

في مثل هذا اليوم (23 أيار) وفي صباح كهذا الصباح، قبل اثنين وعشرين عاماً كنّا لا نتكلّم، وندخن في الشرفة بلا انقطاع تقريباً، في بيت إبراهيم أبو لغد في رام الله. كان صاحبنا على سريره غارقاً في غيبوبة لم يفق منها، وكنّا في وداعه، ومعه، في لحظته الأخيرة.
عندما وصل إدوارد سعيد، بعد ظهيرة ذلك اليوم، قرأ فاجعة الرحيل على وجوهنا، كنّا عاجزين عن الكلام، بل وحتى مغادرة المكان، وكان جسد إبراهيم في الطريق إلى مستشفى المقاصد في القدس، ومنها، بعد تفاصيل تصلح لرواية بوليسية، إلى يافا حيث اختار مرقده الأخير إلى جوار أبيه المدفون هناك قبل العام 1948.
لذكرى إبراهيم، أحد أنبل وأفضل من أنجبت هذه البلاد، محبّة وتحية. كُتب هذا النص بعيد رحيله.
ظل بعد الغياب
عاد إبراهيم أبو لغد، أخيرا، إلى يافا. مارس حق العودة إلى مسقط رأسه بفضل براعة الموت في تحويل الجسد إلى كينونة لا تنذر بالخطر، وكفاءة جواز السفر الأميركي في تمكين حامليه من عبور حدود وقوميات يرابط حولها دم عتيق.
أدرك النهاية، فوضع سيناريو الخاتمة، وأسدل ستارة المشهد الأخير بفعل من أفعال الإرادة. قاوم قشة للأمل تلوّح بها إمكانية العلاج في الولايات المتحدة، واخترع من الذرائع ما يكفي لإقناع سامعيه بجدوى البقاء في رام الله.
تذّرع بمشقة السفر بالطائرة، بصعوبة الصعود إلى شقة تسكنها ابنته في نيويورك، وحقيقة أن العلاج، هناك، لن يختلف عن العلاج هنا.
كانت تلك الذرائع قشرة خارجية لحقيقة يصعب صياغتها بطريقة عقلانية، بقدر ما يصعب الكلام عنها، حقيقة أن إبراهيم أبو لغد اختار مكان موته. أراد لفلسطين التي شهدت دفقة الهواء الأولى في رئتيه، أن تشهد انطفاء النفس الأخير. وكان له ما أراد.
البلاد أعطت والبلاد أخذت. مبارك اسمها إلى أبد الدهر.
لن نفهم دوافع البحث عما يُغلق دائرة العمر في مكانها الأوّل، ما لم نتأمل تجربة ذلك الجيل من الفلسطينيين، الذين شهدوا النكبة أطفالا، وفرّقتهم المنافي أيدي سبأ. كان الأوفر حظا منهم من تمكّن من الوصول إلى الغرب، والحصول على مؤهلات أكاديمية تمنح المهزومين قدرا من الجدارة الشخصية، وتساعدهم على الانخراط في ديناميات الحراك الاجتماعي، وثقافة البلد المضيف. وقد أنفقوا العقود الأولى في محاولة تحسين شروط العيش في المنفى، وربما تناسي الماضي، الذي أرادوا له أن يكون بعيدا، ليصبح البلد/الوطن الجديد أقرب.
نحن لا نعرف عددهم، ولا نعرف التفاصيل الصغيرة والدقيقة لحلو الحياة اليومية ومرها، أو درجة التناقض بين طموح مشروع في حياة آمنة، وذاكرة تنصب الحواجز الطيّارة في مدن بعيدة، ولغات غريبة لتعيد الهارب من شرطه الإنساني الضيّق إلى رشده.
ولا نعرف، أيضا، معنى ذلك الرشد، لكن الوجوه والأسماء المألوفة، التي بدأت منذ أواخر الستينيات رحلة البحث عن معنى وجدوى مكانها الأوّل، تمكننا من استكشاف الدلالة الأخلاقية لمعنى الانتماء كفعل حر من أفعال الإرادة، وكتعبير عن ديناميات نفسية وعاطفية يصعب تفسيرها بطريقة عقلانية تماما.
كان إبراهيم أبو لغد أحد الباحثين في الشرط الإنساني الضيق عما يمنح الشخصي والذاتي رحابة التجربة الوجودية الواسعة. وقد أخذته تلك العصامية الأخلاقية النادرة إلى بحث دائم عن استنفاذ ما تنطوي عليه الرموز من دلالات محتملة. عاد مع سبق الإصرار والترصد منذ أوائل التسعينيات، وسعى للحصول على الجواز الفلسطيني، الذي لا يمكنه من دخول الغالبية العظمى من بلدان المعمورة دون تأشيرة، رغم أن جوازه الأميركي يمكنه من الوصول إلى الغالبية العظمى من بلدان المعمورة دون تأشيرة.
تحوّلت تلك المفارقة إلى نوع من الكوميديا السوداء، فبعد حصوله على الرقم الوطني أصبح الوصول من رام الله إلى غزة محفوفا بالمصاعب، لأن الجواز الأميركي يمكنه من الوصول إليها، بينما يحوّله الرقم الوطني إلى هدف لسادية الاحتلال.
السادية نفسها التي أرغمت إبراهيم ومحبيه على شق طرق التفافية في القانون الإسرائيلي لتمكين جسد الميت من الوصول إلى أرض ميعاده. فعندما أدرك اقتراب النهاية كشف أوراقه كلها، وسر قدومه قبل عقد من الزمن، طلب من أفراد عائلته ومن محبيه أن يدفنوه في يافا. وقد استدعى الأمر استشارات قانونية واحتياطات تضفي على فعل الدفن ـ الذي يمارسه الناس في أربعة أركان الكون، بطريقة رتيبة وتفاصيل صريحة ـ شبهة المؤامرة.
أفادت الاستشارة القانونية أن تأشيرة الدخول السياحية على جواز إبراهيم أبو لغد، الأميركي، تمنح السائح حق الدفن في يافا. ورغم ذلك، حاول الإسرائيليون سد المنافذ القانونية، فحققوا مع إدارة مستشفى المقاصد في القدس، وافتعلوا أكثر من ذريعة، ثم رضخوا بعدما هددت عائلة أبو لغد باللجوء إلى القضاء.
لا شك أن حربا صغيرة كهذه ترضيه، وتمنح طقس النهاية أكثر مما أراد له من الرموز. ورغم ذلك، لم تكن المسألة مجرد ترميز للواقع، فقط، بل كان فيها ذلك البعد الشهواني العنيد. قضى إبراهيم أبو لغد الأشهر الأخيرة من حياته معلقا من أنفه بأنبوب يضخ الأكسجين النقي إلى رئتيه التالفتين، وعند خروجه من البيت كان لا يستطيع الاستغناء عن جهاز صغير لضخ الأكسجين، لكنه نحى الجهاز، جانبا، في زيارته الأخيرة، حياً، إلى يافا.
يروى فؤاد مغربي ـ العائد إلى بلاده كما عاد إبراهيم ـ كيف نـزع الجهاز الصغير من أنفه، وشرع في استنشاق الهواء بمجرد خروجهما من رام الله في الطريق إلى يافا، ورغم ما في هواء المدينة البحرية من رطوبة لا تميز بين رئة الباحث فيها عن إكسير لحياته، وعابر السبيل، إلا أن إبراهيم استغنى في أرض ميعاده عن الهوّاء المعلّب.
يصعب حصر أو فهم الأشياء التي استغنى عنها في حياته مقابل أشياء أخرى. ولكن من المؤكد أن نـزعته العقلانية، وميله إلى المعرفة، سمات صاحبته طوال حياته. وحتى في أيامه الأخيرة، عندما أسفرت الخاتمة عن نفسها كخلاصة موضوعية باردة، لم تذبل في روحه رغبة المعرفة والجدل. يتكلم كما يليق بأستاذ جامعي أنفق عمره في التعليم، يطرح أسئلة تتكون من طبقات، يضمّن الأسئلة فرضيات وفرضيات مضادة، ثم يصوغ القالب العام في إطار نظري يبرهن على تماسك المنهج وحضوره من ناحية، ويمكن محاوره من رفاهية العثور في الطبقات المختلفة للأسئلة على لذة المعرفة الخالصة.
قبل وفاته بأيام قليلة طرح على محمود درويش سؤالا عن آلية صنع القرار، في السياسة الفلسطينية، وقد استطرد في صياغة السؤال بطريقة لا تبرر الإعجاب بصفاء ذهن رجل يحتضر وحسب، بل تدل على مدى ما يعلّقه من أهمية على معرفة قد تتوفر في اللحظة الأخيرة من العمر، أيضا. وبعد أيام قليلة سيكون محمود درويش، الذي واظب على زيارته في الفترة الأخيرة بطريقة منتظمة، بين آخرين يجلسون على بعد أمتار قليلة من إبراهيم أبو لغد، الغارق في غيبوبته، لتقديم واجب الوداع الأخير.
ثمة رجل أفلتت منه اللحظة الأخيرة بفارق ساعتين فقط. مات إبراهيم أبو لغد في الواحدة إلا ربعا، ووصل إدوارد سعيد في الثالثة من مساء اليوم نفسه. كانت زيارة إدوارد سعيد مصدر حيوية وفرح في أيام إبراهيم أبو لغد الأخيرة. ولم يكف عن التخطيط لكيفية استقبال صديق عمره، لكن الغيبوبة عرقلت مشروعه الأخير.
في الصالة الواسعة، التي شهدت في السنوات الماضية الحضور العذب لصاحبها، جلس محبوه وأصحابه في شقة امتلأت بالحاضرين، وغاب عنها صاحبها.
على الجدار صورة امرأة فلسطينية تضع غطاء ابيض اللون على رأسها، وتبتسم أمام الكاميرا، بطريقة لا تفعلها سوى أمهات يعرفن أن الصورة ستكون من نصيب الابن. تطل المرأة من موقعها على الجدار على غياب ابنها، ولا تكف عن الابتسام للحاضرين.
وعلى الجدار المقابل صورة كبيرة الحجم بالأبيض والأسود، لمدينة ذات بيوت معلّقة على هضبة تشرف على بحر، وفي ركنها الأيمن عبارة باللغة العربية نصها: مدينة يافا عام 1936.
كان إبراهيم في السابعة من العمر، عندما قبض مصوّر ما على مشهد المدينة البحرية، وأسكنه في صورة بالأبيض والأسود.
لن نعرف كيف سكنت يافا في مخيلته، فكل ما نعرفه الآن أن صاحب الصورة عاد إلى تلك الهضبة المعلقة على مشهد بحر كبير.
البلاد أعطت والبلاد أخذت، مبارك اسمها إلى أبد الدهر.
(في الصورة إدوارد سعيد مع إبراهيم أبو لغد)