوقية – عدم القدرة على توقع تصرفات الزعيم ، سواء من جانب الخصوم أو من جانب الحلفاء. على سبيل المثال: هجوم مفاجئ على قاسم سليماني، بعد عدم الرد على الهجمات السابقة التي شنتها إيران.
المصدر: موقع افوك العبري