عبد الناصر في يوميات أكرم زعيتر.. شخصية محورية تنال الإعجاب والانتقاد
يحتلّ السياسي والمؤرخ والدبلوماسي والوزير، أكرم زعيتر (1909 – 1996)، وهو الرجل الدؤوب، والمدرك أهمية التوثيق وتدوين الوقائع، مكانة مرموقة على قمة هرم المؤرخين وكتّاب المذكرات واليوميات الفلسطينيين من مُجايليه، أمثال عارف العارف، ومصطفى الدباغ، ومحمد عزة دروزة، وعمر صالح البرغوثي الذي لم تُنشر مذكّراته، على أهميتها.
دأب زعيتر على تدوين يومياته منذ ثلاثينيات القرن الماضي، ونشر منها، ومن مذكّراته وأرشيفه الغني، مختارات تحت عناوين مختلفة، شملت: “مهمة في قارّة: رحلة الوفد العربي إلى أميركا اللاتينية في سبيل فلسطين” (دار الحياة، بيروت، 1950)، و”وثائق الحركة الوطنية الفلسطينية 1919–1935: من أوراق أكرم زعيتر” (مؤسسة الدراسات الفلسطينية، بيروت، 1979)، و”الحركة الوطنية الفلسطينية 1935–1939: يوميات أكرم زعيتر” (مؤسسة الدراسات الفلسطينية، بيروت 1980)، و”بواكير النضال: من مذكرات أكرم زعيتر 1919–1935″ (المؤسسة العربية للدراسات والنشر والتوزيع، بيروت، 1994)، و”من أجل أمتي: من مذكّرات أكرم زعيتر 1939–1946″ (المؤسسة العربية للدراسات والنشر والتوزيع، بيروت، 1994). وتابع المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات نشر يوميات زعيتر من حيث توقفت في عام 1948، وقد صدرت يومياته عن الفترة بين عامي 1949 و1965، في جزئين، بعنوان “يوميات أكرم زعيتر: آمال الوحدة وآلام الانقسام 1949-1965″، ونُشرت يومياته عن الفترة بين 1967 و1970، بعنوان “يوميات أكرم زعيتر: سنوات الأزمة 1967-1970”. وتبقى يومياته غير المنشورة للفترة ما بين عامي 1971 و1984، إضافة إلى آلاف الأوراق والمقالات والرسائل التي تبادلها مع شخصياتٍ سياسيةٍ وأدبية، ورؤساء وملوك. وهي محفوظةٌ في أرشيف “ذاكرة فلسطين” في المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، وتشكّل في مجموعها مصدرًا لا غنى عنه للباحثين في أحوال العرب وفلسطين، منذ بدايات القرن الماضي وحتى عام 1985.
لا يُخفي زعيتر فرحه باتجاه الثورة “الاتجاه العربي، وعَزَمَ على سكن مصر، والتفرّغ الكلي لخدمة القضية العربية“
غنيّ عن القول إن يوميات زعيتر موضع البحث هنا هي المتعلقة بالفترة بين ثورة 23 يوليو 1952 في مصر وحتى وفاة الرئيس جمال عبد الناصر عام 1970. ويمكن القول، ابتداءً، إنه لا تكاد تخلو صفحة من هذه اليوميات إلا وتطرّقت بشكل مباشر إلى عبد الناصر، سواء عبر تناول السياسة المصرية ومواقفها من مختلف القضايا المطروحة، أم بالحديث عنه في حوارات مع شخصيات عربية، أم في التقييم الذي أجراه أكرم زعيتر لمسيرة عبد الناصر بعد وفاته. ويكفي أن يُذكر هنا أنه قد تكرّر اسم جمال عبد الناصر في “آمال الوحدة وآلام الانقسام”، بجزئيه، نحو 800 مرة، وهي اليوميات التي تناولت جملة من الحوادث؛ من انقلابات عسكرية، وثورات، وتشكّل حركة التحرّر العربية ونموها، ومقاومة الأحلاف الاستعمارية، والعدوان الثلاثي على مصر (1956)، والوحدة المصرية – السورية (1958-1961)، والاتحاد العربي (بين العراق والأردن) (1958)، وثورة العراق (1958)، واستقلال الجزائر (1962)، ثم تأسيس منظمة التحرير الفلسطينية (1964). وفي “سنوات الأزمة…” ثمّة 400 تكرار لاسم عبد الناصر ضمن 500 صفحة، دوّن فيها زعيتر تفاصيل حرب حزيران/ يونيو 1967، والأجواء التي سبقتها وأعقبتها، وتنامي المقاومة الفلسطينية، وصولًا إلى أحداث أيلول/ سبتمبر 1970 المؤسفة، وهي أمور كان لعبد الناصر دور محوري فيها. ومع أن يوميات الأعوام 1952، 1955، 1956، 1958، على أهميتها، فُقدت بسبب تنقل زعيتر بين أمكنةٍ عديدة، وتعرّض مكتبته في بيروت للحريق، جرّاء قصف العدو الصهيوني منزله عام 1982، إلا أن ما عوّض ذلك أنه اعتاد أن يذكّر في يومياته اللاحقة، وبشكل موجز، ببعض الحوادث المهمة التي مرّت به في أعوام خلت.
علاقة وثيقة لمرحلة قصيرة
بدأت علاقة أكرم زعيتر بجمال عبد الناصر في 1953، بعد أن اقترح القائم بأعمال السفارة اللبنانية يومئذٍ في القاهرة، نديم دمشقية، على عبد الناصر، وعلى وزير الإرشاد، صلاح سالم، استدعاء أكرم زعيتر ومحمد شقير للتشاور، والعمل على عقد مؤتمر عربي شعبي، والتعاون على خدمة القضية العربية. ونتيجة ذلك، وفور تلقي زعيتر برقية من صديقه محمد شقير بضرورة السفر إلى القاهرة، توجّه إليها، وكان لقاؤه الأول بعبد الناصر في الإسكندرية، حين كان رئيسًا للوزارة في عهد محمد نجيب، حيث خطب أمامه في النادي الفلسطيني، وردّ عليه عبد الناصر بكلمةٍ مسهبة. وبعدها بأيام، اجتمع به في القاهرة، في مبنى مجلس قيادة الثورة في الجزيرة، مدة تزيد على الساعتين، ويقول زعيتر إنه كلما همّ بالانصراف استبقاه وسأله “مختلف الأسئلة عن الشؤون العربية وعن رجالات العرب”.
لا يُخفي زعيتر فرحه باتجاه الثورة “الاتجاه العربي، وعَزَمَ على سكن مصر، والتفرّغ الكلي لخدمة القضية العربية”، وكتب إلى عروسه يطلب إليها الاستعداد للسفر إلى مصر، وعقد اجتماعاتٍ مع بعض المشتغلين في الشؤون العربية، أمثال منصور فهمي وأسعد داغر وعلال الفاسي، وممثلين عن المغرب والجزائر وتونس، للمذاكرة في موضوع المؤتمر الشعبي، لكنه بعد أن غادر مصر، على أمل العودة إليها، تبيّن له مما نشرته الصحف، ومن تصريحات صلاح سالم، ومن الموقف المصري في اللجنة السياسية لجامعة الدول العربية، خلاف ما اتفق عليه مع عبد الناصر، فأدرك ومحمد شقير استحالة العمل معه.
يرى زعيتر أن المدرسة الناصرية قضت بهدم كل ذي سابقةٍ في العمل القومي، لأن عبد الناصر لم يكن مشاركًا في مجرياتها
ولعل جيل القوميين الذي ينتمي إليه زعيتر قد حمل رؤيةً مختلفةً عن الوحدة العربية، مفهومًا وسياقًا. كما أن طبيعة زعيتر العاطفية، ونظرته إلى سلوك أصدقائه ومجايليه من القوميين، كان له أثر كبير في مواقفه، فهو يرى أن المدرسة الناصرية قضت بهدم كل ذي سابقةٍ في العمل القومي، لأن عبد الناصر لم يكن مشاركًا في مجرياتها. ويذكر بألم كيف انقطعت زيارة ضريح سعد زغلول في ذكرى وفاته بعد الثورة، ويتحدّث عن الاضطهاد الذي لقيه زعيم حزب الوفد مصطفى النحّاس باشا، وقد هتف الشعب المصري في جنازته: “عشتَ شريفًا، ومت شريفًا يا نحّاس”. ويسترسل في الحديث عن مصير شخصيات أخرى، مثل فؤاد سراج الدين، ومحمد صلاح الدين، وإبراهيم عبد الهادي الذي حُكم بالإعدام مرتين؛ في عهدي الإنكليز والثورة، قبل أن يُستبدل السجن بالإعدام.
لم يمنع هذا الموقف الذي اتخذه زعيتر من عبد الناصر مبكرًا من التحلي بالموضوعية في قراءة التطورات اللاحقة؛ فهو وإن كان يصف الدستور المصري الذي أُعلن في عام 1956 بالديكتاتورية، والبعد عن الديمقراطية البرلمانية، إذ يحظر تأليف الأحزاب، إلا أنه يرحّب به، نظرًا إلى النزعة العربية التي اتسم بها؛ فمصر دولة عربية، والشعب المصري جزءٌ من الأمة العربية، وهذا، بحد ذاته، في رأي زعيتر “فتح عظيم للعروبة يُحمد لعهد الثورة، ويدلّ على أن الفكرة العربية سائرة إلى أهدافها”، وهذا الربح يغطّي “على ما قد يؤخذ على الدستور من سمةٍ دكتاتوريةٍ قد تقتضيها أحوال مصر الحاضرة”. وهو الموقف الذي يلخص حياة زعيتر وتعلقه بالفكرة العربية، أيًا كان منشؤها ومنبعها، ونراها واضحةً في يومياته من خلال العمل على وحدة سورية – عراقية، ومن ثم وحدة أردنية – عراقية في الخمسينيات، وتأييده الوحدة المصرية – السورية عام 1958، وحديثه الإيجابي عن أي مبادرةٍ وحدويةٍ عربيةٍ لاحقة.
يسجّل أكرم زعيتر تفاصيل زياراته، رفقة عوني عبد الهادي، السفير المصري في عمّان، اللواء إبراهيم سيف الدين، أطلعهم فيها على برقيةٍ تحمل توقيع عبد الناصر، بعد أن انسحبت القوات المصرية من سيناء خلال العدوان الثلاثي على مصر عام 1956 “يطلب فيها من الملك حسين أن لا يفتح جبهة الآن، لأن مصر لم يعد بمقدورها أن تنجد الأردن”. وثمّة زيارة أخرى لسليمان النابلسي، رئيس الوزراء الأردني، أطلعهم فيها على برقيةٍ وصلت إليه من الرئيس السوري، شكري القوتلي، تفيد بعزم مصر وسورية والسعودية تقديم إعانة مالية للأردن، بدلًا من الإعانة البريطانية، وهو ما وقّع عليه عبد الناصر والملك حسين والملك سعود وصبري العسلي في القاهرة، في 20/1/1957.
تتحدّث اليوميات عن وساطة قام بها الرئيس اللبناني، فؤاد شهاب، لتصفية العلاقات بين الأردن ومصر
في اليوميات صفحات عدة عن لقاءات جرت بين أكرم زعيتر والمفتي محمد أمين الحسيني الذي كان يحمل كثيرًا على عبد الناصر والإعلام المصري، ويسهب في ذكر الحملات والمضايقات التي تعرّض لها خلال إقامته في مصر، ما حمله على تركها واللجوء إلى لبنان، لكن زعيتر يبدي شكّه في حديث الحسيني عن “اتفاق جنتلمان”، بين أمين عام الأمم المتحدة، داغ همرشولد، وجمال عبد الناصر، معربًا عن اعتقاده بأن عبد الناصر لن يقدم على أي تسويةٍ تضرّ بالقضية الفلسطينية.
في عام 1959، يتحدّث أكرم زعيتر عن وساطة قام بها الرئيس اللبناني، فؤاد شهاب، لتصفية العلاقات بين الأردن ومصر، وعن موافقة الملك حسين على تغيير وزارة سمير الرفاعي التي لم تكن تحظى برضى جمال عبد الناصر، بل وتم تداول الأسماء المرشّحة لتولي هذا المنصب. لم تحظَ المحاولة بالنجاح بعد خطاب ألقاه عبد الناصر هاجم فيه الشيوعية، إلا أن الملك حسين أجرى لقاءً صحافيًا ندّد فيه بعبد الناصر، واعتبره غير صادق في حملته على الشيوعية، على نحوٍ أثار غضبه.
في بداية عام 1962، عُقد مؤتمر إسلامي في السعودية، حضره أكرم زعيتر، وبعد أن استمع إلى تقرير مكتب المؤتمر الدائم الذي تلاه سعيد رمضان، لم يرتح إلى تعريضه بجمال عبد الناصر، مع اعترافه “بأنه لم يتجاوز الحقّ والواقع في سرده”، فقد لاحظ أن المؤتمر كأنما عُقد للحملة على القومية العربية وشتمها، واعتبار الاشتراكية عدوة للإسلام، “والإيماء إلى أن عبد الناصر هو عدو الإسلام الأول”. ويرى زعيتر أن من العناصر التي ساقت المؤتمر عمدًا وقصدًا إلى أن يكون مظاهرة ضد عبد الناصر تعصّب الإخوان المسلمين، من أمثال سعيد رمضان الذي قال له، بعد أن أبدى زعيتر اعتراضه الشديد على الاقتراح الذي أعده: “هذه فرصة العمر، يا أكرم، ننتظرها منذ سبع سنوات”. وقد أدّى هذا المؤتمر، والنقاشات التي جرت خلاله، إلى جفوة بين زعيتر ورمضان، إلى درجة أنّ زعيتر أقرّ محمد المبارك على التبرؤ من عضوية المؤتمر.
بلغت مرتبة عبد الناصر، قبل حرب حزيران 1967، درجة العبادة، والجميع بات يعتقد أن إنقاذ فلسطين على الأبواب
تتوالى لقاءات زعيتر التي يكون فيها عبد الناصر محورًا للحكايات، منها ما ينقله عن شكري القوتلي بعد انفصال سورية عن مصر، من تعبيراتٍ سلبيةٍ بحق عبد الناصر، تصفه بأنه “جاهلٌ غدّار، وأنه خُدع به، كما يعتبره غير مؤمنٍ بالوحدة العربية”. كما يُفرد زعيتر عشرات الصفحات لأحاديث سلبيةٍ لقادة الانفصال، والحكومات التي تلته، عن جمال عبد الناصر، وعن الصراعات التي نشبت بين عبد الناصر والبعثيين في سورية والعراق، مما لا يتسع له هذا المقال.
حرب حزيران
يصف أكرم زعيتر الأجواء التي سادت قبل حرب حزيران 1967، مشيرًا إلى أن مرتبة عبد الناصر قد بلغت درجة العبادة، وأن الجميع بات يعتقد أن إنقاذ فلسطين على الأبواب، “ومن يجرؤ أن يجادل”! حتى خيّل إلى أحدهم “أني لا أرغب في تحرير فلسطين على يد جمال عبد الناصر”. وعلى الرغم من أن الطامّة الكبرى التي نزلت بالأمة العربية في الحرب كانت كافية للقضاء على من تزعّم الحركة العربية، لكن زعيتر يقول إن “منزلته أخذت تتصاعد، وإنه حين توفي كان أقوى منه في أي وقت مضى”.
لم يدوّن زعيتر في يومياته وقائع مؤتمر اللاءات الثلاث في الخرطوم في أغسطس/ آب 1967، وكان أحد المشاركين فيه، لكن في رسالته إلى صديقه رئيس بلدية نابلس، حمدي كنعان، يصف عبد الناصر بأنه كان أكثر الزعماء واقعيةً، وأن ما يتفق عليه مع الملك حسين يوافق عليه الجميع، وإذا كانت الحرب “مستحيلة، فإن الاشتباك ضروري، وهو قائم، فلا بد من الصبر والصمود”.
وفي 23/7/1970، أعلن عبد الناصر موافقته على مشروع روجرز (وزير الخارجية الأميركي) الذي أسماه “المبادرة الأميركية”، ويرى زعيتر أن آمالًا كبيرة لدى كثيرين قد خابت اليوم، وهم يستمعون إلى عبد الناصر يعلن قبول الحل السلمي، لكنه يوضح أنه قد يكون مضطرًا إلى هذا الموقف الذي يعدّ كارثة وطنية، فهو ثمرة للهزيمة، وقمة المصيبة السياسية، لكنه لا يلومه، فقد فعل ذلك “مضطرًا، مكرهًا، مرغمًا”، ولكن يلومه لأنه “هو الذي قاد الأمة العربية قيادةً أدّت بها إلى ما هي عليه”.
وفاة عبد الناصر
استيقظ أكرم زعيتر على نبأ وفاء عبد الناصر، ظنّ أنه يحلم، ثم استفاق وصرخ: “مات جمال عبد الناصر”، وهبّت زوجته فزعةً من فراشها، وأخذت تبكي، بينما تأرجحت دموعه في مقلتيه. يسهب زعيتر في وصف مظاهر الأسى على وفاة عبد الناصر التي أرتنا أي رجل عملاق، أي زعيم كان عبد الناصر، على الرغم من أخطائه التي سوف يتحدّث عنها التاريخ، مدوّنًا ما له وما عليه، فهو إذ يصف التظاهرات التي اندلعت في القدس وغزة والطيرة وشفا عمرو، فإنه يتألم لوفاته في هذا الوقت بالذات، إذ كان “يعالج فيه علاقة قوات المقاومة الفلسطينية بالجيش الأردني، ويهدهد من حدّة القذافي، ويخفّف من نزق النميري، ويراقب نزوات السلطة البعثية العراقية، ويكبح جماح الحكم البعثي السوري”.
ما يأخذه زعيتر على عبد الناصر أنه لا يحتمل أن يستقلّ مسؤول عربي في رأيه عنه، واتهامه المستقلين بالعمالة والخيانة والرجعية
بعد أيام من وفاة عبد الناصر، دوّن أكرم زعيتر ما يعتقده عن عبد الناصر، غير متأثر بالجزع الهائل الذي أُصيب به الجمهور، وعنده “أن عظمة الرجل إنما يقرّرها التاريخ بعد أن تزول جميع عوامل التكلّف؛ تكلّف التمجيد، وتكلّف الانتقاص”، مؤكدًا أنه بذكره حسناته وبنقده له، لا يتحيّف ولا يظلم. يقول إن عبد الناصر كان قوي الشخصية، وهو أقدر من سَحَر الجماهير العربية واستهواها، وفرض نفسه زعيمًا عربيًا، أدخل في روح الجماهير العربية أنه الرجل الذي يمثّل أمانيها، وفيه تتلخص تطلعاتها، حتى راح الناس يلغون عقولهم، “فمن واكب الناصرية عُدّ من الوطنيين، ومن عُرف بعدم ارتياحه إليها عُدّ من الرجعيين والعملاء”.
أما الفكرة العربية فقد عرفتها مصر قبل عبد الناصر الذي تبنّاها وأقحم مصر في مضمارها بقوة، وفرض عليها قيادته، وحمل بعنفٍ على الاستعمار، وأمّم قناة السويس، وكسر طوق التسلح الغربي، وجعل مصر طليعة العالم الثالث. ومن مزاياه أنه كان مثاليًا في طراز حياته الشخصية، “فما علقت بسمعته غميزة، ما عُرف في بيته الإسراف والترف، ما دارت حول أمانته الشخصية ما يشينها”. أستيقظ بعد كارثة حزيران/ يونيو، واختلف في سلوكه بعد الكارثة عنه قبل الكارثة؛ فقد حرص على تطهير جهاز المخابرات، وأعاد بناء الجيش المصري، وبدّل سياسة التهجّم على الأقطار العربية، وقلّل من تدخله في الشؤون الداخلية للدول العربية.
أما ما يأخذه زعيتر على عبد الناصر فيتلخص في أنه لا يحتمل أن يستقلّ مسؤول عربي في رأيه عنه، واتهامه المستقلين بالعمالة والخيانة والرجعية، ويضرب زعيتر أمثلة عدّة على ذلك. كما ينتقد تصرّفاته في سورية التي قُدّمت له على طبق من ذهب، حتى غدا أنصار الوحدة، مثل شكري القوتلي، “أول الناقمين منها، والساخطين عليها”. كما يستهجن انقلابه على الإمام البدر في اليمن، والذي كان صديقًا له، وإقحام الجيش المصري في تلك الحرب، بحيث “حلّت قضية اليمن محلّ قضية فلسطين”. ولا يتفق زعيتر مع سياسة الإملاء المصري على الدول العربية، وتحويل جامعة الدول العربية إلى دائرة حكومية مصرية.
بعد وفاة جمال عبد الناصر، رشّحت الحكومة الأردنية أكرم زعيتر ليكون سفيرًا لها في القاهرة، لكنها لم تتلقَ ردًا عبر القنوات الدبلوماسية، كما هو معتاد، ما أدّى إلى سحب ترشيحه، بعد أن جاءها الرد عبر مقال كتبه محمد حسنين هيكل يهاجم فيه زعيتر.
في الختام، نستذكر ما اختتم به زعيتر تقييمه عبد الناصر، بأن ظهوره قد هزّ العالم العربي، وأثر في سياسته أعظم تأثير، ثم لم يُفجع بفقد زعيم كفجيعته يوم مات عبد الناصر، فهل انتهت عوامل التكلّف “تكلّف التمجيد، وتكلّف الانتقاص”. أم ما يزال جمال عبد الناصر مثار جدل واتفاق واختلاف؟