لم أعرف دمشق من النظرة الأولى التي شاهدتها فيها، بعد غياب 13 عاماً، كان قلبي خلالها يرنو إليها يومياً، إذ لم أفقد إيماني بإمكانية العودة إليها، كنت دائماً أقول، أو أعزي نفسي، بأنه ربما تأتي لحظات تختصر الزمن، وإن لكل شيء نهاية، ولا شيء للأبد، وهذا ما حصل، بفرار الطاغية، بطريقة خسيسة، واستعادة السوريين أنفاسهم، وأصواتهم، وصورتهم، على رغم كل ما مرّ بهم. 

هكذا بدت لي دمشق التي شاهدتها في النظرة الأولى، في البشر والأماكن والفضاء العام، مختلفة، إذ بدت متعبة ومختنقة ومتّسخة وشائخة ومهترئة وكئيبة، كأنها تنوء تحت حمل إرث ثقيل الوطأة لـ 55 سنة من القهر والحرمان والاستنزاف، ضمنها تركة 14 سنة حرب إبادة، بكل معنى الكلمة، شنّها رئيس وضيع، بالغ الرثاثة، والبله، على شعبه، أدت إلى خراب عمرانه، وتدمير اقتصاده، وتقويض بناه التحتية، ونهب موارده، وفوق ذلك كله تشريد نصف هذا الشعب، في أنحاء الدنيا.

كانت مشاهدة مدينة دمشق، بالنسبة إلي، بمثابة صدمة، كفرح بطعم الحزن، وحماس بطعم الإحباط، وتفاؤل بطعم التردد، وبدت لي دمشق كمدينة خارجة من حرب مدمرة، كأن حرباً عالمية مرت من هنا، وهو ما تلمسه من وجوه الناس، ونظراتهم المؤسية، وطريقة حركتهم المستعجلة، ومن زحمة السيارات والبشر والبسطات والموتوسيكلات والصرافين والمطاعم والباحثين عن عمل أو عن لقمة خبز.

كان ثمة شيء في عيون الناس، وأحاديثهم، يوحي بأن ما حصل هو أمر غريب، ومدهش، ولا يصدق، فثمة أجيال عاشت في زمن نظام الأسد، ولا تعرف غيره، إلا أن سوريا نفضت عنها هذا الزمن فجأة، وبسرعة، وبأقل أثمان ممكنة، وذلك كله كان من المستحيل تصديقه، أو حتى تخيله، لا في اليقظة ولا في أحلام المنام.

منذ لحظة دخولي سوريا، في الطريق إلى الشام، عرفت أن سوريا خلعت، أو مزقت،  ثوبها القديم، الذي علق بها، أو حبسها، لعقود، إذ لم تعد تماثيل وصورة الطاغية الأب أو الابن موجودة، وهي كانت تحتل الفضاء العام للسوريين، كمخبر يتلصص على همساتهم وسكناتهم وأنفاسهم في الحدود والشوارع والأسواق والساحات والمدارس والمؤسسات والمحلات، إلا كقمامة تملأ الشوارع، فقد ذهب زمن الأسد إلى الأبد، مع ذلك فإن الغصّة تبقى في أن الرئيس الفار ذهب، بعدما حرق ودمر ونهب البلد وشرّد شعبه.

وصلت إلى بيتي في دمشق غير مصدق، على رغم أنني كنت مرنت نفسي على احتمال هذه اللحظة، وكان ذلك الاحتمال المستحيل يبدو كمغامرة، وأمراً غير صحي، لا ينبغي التعلق به، بحسب أصدقاء كثر.

 ظللت في البيت أياماً عدة، لا أخرج منه، كأنني أريد أن أصدق أنني بت حقاً في بيتي في دمشق، كنت أتأمل كل ركن وزاوية في البيت، كي أستعيد تفاصيل الحياة التي كانت لي، ولعائلتي، قبل 13 سنة، وكدت أنساها مع الزمن، ساعدني ألبوم لأفراد العائلة على استعادة بعض الذكريات. لم أكتفِ بذلك، إذ ذهبت إلى خزانة الثياب، كي أتذكر كل واحد من أولادي، في طفولتهم، وقد أضحوا شباباً الآن، مع حياة أخرى في بلاد الله الواسعة. تفحصت مكتبتي لأتذكر كل كتاب، متى اشتريته ومتى قرأته، وماذا استفدت منه، وضمن ذلك استرجاع ملامح الشخص الذي كنته، والحياة التي عشتها، والظروف التي اختبرتها واختبرتني.

البيت في ذلك كله ليس مجرد مكان، إنه تاريخ متكامل، كل حائط عليه لوحة، أو ذكرى، كل باب أو نافذة، كل مقعد أو كرسي، كل وسادة، في كل واحد مما ذكرت بعض من الحكايات والأحاسيس التي تعيد صياغة الماضي، أو الحياة التي كانت، والتي حرمت، كما ملايين السوريين والفلسطينيين السوريين، منها.

بعدما استعدت أنفاسي، خرجت إلى مخيم اليرموك، حيث ولد أبنائي الأربعة، لينا وسلام ونوار وعبد الرحمن، وتعلموا في مدارسها الابتدائية والإعدادية، وحيث بيت أهلي وأخوتي، فلم أجد المخيم، ولا مدارس، ولا بيوت، ولا محلات أو دكاكين، ولا شوارع ولا حتى حياة، إذ كان المخيم مجرد خرابة، بكل معنى الكلمة، كما كثير من مناطق المدن السورية، في دمشق وحلب وحمص، كأن عاصفة متفجرة مرت به، فهذه نكبة بحالها.

كانت ثمة بنايات طُحنت، لأخذ الحديد منها، بعدما سُحبت أنابيب المياه، وأسلاك الكهرباء، وخُلعت الأبواب والشبابيك، إضافة إلى العفش طبعاً، ممن يسمى عن حق جيش “التعفيش”، الذي تسمع روايات غريبة عنه، إذ تأسس على شراكات ضباط، كل واحد منهم يختص، أو يحتكر، تعفيش سلعة أو مادة معينة في هذه المنطقة أو تلك.

باختصار، المخيم لم يعد موجوداً، لكن بعض الفلسطينيين رجعوا للسكن فيه، على رغم ظروفه تلك، لتدبر حياتهم بعيداً من بيت بالإيجار لا يستطيعون تحمّله، وهو كان المكان الأكثر حيوية في دمشق، من كل النواحي كمكان للتلاقي والأنشطة، نسبة الى خصوصيته الفلسطينية، كما كان من أهم المناطق التجارية في العاصمة دمشق. 

الأهم من ذلك هو ضياع، وغياب، مجتمع الفلسطينيين في المخيم، فمنهم من غادر إلى المنافي، ومنهم من نزح إلى مناطق أخرى في دمشق أو غيرها من المدن السورية. وفي ذلك كله، آلمني شعور الفقد، فقد المكان المتمثل بالمخيم، وفقد الأصدقاء الذين كانوا.

هكذا، فإن دمشق التي كانت في خاطري، كمدينة متخيلة، ظللت أحلم بها طوال 13 عاماً، لم أجدها، إذ بدت لي كمدينة ضائعة وحائرة ومستنزفة، في ظل خراب العمران، واهتلاك البني التحتية، واهتراء الشوارع، وافتقاد ساعة أخرى من الكهرباء، وغلاء الأسعار.

من جانب أخر، ومع كل ما تقدم، فقد لمست أن كثراً من السوريين، يميلون إلى التعبير عن نوع من الارتياح، إذ تمت إزاحة الصخرة الثقيلة التي جثمت على صدورهم لـ 55 عاماً، وبأقل أثمان ممكنة، وبالطبع فهو ارتياح مشوب بنوع من التساؤل عن المستقبل، وعن الاتجاه الذي ستذهب إليه سوريا مع العهد الجديد.

هنا يطيب لي التصريح بأنني كنت طوال تلك السنوات أحتفظ بمفتاح بيتي (كعادة فلسطينية) في شنطة السفر، لعله يحصل الأمر فجأة، ما يتطلب أن يكون المفتاح في جيبي في أي مكان أكون فيه، وإنني كنت دائماً أقول إن هذه الأعوام الثمانية أو العشرة أو الـ 13 ليست محسوبة من عمري، وإنني طوال غربتي في أماكن متعددة لم أشعر بالاستقرار يوما.

في يوم عودتي، أتذكر الأعزاء ميشيل كيلو وعلي الشهابي وسلامة كيلة ورزان زيتونة ويوسف سلامة وسميرة الخليل وحسين العودات وريم البنا ومنصور الأتاسي وعماد رشدان وأيمن ابو جبل، وشهداء مخيم اليرموك ومنهم: أحمد الكوسى وفياض الشهابي وغسان الشهابي وجعفر محمد وخالد البكراوي ومهند عمر وموعد الموعد ومحمد طيروية وأخي صالح كيالي… وكل شهداء فلسطين وسوريا، مع التقدير والعرفان لكل الذين عانوا في سجون الطاغية من أجل حرية  شعبهم وكرامته.

تلك انطباعات أولية سريعة من عائد إلى دمشق بانتظار عائد إلى حيفا.

عن درج ميديا

About The Author

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *