الصراع على أشده في الدولة العبرية هذه الأيام، بين معسكرين صهيونيين واضحين ومميزين، هما: معسكر اليمين المحافظ دينياً وقومياً، الذي يقوده بنيامين نتنياهو، ومعسكر الليبراليين، يميناً ووسطاً ويساراً، الذي يقوده لبيد وغانتس. علماً أن انتخابات الفاتح من نوفمبر/ تشرين الثاني 2022 قد تمخضت عن فوز المعسكر الأول، الذي أفلح في تشكيل الحكومة الحالية، حكومة اليمين الخالص، التي حصلت على ثقة الكنيست قبيل نهاية عام 2022.

يتمحور الخلاف بين المعسكرين الصهيونيين المتناحرين حول مكانة السلطة القضائية عامةً، والمحكمة العليا خاصةً، في نظام حكم الدولة. حكومة اليمين الخالص عازمة على استصدار قوانين برلمانية من شأنها إعادة تشكيل لجنة تعيين القضاة أولاً، ونزع صلاحية المراجعة القانونية من المحكمة العليا ثانياً، وفصل منصب النائب العام عن منصب المستشار القانوني للحكومة، مع اقتران ذلك بنزع الإلزامية القانونية عن فتاوى المستشار ثالثاً. بكلماتٍ أخرى، تسعى الحكومة الحالية لتقليم أظفار كل من المستشار القانوني للحكومة والمحكمة العليا أساساً، الأول من طريق إزاحة إلزامية أحكامه عن قراراتها وإجراءاتها، والثاني من طريق إلغاء دورها التدخلي في مراجعة القوانين الأساسية الصادرة عن البرلمان.

ما يقوله المعارضون الليبراليون الصهيونيون، على اختلافاتهم، يتلخص بـ: تحت لافتة الإصلاح القضائي، تسعى حكومة اليمين الخالص لتقويض مكانة السلطة القضائية، وبالتالي، زعزعة أسس النظام الديمقراطي القائم على الفصل المتوازن بين السلطات الثلاث، الذي يحمي حقوق الأفراد والجماعات والأقليات من خطر تعسف وطغيان الأغلبية الديمقراطية الحاكمة. باختصار، ما تسميه الحكومة المحافظة الحالية إصلاحاً قضائياً، تسميه المعارضة الصهيونية الليبرالية انقلاباً على نظام الحكم الديمقراطي، ما يفسر حدة الاستقطاب وسخونة الصراع بين الطرفين المتناحرين.

لحكومة اليمين الخالص جناحان: ديني، والآخر قومي، القومي يمثله حزب الليكود أساساً، فيما يمثل الديني حزبا “شاس” و”يهدوت هتوراة”. أما أحزاب “الصهيونية الدينية“، فتحلق عالياً بكلا الجناحين. يصرّ حزبا الجناح الديني على إجراءات وقرارات حكومية وقوانين برلمانية محصنة من المراجعة القانونية، ذات علاقة بقدسية يوم السبت، وحصرية البت بشأن يهودية الفرد بالمؤسسة الدينية الأرثوذكسية، وإعفاء طلبة المدارس الدينية من الخدمة العسكرية الإجبارية، وزيادة المخصصات المالية لتلك المدارس، والتنكر لحقوق المثليين، وأحزاب الصهيونية الدينية تدعم ذلك. أما الجناح القومي، والصهيونية الدينية الملامسة للفاشية، فيركز على تكثيف الاستيطان في القدس الشرقية ومناطق (ج) في الضفة الغربية، تهويد الأحياء الفلسطينية المحيطة بأسوار القدس القديمة، تهويد المدن الساحلية في الداخل الفلسطيني (يافا وحيفا وعكا واللد والرملة)، زيادة منسوب القمع ضد السجناء الأمنيين وضد المقاومين الفلسطينيين وعائلاتهم، وهدم البيوت الفلسطينية لأسباب أمنية ولعدم الترخيص، والاستيلاء على الأراضي الفلسطينية في النقب ومسافر يطا وغور الأردن، وتضييق الخناق على السلطة الفلسطينية، كما على العمل والتنظيم السياسي ذي البعد الوطني في الداخل الفلسطيني، علماً بأن الإصلاح القضائي المشتهى من قبل حكومة اليمين الخالص يصبّ في خدمة كل ذلك. أي، وضعت الحكومة الحالية نفسها منذ البدء في مواجهة حادة وساخنة مع الليبراليين الصهيونيين من جهة، ومع فلسطينيي الداخل والفلسطينيين في المناطق المحتلة من جهة أخرى.

لم يعد خافياً أن للإصلاح القضائي المشتهى من قبل حكومة اليمين الخالص تكاليف وتبعات كثيرة أخرى، فقد أفزع الإصلاح المستثمرين، الذين بدأوا بسحب استثماراتهم وإيداعها خارج البلاد، كذلك حذر رجال المال والأعمال من خطورته الاقتصادية.

أيضاً، يفزع شبح الإصلاح يهود أميركا، الذين يخشون من عدم الاعتراف بيهوديتهم من قبل المؤسسة الدينية الأرثوذكسية الحاكمة في الدولة، لكون غالبيتهم ينتمون إلى أحد التيارين، الإصلاحي أو المحافظ. كذلك لا تتردد أميركا وفرنسا ودول أوروبية ديمقراطية في التعبير عن انزعاجها لأسباب اقتصادية، ولأسباب أخرى ذات علاقة بخطر تراجع الحماية القانونية لحقوق الأفراد والأقليات.

إضافة إلى ذلك، هناك هواجس جدية ذات علاقة بملاحقة مسؤولين إسرائيليين من قبل المحاكم الحقوقية الدولية، على خلفية ارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية في الأراضي الفلسطينية المحتلة منذ عام ١٩٦٧، والمحكمة العليا المستهدفة حالياً كانت وما زالت أهمّ سياج الحماية القانونية في وجه ذلك.

يدرك نتنياهو ذلك كله جيداً، لذا يحاول جاهداً طمأنة النفوس الكثيرة القلقة؛ والتخفيف من مخاوف وهواجس خصومه الليبراليين الصهيونيين في الداخل وناقديه القلقين في الخارج. كذلك يدرك خصوم الداخل وناقدو الخارج تماماً، أن قضيته الشخصية، أو على الأصح عقدته الشخصية، تقبع في عصب هذا الصراع السياسي والمجتمعي المحتدم حالياً، الذي يحذر كثيرون من خطر انزلاقه للعنف وسفك الدماء.

بسبب محاكمته الجارية بتهم الرشوة والفساد وخيانة الأمانة، تأبى جميع أحزاب المعسكر الليبرالي الصهيوني المشاركة في ائتلاف حكومي يرأسه نتنياهو، لذا فرصته الوحيدة لرئاسة حكومة عبر التحالف مع الأحزاب المحافظة دينياً والمتطرفة قومياً. يدرك قادة تلك الأحزاب بدورهم أن لا بديل لنتنياهو عن التحالف معهم، لبقائه رئيساً للحكومة، وبغرض إفلاته من المحاكمة والعقاب. من هنا، فإن المقايضة الضمنية بين حزب الليكود، برئاسة نتنياهو، وبين شركائه في الائتلاف الحكومي الحالي جاءت على النحو الآتي: خضوع نتنياهو لمطالب الشركاء الابتزازية مقابل التسريع في إنجاز عملية الإصلاح القضائي، الذي يساعده في الإفلات من عواقب محاكمة قد تكون وخيمة، إضافة إلى تحقيق المآرب الأخرى لحزبه وللأحزاب الشريكة في الائتلاف الحكومي.

المقايضة الضمنية؛ باب هروب ونجاة نتنياهو الوحيد، بعد خمس جولات من الانتخابات البرلمانية خلال فترة تقلّ عن أربعة أعوام، مقايضة يعقدها مضطراً، ومدركاً في الوقت ذاته ضخامة كلفتها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية /القانونية دولياً. فهل ينجح بهذه المقايضة في الإفلات من مصيدة المحاكمة والعقاب؟ وهل يفلح في تطويع خصومه الليبراليين الصهيونيين في الداخل وطمأنة ناقديه القلقين في الخارج، وعلى رأسهم الإدارة الأميركية الديمقراطية؟ هذان هما السؤالان!

سيحاول نتنياهو جاهداً الحفاظ على الائتلاف الحكومي الحالي، على الأقل، حتى إنجاز مشروع الإصلاح القضائي المشتهى، الذي يمكنه من الإفلات من المحاكمة والعقاب، حتى لو كان الثمن باهظاً، متمثلاً بابتزاز شركائه في الحكومة، وتحدي خصومه الليبراليين في المعارضة وناقديه خارج البلاد.

إذا أفلح في الإفلات من المحاكمة والعقاب، يمكنه بعد ذلك التفرغ لترميم ما خرب وانحرف واعوج من الأمور. ولكن السؤال/الهاجس الذي “يدق جدار الخزان” هو: هل سيعطيه حزبه كل ما يلزم من الوقت والدعم لتحقيق مبتغاه؟ بكلمات أخرى، هل سيظل حزب الليكود متماسكاً وداعماً، رغم ضغط المعارضة الصهيونية الليبرالية العصية على التطويع، ورغم ابتزاز شركائه في الحكومة، التي تشدها الأحزاب الدينية نحو الثيوقراطية، فيما تشدها أحزاب الصهيونية الدينية نحو الفاشية؟

أخيراً، يعتقد الكاتب بأن مستقبل نتنياهو وحكومته السياسي لن يكون مشرقاً، فإما يفشل في الإفلات من المحاكمة والعقاب، وإما يفشل في الإبقاء على حزب الليكود متماسكاً وداعماً لفترة طويلة. هذا ما ستبديه الشهور القادمة.

ملحق فلسطين/ العربي الجديد

About The Author

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *