عـــيـــد مـــيـــلاد أســـري
في مثل هذا اليوم (5 حزيران يونيو 1969) دخلت مدرسة صراع الإرادات.
من هناك.. من هنا، من وراء القضبان، من أقبية التعذيب ومن جوف الزنازين، خرج: المثقف.. والصحفي.. والأديب.. والرسام.. وخرج القائد.. والشهيد…
.. ومن هناك، من هنا، أيضاً، تسللت نطفٌ من أزواج أسرى إلى زوجاتهم في الخارج، كي تستمر الحياة.. ونقهر العدو.
7 سنوات ونصف قضيتها وراء القضبان في سجون العدو الصهيوني. عشت وتنقلت في 6 سجون: الرملة، عسقلان، بيت ليد، بئر السبع، الخليل، نابلس، قبل أن يتم إبعادي من سجن بئر السبع إلى الأردن في 29-11-1976.
دخلت السجن وعمري أقل من 17 عاماً
وخرجت منه وعمري 24 عاماً ونصف
في ذلك اليوم، 5 حزيران يونيو 1969، طعنت 3 جنود إسرائيليين أمام الحرم الإبراهيمي في الخليل بسيخ كباب صنعته في مدرسة الأمير محمد الإعدادية، وأُصبتُ في رقبتي وقدمي برصاص الحاكم العسكري الكولونيل أبراهام عوفر وجنوده.
رأيت الاحتلال بأم عيني فور هزيمة حزيران 1967، وكان عمري 15 عاماً.
رأيتُ “اليهود” لأول مرة، رأيتُ غطرسة المحتل وتجرعتُ طعم الهزيمة..
كانوا فرحين.. يغنون ويرقصون
وكنا حزانى.. مكسورين واجمين
أمور كثيرة شحنتني بالقهر، وجعلتني أفكر بعمل شي ما.
نظفتُ السيخ من الصدأ بورق زجاج. صليتُ ركعتين، ودعوتُ: اللهم أمتني شهيداً. أخفيتُ السيخ تحت الجاكيت، وانطلقت.
أتذكر 4 أمور قهرتني وأشعلت الغضب في روحي، ودفعتني لأن أفعل ما فعلت:
1- رفعوا العلم الإسرائيلي فوق مئذنة الحرم الإبراهيمي.
2- صفعني جندي في الشارع، بلا سبب.
3- أحدهم أشار إلى ساعة على يده، وكان متفاخراً. الوغد سرقها في سيناء من يد جندي مصري شهيد.
4- وهو الأكثر إيلاماً وقهراً: في الشارع، قرب ملعب المدرسة الإبراهيمية، وكنتُ بائع شاي متجول، شاهدتُ جندياً ينادي على طفل صغير عمره حوالي 5 أعوام، الطفل خاف وهرب. رأيت الجندي الوغد يجلس على ركبة ونصف، كأنه في حقل رماية، يصوِّب على الطفل، أطلق عليه النار من بندقية “ناتو” طويلة، أصابه، “تفعفل” الطفل، كعصفور، ومات.
.. لا أندم، ولا أعتذر عما فعلت.
في المحكمة العسكرية في الخليل أحضروا أحد الجنود الثلاثة، وقد أجرى عملية جراحية بعد أن طعنته بالسيخ في البطن. قالوا أن الصدأ على السيخ قد تسبب له بتسمم.
لم أكن أعرف ذلك. كان يجدر بي أن أُبقي على الصدأ..
.. شكراً لما تبقى من صدأ !
انشرحت أسارير أمي وأبي في المحكمة، حين أعلن القاضي “مصادرة السيخ”..
أما أنا فقد حزنت لفراقه!
زملائي الأسرى أطلقوا عليَّ لقباً : عدنان السيخ!
وحين يسألني شخص ما: هل أنت عدنان السيخ؟
أجيبه: نعم أنا عدنان السيخ. سيخ فلسطين، وليس سيخ الهند!
الجرح في رقبتي شُفي بعد 40 يوماً، لأنه من طلقة مسدس عادية..
أما الجرح في القدم، فلم يبرأ، وما زلتُ أغيِّر عليه، لأنه من رصاص بندقية متفجر..
منذ أكثر من نصف قرن، منذ 52 سنة بالتمام والكمال، منذ 5 حزيران يونيو 1969 وحتى الآن، ما زالت في قدمي 60 شظية، تلسعني مثل كهرباء، وترسل لي بين آونة وأخرى، رسائل تنبيه:
إيه.. أنت يا رجل، انتبه!
شكراً للشظايا
.. أنا رجل لا ينسى !
لا أمنُّ على الله والناس بما فعلتُ، وما عانيتُ
حاولتُ أن أقوم بواجبي
هناك من ناضل أكثر وأفضل مني، من قدم وضحى أكثر مني، من قضى وراء القضبان أكثر مما قضيت، هناك من قضى أكثر من 35 سنة، وحتى 40 سنة: نائل البرغوثي، وليد دقة أبو ميلاد ورفاقه، وغيرهم.
وهناك من فقد بصره، مثل صديقي وزميلي في مشفى سجن الرملة عام 1969 المناضل البطل محمود أبو دنهش، ابن بلدة حلحول، الذي يقيم الآن في الأردن، له محبتي واحترامي.
وُلدْتُ مرتين:
مرةً، حين خرجتُ من رحم أمي سعاد إبراهيم صلاح، التي ولدتني في الخليل، في كروم العنب، في شهر آب اللهاب في 13-8-1952.
ومرةً، حين خرجتُ من أسر السجون الإسرئيلية، بعد أن تم ترحيلي من سجن بئر السبع إلى جسر الأردن بتاريخ 29-11-1976.
وراء القضبان أكملت تعليمي ونلت شهادة الثانوية مرتين، علمي، وأدبي. هناك، قرأت كثيراً، وصرت كاتباً وصحفياً، قبل أن أكون ذلك في الخارج.
قبل أن أنال شهادة الدكتوراه في الفلسفة من بلغاريا عام 1991، كنت تعلمت الفلسفة في سجن عسقلان عام 1970 على يد المناضل الشهيد ربحي حداد (أبو رامز) الذي غفا عام 2002 في ثرى نابلس.
غمرتني السعادة حين نشر لي ربحي حداد أبو رامز أول مقال لي في مجلة كان يحررها (عبارة عن دفتر) عام 1972 في سجن بيت ليد (كفار يونا).
في سجن بئر السبع عام 1976 أصدرنا مجلة “الرفاق”، وكان يشرف عليها الرفيق يعقوب دواني، المقيم حالياً في لندن، وشاركته في تحريرها.
ما زلت أحفظ عبارات قرأتها خلال سنوات أسري. كل عبارة أربطها بالسجن الذي قرأتها فيه. على سبيل المثال:
– في سجن عسقلان عام 1970، عبارة فيكتور هوغو:
“وأصبحت السماء صافية، كأنما غسلتها الملائكة بالليل”
– في سجن الخليل عام 1974، عبارة نزار قباني :
” ما دخل اليهود من حدودنا/ ولكن تسللوا كالنمل من عيوبنا”
– في سجن بئر السبع عام 1976، عبارة إرنست همنغواي:
” Man can be destroyed , but not defeated ” Ernest Hemingway , The old man and the sea.
” تستطيع أن تحطم الإنسان، لكنك لا تهزمه ” إرنست همنغواي ، الشيخ والبحر.
في سجن بيت ليد عام 1972، قرأت ألبير كامو، وجان بول سارتر، وكنت أتناقش مع الأسير تحسين حلبي بشأن مبادئ الوجودية. لفت انتباهي بشكل خاص مبدأ “الوجود أسبق على الماهية”، بينما كنت أقرأ هذا المبدأ، تداعت إلى ذاكرتي كلمات أمي مساء 5 حزيران 1969 في مستشفى عالية في الخليل..
وأنا بين الصحو واليقظة، نظرت أمي إلى وجهي المشوه الدامي، وقالت:
“معلش يما، المهم إنك عايش”
ما زلتُ احتفظ ببنطالي الكاكي المُثقَّب بالرصاص (من الأعداء، الحمد لله!).
عمره الآن أكثر من نصف قرن، 52 عاماً، والولد الذي كان يلبسه في 5 حزيران 1969 حين كان عمره 17 عاماً، صار عمره الآن 69 عاماً.. وعكاز!
هذا البنطال رفيقي وصديقي، أسير سابق وجريح مثلي، مبعد معي، تنقل في المنافي والبيوت معي، أعلقه بعناية في خزانة ملابسي.
.. هذا البنطال، هو أفضل ما أُورِّثُه لأولادي.
في ليلة 29 تشرين الثاني نوفمبر 1976 وضعتني إدارة سجن بئر السبع في قسم الزنازين تهيئة لترحيلي في الصباح.
كان هناك مجموعة أسرى من بينهم القائد الفلسطيني أبو علي مهدي بسيسو ابن غزة العزة الذي كان يصفر بعذوبة لحن أغنية محمد عبد الوهاب “كل ده كان ليه”..
( بتاريخ 16 أيلول سبتمبر 1993 في دمشق، يستشهد رفيقنا وأخونا القائد الفذ أبو علي مهدي بسيسو في سوريا قهراً وحزناً، بعد أن رأى التوقيع على اتفاق أوسلو ).
أتذكر، مع غصة في القلب، ذلك الوداع الحار لزملائي الأسرى في قسم الزنازين وتمنياتهم لي بالتوفيق، وفي أذني ذلك الصفير العذب من مهدي بسيسو لـ “كل ده كان ليه”..
.. أنا رجل لا ينسى !
من بوابة سجن بئر السبع حتى جسر الأردن، تناوب على ضربي الجنود الثلاثة في سيارة الجيب، حتى سال الدم من أنفي.
في ذلك الوقت، أدركت أن إسرائيل ليس لها مستقبل.
لأن العدو الغبي، هو من يشجعك على معاداته.