ظواهر فلسطينية جديدة ولافتة

لم يعد مناسباً، أو مجدياً، نقاش وضع الفلسطينيين، وبخاصة حال حركتهم الوطنية، أو كياناتهم السياسية، كما كان في السابق، إذ جرت تحولات كبيرة وعميقة ونوعية، في مجتمعاتهم، في كل أماكن تواجدهم، كما أن وضع قضيتهم تراجع في الأجندات العربية والدولية. أما حركتهم الوطنية فلم تعد هي ذاتها، ولا في المكانة ذاتها بإزاء شعبها، وحتى إسرائيل فقد أضحت أكثر قوة من ذي قبل، لا سيما مع تحول في معسكر الأصدقاء التقليديين للفلسطينيين لصالحها، وهذا يشمل روسيا والصين والهند، التي بات لها معهم علاقات وطيدة ومتميزة.
على صعيد إدراكات الفلسطينيين لذاتهم كشعب، يمكننا ملاحظة صعود الحاجات والأولويات المحلية، على حساب المشترك العام، بين الفلسطينيين كشعب، وكأننا بتنا بإزاء “شعوب” فلسطينية متعددة، حيث ثمة فلسطينيو 48، وفلسطينيو غزة، وفلسطينيو الضفة، وفلسطينيو القدس، وفلسطينيو الأردن، وفلسطينيو لبنان، وفلسطينيو سوريا، والفلسطينيون في بلدان اللجوء والشتات الأخرى. ثمة من قد يجادل بأن ذلك أمرا قديما، لكن الفارق أن هذا الأمر بات له 72 سنة، وتلك فترة طويلة بمعنى نشأت فيها أجيال عدة، مع ما يترتب على كل ذلك من اختلاف في المفاهيم والأولويات، لكن ما رسخ، أو فاقم من ذلك، هو تراجع الإجماع الوطني، وتهميش الإطار الوطني، فنحن بإزاء حركة وطنية أضحت متقادمة أيضا، إذ بات عمرها 55 عاما، من دون أن تحقق إنجازات ملموسة تجاه إسرائيل، إلى الدرجة التي تتناسب مع التضحيات التي قدمت. وطبعا يأتي ضمن ذلك واقع أفول، أو تهميش، منظمة التحرير التي يفترض أنها الكيان السياسي الجامع للفلسطينيين، كما أن ذلك ناجم عن تحول الحركة الوطنية الفلسطينية من حركة تحرر وطني إلى سلطة تحت الاحتلال، لجزء من شعب في جزء من أرض مع جزء من حقوق، يضاف إلى ذلك اختفاء مجتمعات اللاجئين، في لبنان وسوريا والعراق، بحكم الاضطرابات والتحولات السياسية في تلك البلدان، لا سيما مع إخراجهم من المعادلات الفلسطينية بعد إقامة السلطة.
في غضون ذلك، أيضا، فإن انكسار التضامن العربي، بخاصة منذ احتلال العراق للكويت (1990)، ونشوء محاور عربية وإقليمية، وظهور تحديات إقليمية جديدة، سيما مع صعود نفوذ إيران في دول المشرق العربي (من العراق إلى لبنان مرورا بسوريا)، منذ عقدين، وبعده صعود الدور التركي في السنوات الماضية، كل تلك الأوضاع، أدت إلى نشوء مخاطر وتحديات جديدة صرفت، أو بررت انصراف، العالم العربي، بأنظمته، وحتى بمجتمعاته، عن اعتبار قضية فلسطين ضمن أعلى أولوياته، ولو حتى من الناحية النظرية، لأنها لم تكن كذلك، أصلا، من الناحية العملية ولا في أي مرحلة مضت، إذا استثنينا حالات توظيف أو استخدام تلك القضية.
على الصعيد الكياني، وعدا عن تهميش منظمة التحرير لصالح كيان السلطة، الناشئ في الضفة وغزة، فإن واقع الفصائل الفلسطينية يدعو للرثاء، فمعظم تلك الكيانات أضحت تعيش على تاريخها، أو على نظام المحاصصة الفصائلي (“الكوتا”) أو على الخلاف بين فتح وحماس، أو على الدعم الذي تحظى به من هذا النظام العربي أو ذاك، أي إنها لا تعيش على تميزها السياسي أو الفكري، أو على دورها في مصارعة إسرائيل. وعمليا فثمة في الساحة الفلسطينية أكثر من 25 فصيلا أو حزبا أو حركة، لكن ثمة فصيلان كبيران مقرران ومهيمنان، هما: فتح، وهي السلطة في الضفة، وحماس وهي السلطة في غزة، وثمة 18 فصيلا، ضمنهم الجبهة الشعبة التي حصلت على ثلاثة مقاعد في الانتخابات التشريعية الثانية (2006)، في حين أن ثلاثة كيانات حصلت على مقعدين فقط، هي الجبهة الديموقراطية وحزبا الشعب وفدا؛ وطبعا ثمة ست كيانات لفلسطينيي 48. أي أنه إذا استثنينا فتح وحماس، وربما الجبهة الشعبية، والجبهة الديموقراطية للسلام والمساواة والتجمع العربي الديموقراطي (في مناطق 48) لاستنتجنا أن ثمة فراغ سياسي كبير عند الفلسطينيين، مع قوى تفتقد للحراكات السياسية، وللتداول، وللحياة الداخلية الديمقراطية.
هكذا، فبالنظر لكل تلك الأوضاع بتنا نشهد بين فترة وأخرى ظهور مبادرات شعبية، في مختلف التجمعات الفلسطينية، مثل الحراكات الشبابية، وحركات العودة، ومؤتمرات فلسطينيي الخارج، ومؤتمرات الجاليات الفلسطينية في بلدان الشتات الأجنبية، وحركة بي دي اس لمقاطعة إسرائيل وفرض العقوبات عليها، والحملة الدولية من أجل الدولة الواحدة، والمبادرات المطالبة بإجراء انتخابات للمجلس الوطني لإعادة بناء منظمة التحرير، كما ثمة الملتقى الفلسطيني الذي يضم، في ظاهرة هي الأولى من نوعها، فلسطينيين من كل أماكن وجود الفلسطينيين وضمنهم فلسطينيي 48، ويسعى لاستقطاب شخصيات مؤثرة من مثقفين وكتاب وأكاديميين وفنانين، لصوغ رأي عام فلسطيني، والضغط على الطبقة السياسية المهيمنة، انطلاقا من وحدة الشعب والأرض والقضية، وترجمة ذلك على صعيدين: في صوغ رؤية وطنية جامعة، وفي بناء كيان سياسي جامع (منظمة التحرير).
مشكلة معظم تلك المبادرات والتشكيلات أنها تشتغل في واقع صعب ومعقد، وإنها متفرقة، وإنها تشتغل على مسائل جزئية، وهو ما يحاول ملتقى فلسطين تجاوزه، علما أن الأمر يحتاج إلى جهود مثابرة، وقوية، بالنظر لغياب إقليم موحد للفلسطينيين، وبالنظر لتوزعهم على بلدان عديدة، وخضوعهم لأنظمة سياسية مختلفة ومتباينة.
الأمر الأكيد أن ثمة ظواهر فلسطينية جديدة، تبشر بأن الأجيال الفلسطينية الشابة تحاول أن تبحث لها عن مكان تحت الشمس، وأن البني القديمة لم تعد تجاوب على الأسئلة لا القديمة ولا الجديدة، للقضية الفلسطينية، بيد أن الأمر الأكيد الأخر، يفيد بأن القديم لازال يصارع من اجل البقاء، لمجرد البقاء، وأنه أضحى يشكل قيدا على الجديد، وكابحاً له.
*”النهار العربي”، 31/10/2020

About The Author

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *