عالم عربي محتل حقيقة ومجازا
مهزلة الزمان أن نحاول الرد على تطبيع البحرين أو الإمارات، ونسوق الحجج لإثبات خطأ تصرفاتهما، وكأن هذه الدول كاملة السيادة على الأرض والشعب، وتمتلك قرارها بيدها، بدون تدخل خارجي أو تأثير من دول أخرى. كيف يمكن أن تكون البحرين مستقلة، أو دول الخليج بشكل عام، وهي التي تحتضن القواعد الأمريكية، في مقايضة استراتيجية «النفط مقابل الأمن» منذ زمن عبد العزيز آل سعود، مؤسس المملكة السعودية؟ هل من المنطق أن تكون دولة تشتري أمنها من الخارج، ثم تحاول أن تتصرف وكأنها دولة عادية ذات سيادة تقبل وترفض وتحتج وتنسحب. الأمر ليس مقصورا على البحرين والإمارات، فالغالبية الساحقة من الأنظمة العربية غير كاملة السيادة، إما على أراضيها، أو على قراراتها السيادية أو على الاثنين معا، أو أنها تمرّ حاليا في حرب داخلية، أفقدتها مكونات الدولة المستقلة ذات السيادة بأجمعها. ولا أكاد أستثني إلا دولة أو دولتين.
مخطئ من يعتقد أن فلسطين فقط هي الأرض المحتلة، مع أنها أكبر الاحتلالات وأشرسها وأخطرها. فالاحتلال التقليدي يكاد ينتهي من كل العالم، إلا من العالم العربي. ولنتتبع معا الأراضي العربية المحتلة، أو المتنازع عليها، ثم نستعرض بعضا من المواقف والقرارات التي تثبت بلا شك أن معظم هذه أنظمة وظيفية لا تملك من سيادتها الحقيقية إلا المظاهر.
– نبدأ بالمغرب الذي فقد جزءا من أراضيه ومدنه للاحتلال الإسباني، منذ القرنين السادس عشر والسابع عشر. المدينتان الأهم سبتة ومليلية، وما بينهما أضف إلى ذلك أكثر من عشرين جزيرة، إذا ما اعتبرنا «الجزر الخالدات» أو جزر الكناري التي احتلتها إسبانيا عام 1405. مدينة مليلية احتلت عام 1497 لمنع هجمات العرب على المناطق الإسبانية بعد سقوط غرناطة عام 1492. وفي المدينة الآن قاعدة عسكرية كبيرة تهدد الأمن المغربي. أما مدينة سبتة فاحتلتها إسبانيا سنة 1668 وفيها قاعدة عسكرية أكبر من تلك التي في مليلية. والغريب أن المغرب لا يرفع صوته حول احتلال هذه المناطق ولا يذكره، إلا في نصف سطر في خطاب وزير الخارجية السنوي أمام دورة الجمعية العامة للأمم المتحدة، ثم يسهب في موضوع وحدة الأراضي المغربية، في إشارة لأهمية الاعتراف بالصحراء الغربية على أنها صحراء مغربية.
– الأرض السورية المحتلة لا تقتصر على هضبة الجولان، التي احتلتها إسرائيل عام 1967 وضمتها رسميا عام 1981، واعترف بها الرئيس الأمريكي في مارس 2019، بطريقة رعناء بأنها أرض إسرائيلية. فهناك أراض سورية واقعة تحت الاحتلال الأمريكي، الذي أخلى 16 نقطة من أجل عملية «نبع السلام» التركية، لكنه ما زال يسيطر على مناطق النفط في الحسكة ودير الزور. وهناك مناطق أخرى تحت الاحتلال التركي، من بينها مدن مهمة مثل عفرين وتل أبيض وجرابلس وراس العين وغيرها. وهناك مناطق يسيطر عليها الأكراد، من جماعة قوات سوريا الديمقراطية، التي أنشأتها الولايات المتحدة لمحاربة «داعش» مثل مدن منبج والعريمة، ومناطق أخرى تحت سيطرة وحدات حماية الشعب الكردية، ناهيك من منطقة إدلب التي تسيطر عليها جماعات المعارضة، خاصة جبهة النصرة. أما من الناحية السيادية فسوريا لا تسيطر على القرار السيادي الذي انتقل إلى الاتحاد الروسي، كصانع أساسي للوضع الحالي، إضافة إلى إيران. ولا غرابة في أن المفاوضات السياسية حول كل ما يتعلق بسوريا تدور بين أضلاع المثلث الروسي الإيراني التركي.
– لبنان وضعه يثير الشفقة فعلا، خاصة أنه البلد الذي كان من المفروض أن يكون النموذج الآخر لمنظومة الاستبداد العربي، إلا أنه تحول إلى استبداد طائفي، وكل طائفة مرتبطة بمحور سياسي خارج البلاد. فعدا عن القرى اللبنانية السبع التي اقتطعها الفرنسيون والإنكليز عام 1923 وضموها إلى فلسطين الواقعة تحت الانتداب، وهجّروا أهلها، فما زالت مناطق لبنانية تحت الاحتلال الإسرائيلي الفعلي مثل تلال كفر شوبا وشمال قرية الغجر ومزارع شبعا. أما عن سيادة لبنان فالحديث عنها يوجع القلب، حيث مرت 30 سنة (1976- 2006) لا يعين فيها مسؤول إلا بمرسوم سوري من غازي كنعان. الدول الإقليمية المؤثرة ما زالت تلعب أوراقها في لبنان، لدرجة أغاظت فرنسا، خاصة بعد انفجار الميناء المروع يوم 4 أغسطس، حيث زار الرئيس الفرنسي ماكرون بيروت مرتين، وأمرهم أن يشكلوا وزارة عيية على الفساد.
– دولة الإمارات المتحدة، بدل أن تسعى لتحرير جزرها المحتلة، طنب الصغرى وطنب الكبرى وأبوموسى منذ 1971 على يدي شاه إيران، قررت أن تحتل جزيرة سقطرى اليمنية، وتدخل حلفاءها الجدد من بني صهيون لتراقب مداخل باب المندب. كما قررت أن تبني جيشا من المرتزقة، لتقسم اليمن وتسيطر على جنوبه وتقيم فيها الميليشيات والسجون ومراكز التعذيب. والإمارات التي تحاول أن تلعب دور نمر بجسم قط، تسلم سيادتها الآن طوعا لبني صهيون وتتتخلى عن العروبة وفلسطين والمسجد الأقصى. وللتذكير فقط قامت حليفتها يوم 19 يناير 2010 بإرسال 31 عميلا إلى قلب مدينة دبي بجوازات أوروبية، ودخلوا بكل خفة ومهارة وتوزعوا في عدة فنادق بما فيها فندق البستان- روتانا، الذي كان يقيم فيه محمود المبحوح، أحد قياديي حماس، وهاجمت المجموعة غرفته رقم 230. وبعد تخديره تم صعقه بالكهرباء وخنقه في غرفة نومه. ثم عاد الجميع وخرجوا من البلاد بمهارة الدخول نفسها. مثل هذا الاختراق الأمني الخطير وغير المسبوق، قد يطيح بكل طواقم الأمن والشرطة والمخابرات بكل فروعها ورؤسائها ووزرائها، في أي دولة تحترم نفسها وسيادتها.
– السودان الذي يحاول أن يتخطى سنوات المخلوع عمر البشير الثقيلة والطويلة، إلا أن الأمر ليس بتلك السهولة. فقد سلم البشير منابع النفط لجنوب السودان، من أجل أن يعاد تأهيله أمريكيا، ويحذف من قوائم الإرهاب. مدينة أبيي الغنية بالنفط ما زالت غير خاضعة للسيادة السودانية. جنوب السودان حصل على نصيب الأسد من حقول النفط، حتى أبيي لم يستطع البشير أن يحتفظ بها. وبدل أن يركز نظام حمدوك-البرهان على حل مشكلة أبيي، راح يتوعد باستعادة منطقة حلايب من مصر، ويتجه للجلوس في حضن إسرائيل بناء على ضغوط وإغراءات دولة الإمارات، الوكيل الحصري للوبيات الصهيونية في العالم العربي. ويجب أن أذكر الثنائي الحاكم أن إسرائيل صفعت السودان مرارا خلال حكم البشير. ففي يوم 24 أكتوبر 2012 قامت أربع طائرات إسرائيلية بقصف مصنع «اليرموك» للذخيرة جنوب مدينة الخرطوم. وفي يناير عام 2009 هاجمت إسرائيل قافلة عسكرية قرب بور سودان محملة بالذخائر، قيل إنها متجهة إلى غزة لإيصال مساعدات عسكرية لحركة حماس، أدت إلى استشهاد أكثر من 40 شخصا. ويبدو أن الطبقة الحاكمة الآن سلمت سيادتها لمحمد بن زايد لعله الجسر الوحيد الذي يضمن العبور من خلاله إلى قلب واشنطن عبورا بتل أبيب.
– أما مصر فلا أريد أن أنكأ جراح سيناء الناقصة السيادة منذ كامب ديفيد. ولكني أذكر أن الخطر على مصر ليس من تركيا، كما يحلو لبوق النظام أحمد أبو الغيط أن يصرح، بل من إثيوبيا التي ستحول 68 من الأرض الزراعية المصرية إلى أرض يباب، بعد اكتمال تعبئة بحيرة سد النهضة التي تعادل عشرة أضعاف بحيرة ناصر الرافدة للسد العالي. أما عن سيادة مصر فتخضع الآن لتجاذبات إسرائيلية إماراتية. وليس أبلغ من هذا الالتحاق بسياسة الإمارات من فشل جامعة أبو الغيط في إصدار بيان يرفض التطبيع ويدينه. وسأذكر مثلين إضافيين، فعند وفاة الرئيس حسني مبارك صدر بيان عادي جدا حول الوفاة، إلى أن رن هاتف عبد الفتاح السيسي وكان المتصل محمد بن زايد. تغير الموقف بعد الهاتف، فأقيمت له جنازة عسكرية حضرها الرئيس عبد الفتاح السيسي بنفسه على رأس مسؤولي الدولة، وتم إعلان الحداد لمدة 3 أيام في البلاد. كما ألغت الإمارات مؤتمرا في القاهرة للمعارضة الوطنية اليمنية في الجنوب الداعمة للشرعية في مارس 2019 في اللحظة الأخيرة، بعد وصول المدعوين كافة، بعد أن رن هاتف السيسي. هذا هو وضع «أم الدنيا» الخاضعة للرز الإماراتي.
ولا أعتقد أننا بحاجة للحديث عن أوضاع العراق وسيادته الموزعة بين الولايات المتحدة وإيران، أو اليمن والحروب بالوكالة، أو ليبيا والمناطحة بين الإمارات وروسيا وفرنسامن جهة وتركيا من جهة أخرى.
هناك بلَدان فقط يمكننا أن نغض الطرف عن كثير من مثالبهما، ونقول إن تونس تحاول أن تصبح سيدة قرارها بصعوبة بالغة. فالرئيس قيس سعيد تتجاذبه تيارات عديدة وتهديدات منوعة، فقد ضحى بسفيرين في الأمم المتحدة، لأسباب تتعلق بموضوع غضب بعض الحلفاء، أو رضى أطراف أخرى. والأموال التي تصب في البلاد، خاصة من الإمارات تكاد تطيح بالتجربة الديمقراطية الوحيدة. أما البلد الأخير الذي يتمتع بشيء من السيادة المستقرة فهو الجزائر. لكن ساسة الجزائر الذين يواجهون تحديات داخلية، آثروا أن ينسحبوا من ميدان مواجهة مشاكل العالم العربي، ويختبئوا في الظل إلى أن يتم ترتيب الوضع الداخلي في ظل الحراك الجماهيري.
في ظل هذا الوضع ليس أمام الفلسطينيين إلا العودة إلى الذات والارتباط بالجماهير العربية التي أهملوها كثيرا، مفضلين العلاقة مع مثل هذا النظام العربي البائس الذي يفتقد للسيادة الحقيقية في المعنى والمبنى.
القدس العربي