عباس وبيان الأكاديميين: ماذا لو كان أبو عمار من قالها؟

لن ينتهي النقاش حول بيان الأكاديميين الفلسطينيين ضد تصريح محمود عباس حول هتلر وأسباب المحرقة اليهودية التي رآها الموقعون معادية للسامية، فيما نفى انصار عباس التهمة وشنوا حملة قوية ومضادة ضد البيان وموقعيه. الآراء حول التصريح والبيان ورد الفعل على البيان اثارت نقاشات وجدلاً حرك الساحة الفلسطينية الى حد مفاجئ. هناك كثير من الجوانب تلفت الانتباه في هذه النقاشات وما رافقها من جدل مُحتدم تستحق التوقف عندها والتفكير ملياً بها، والسطور التالية تتأمل بعضها فقط:

أولها، لغة التخوين والعمالة والاغتيال المعنوي التي حفلت بها بيانات الإدانة لبيان الأكاديميين – وهو البيان، في تقديري المتواضع، الذي لم يكن موفقا وانزلق في مسار الخطابات الاعتذارية التي لا ضرورة لها، وتضمن مقولات إطلاقيه غير مقبولة. لكن ذلك الانزلاق قوبل بحملة تخوين صادمة هيجتها الدوائر المقربة من الرئيس، في محاولة صبيانية لترقيع شرعيات مفقودة سواء للرئيس اوالسلطة، من خلال اللغة المفخمة وخلع الاوصاف “الثورية” وغيره ذلك من بهلوانيات لغوية. كثير من كتبة السلطة صاروا عبئا كبيرا عليها بعد وصول ادائهم في تجميل ما لا يمكن تجميله الى حالة رثة من السخرية والاستهزاء من قبل معظم من قرأوا ردودهم. عموماً، من العيب ان يكون المثال الفلسطيني في السلطة وعلاقة المثقف (او من يدعي الثقافة) بها منسوخة من نماذج البعث السوري الاسدي وكل الانظمة القمعية الأخرى التي تقتصر وظيفة المثقف فيها على التطبيل، والتبرير، وتخوين من ينتقد السلطة – او الحاكم بأمر الله! المثقف الناقد هو المثقف الحقيقي، كما قال وكتب ادوارد سعيد مرارا وتكرارا، والمثقف الذي يتخلى عن مهمة النقد يفقد دوره وطعمه.

البيان الذي اثار السخط، بعضه محق وكثيره نفاقي، وقعه عدد كبير من أكاديميين ومثقفين وناشطين يمثلون شريحة من اهم ما انتج الشعب الفلسطيني في العقود الأخيرة. الأصوات العاقلة التي انتقدت البيان وناقشت الفكرة بالفكرة برحابة وتوسع النقاش تستحق التقدير، اما صغار الكتبة المحشورين في ضيق الابواق فيجب فعلا ان يغرقوا في عارهم وخجلهم، وهم يصفون روزماري صايغ، ورشيد الخالدي، ونورا عريقات، ونديم روحانا، ونادية أبو الحاج، وعشرات آخرين بأنهم “مجموعة العار”، او “الأقلام المأجورة”. هؤلاء وغيرهم وعشرات من وقعوا على البيان خدموا فلسطين ولا زالوا يخدمونها بصمت ومثابرة، ومن دون “توكيل” من السلطة او من غيرها، يقودهم ضميرهم الوطني والعلمي، وانتجوا مكتبة فلسطينية اكاديمية كاملة باللغات المختلفة تعزز الحق الفلسطيني. هذه المكتبة غطت كل ما له علاقة بفلسطين: النكبة، واللاجئين، والقدس، والمستوطنات، وعنصرية المشروع الصهيوني، وكل تفاصيل الاستعمار الاستيطاني الصهيوني لفلسطين، وهي المصدر الذي ينهل منه مناصرو فلسطين في العالم، سواء في البرلمانات او المظاهرات في الشوارع، او الاعلام والصحفيين،.كثير من هؤلاء المؤيدين الغربيين وغير الغربيين نفرح بأصواتهم ونتداولها بيننا، لكن علينا ان نتذكر انهم في الجزء الغالب نتاج الحراك الاكاديمي والتثقيفي والتنويري التراكمي الذي شارك فيه كثير من موقعي البيان. بالمقارنة، ماذا قدم فلان او علان من صغار الكتبة خلال سنوات واحياناً عقودا طويلة غير التطبيل للسلطة والحاكم، وسوى تعزيز ثقافة النفاق والتفاهة.  

ثانيا، لنعتبر ان بيان الأكاديميين كان خطأ كبيرا، بل وخطيئة، فهل فعلا يستحق من وقعه كل هذا الهجوم وحملة المراهقة السياسية التي اديرت ضدهم؟ فجأة اكتشفنا ان هناك شيء اسمه المجلس الوطني الفلسطيني الذي بقضه وقضيضه يصدر صرخة مفاجئة ضد ما اسماه “بيان العار”، ويتهم موقعيه بأنهم “تماهوا في حملتهم المسعورة مع المتطرفين في إسرائيل وامريكا وأوروبا …”، بل والانكى من ذلك يتهمهم بأن ما قاموا به يقودهم “… ليكونوا جزءا من المؤامرة على القضية الفلسطينية”. من الذي كتب هذه التفاهات باسم المجلس الوطني؟ من اللجنة التي اقرت صياغته؟ وما هي الآلية التي صدر عبرها؟ أليس من حقنا كفلسطينيين ان نسأل هذه الأسئلة وغيرها. ولماذا يختفي المجلس العتيد واختفى في مناسبات وحوادث اهم بكثير من حفلة البيان الراهنة؟ المجلس الوطني من ناحية نظرية هو اعلى سلطة تشريعية في المؤسسة الفلسطينية: اين دوره في محاسبة الرئيس الذي يحكم من دون أي آلية رقابة، او محاسبة، يتحكم في المال، والقضاء، والامن، والسياسة، ويتحكم في المجلس الوطني نفسه، وفي تعيين لجانه ورئيسه. عندما لا يقوم المجلس بوظائفه المختلفة، ثم فجأة ينتفض انتفاضة أسد ضد أكاديميين فلسطينيين، وبإقرار انهم اخطأوا، فإن ذلك استتفاه للمجلس ومقامه وموقعه وتوظيف له في الدعاية والنفاق.

نفس الكاتب الصغير الذي صاغ بيان المجلس، ربما هو نفسه من صاغ بيانا باسم اللجنة المركزية لحركة فتح، ينسخ ما قاله بيان المجلس ويعلي من الخطاب والنبرة التخوينية. نفس الأسئلة تُطرح هنا: من هو الذي صاغ البيان، وهل وافقت عليه اللجنة التنفيذية وهل صدر باسمها من دون علم غالبيتها؟ وما هي الآلية التي تصدر بها البيانات؟ يستغبي كاتب البيان الشعب بأكمله ويمن عليه، ضمن أمور كثيرة، بأن الرئيس لم يوقع على صفقة القرن بما يدلل على موقف بطولي خارق، وكأن الموقف المطلوب والمتوقع أصبح مأثرة تستحق الشكر. كان الموافقة على صفقة القرن كانت هي أساس الموقف المنتظر والمتوقع، فقام عباس بما هو مدهش، وليس ما هو واجب. من العيب ان نهنأ أنفسنا على القيام بالحد الأدنى من الموقف الوطني، ونجلجل بأن ذلك بطولة خارقة … لكن هذا نقاش يطول ليس هذا مكانه.

بيد ان بيان اللجنة المركزية لفتح يطرح أسئلة من النوع الأكثر وطأة تواجه الحركة والشعب، حيث غابت وتغيب قيادة فتح في ملفات كبرى، بينما تصدرت اليوم خوض معركة لا طعم لها. اين هي اللجنة حين يتحكم الرئيس بها وبالحركة من دون أدني ممارسة ديموقراطية، يشطب من يشاء، ويعين من يشاء، ثم ينقل من يريد من بطانته الأقرب ليصبح نائب سر منظمة التحرير الفلسطينية، فلا المنظمة تعترض وتسأل كيف يحدث هذا، ولا لجنة فتح المركزية ترفع صوتها. وزراء ومسؤولون إسرائيليون يكررون على مسامعنا إهانات يومية تقول إن فلانا او علاناً هو رجل إسرائيل في المنظمة والسلطة، ولا تنتقض اللجنة المركزية ولا المنظمة ولا المجلس الوطني ولا تفتح تحقيقا طويلاً وعريضا في مثل هذه التصريحات ومن عنته ومعنى ذلك؟ كيف يمكن ان يمر مثل هذا الموضوع ولا يتم التحقيق فيه؟  يدفعنا هذا، ومن موقع الحرص على فتح عماد المشروع الوطني، الى إدانة المأسدة على الاكاديميين الفلسطينيين مقابل “التأرنب” والصمت إزاء من يعمل على تدمير المشروع الوطني كله، وتحويل فتح والمنظمة والمجلس الوطني، الى تابع وظيفي لإسرائيل، الأمر الذي لا يحتاج الى دليل بعد ٣٠ سنة من مشروع أوسلو الذي بات كشف حسابه مكشوفا للأعمى والبصير. أيضا، واستطرادا: اين هي اللجنة المركزية وقيادة فتح من سؤالين مصيريين يواجهان الشعب الفلسطيني برمته، وحيث الصمت يصير سيد الموقف إزاء الامرين: الأول، ماذا عن فلسطين في مرحلة ما بعد عباس، والثاني، كيف تنجو فتح من مصيدة المؤتمر الثامن الذي يُراد له ان يمرر ما أعدته القوى الدولية والإقليمية من ترتيبات لمرحلة ما بعد عباس؟ في السؤال الأول، إسرائيل ناقشت وتناقش وتحلل وتوازن السيناريوهات والبدائل، وكذلك فعلت وتفعل أمريكا، وحتى الأردن والسعودية ومصر كل منهم ناقش ووضع احتمالات وسيناريوهات. الطرف الوحيد الذي لا يفكر بصوت عال، ولا يناقش المصائر الخطرة هو نحن، وفي مقدمتنا حركة فتح ولجنتها المركزية. والسؤال حول مؤتمر فتح الثامن يثير ايضا الغازا كثيرة، فمن الواضح جدا ان فجائية طرح فكرة انعقاد المؤتمر، والسرعة التي يُراد له ان ينعقد فيها، تشير الى الحاجة الى “ذكر نحل” يشرعن ترتيبات تريدها إسرائيل وامريكا والاقليم، بعيدا حتى عن سؤال او استشارة الفلسطينيين حول مستقبلهم. هذه الأسئلة والقضايا وما يقع قريبا منها وفي وزنها، هي ما يستحق ان يسلب النوم من عيون قيادات فتح ولجنتها.

ثالثا ولس أخيرا، جال في بالي هذا السؤال: ماذا لو كان تصريح عباس قد قاله ياسر عرفات، بالكلمة والحرف؟ هل سنرى تجمعاً من الاكاديميين والمثقفين الفلسطينيين يلتقون على اصدار بيان يدين عرفات؟ ام ان غالبيتهم سوف تحاول الدفاع عنه وإيجاد تفسيرات ومبررات له، وهو ما اعتقده. على عباس ومجموعة صغار الكتبة ان يسألوا انفسهم لماذا لا يتصدى أي اكاديمي فلسطيني في طول وعرض العالم يتسم بالنزاهة والاستقلالية للدفاع عن محمود عباس في أي موقف من مواقفه، قبل تصريحاته الأخيرة، وحتى بعدها؟ جانب من الإجابة على هذا التساؤل يكمن في الحمولة الرمزية والثورية التي كان يتمتع بها عرفات، حتى معارضيه كانوا يتفقون على رمزيته وتمثيله الفلسطينيين، وبالتالي ضرورة ووطنية الدفاع عنه امام الخصوم والاعداء. في حالة محمود عباس، ليس ثمة ما هو قريب من تلك الرمزية وحمولتها الثورية والوطنية، بل ما ينهال على المخيلة هو عكس تلك الرمزية تماما. وجانب آخر من الإجابة يكمن في وعي المثقفين والاكاديميين الفلسطينيين لدورهم وموقعهم إزاء “حركة التحرر الوطني، او الثورة”، وموقعهم إزاء “السلطة الفلسطينية” كما هي الآن. انفضاض المثقفين والأكاديميين الفلسطينيين عن السلطة يأتي من موقع تحولها من “ثورة غير مكتملة” الى “سلطة” غير مكتملة وفي راي غالبيتهم تشتغل ضمن آليات تعزيز الاستعمار الاستيطاني وخدمة امنه وامن مستوطنيه. عموما، هناك حساسية عالية ودائمة في أوساط المثقفين والاكاديميين (مرة أخرى النزيهين والمستقلين) إزاء السلطة، أي سلطة، فما بالك ان تكون هذه السلطة مشوهة بنيوياً واحتلاليا وكولونيالياً؟ لهذا، واستكمالاً لنقاش افتتحه الصديق اكرم عطالله حول الجفاء بين المثقفين والاكاديميين الفلسطينيين و”السلطة”، يمكن القول ان هذا الجفاء يصعب ان لم يستحل ازالته، طالما البنية التكوينية للسلطة القائمة مستمرة. بيد ان الآلية التي ربما تفتح قنوات معقولة هي منظمة التحرير، وقد يكون تفعيل بعض لجانها باتجاه التواصل مع شريحة الأكاديميين والمثقفين، جزءً من آلية تفعيلها الكلية الامر الذي يطالب به الجميع.

About The Author

1 thought on “عباس وبيان الأكاديميين: ماذا لو كان أبو عمار من قالها؟

  1. أن هذا المقال لايختلف عن بيان الاكاديميين بل شدد من هجومه على حركة فتح..وماذا عن الفصائل الأخرى التي ادانت البيان؟ أم هي ليست من المشهد الفلسطيني؟ وإذا الموقعين على البيان قد تراجعوا..لماذا لايصدروا بيان بذلك؟ أن الهجوم الصهيوني ومنها رئيسة بلدية فرنسية على القيادة الفلسطينية لا تعني شئ بالنسبة للمقال؟ آمل أن الدفاع عن بيان الاكاديميين لايتساوق مع الهجوم؟ نأمل أن تكون نصرة القضية هدف المقال؟ تحياتي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *