“طنطورة” الوثائقي ومجازر أخرى بلسانٍ إسرائيلية
لا يُخفى على أحد أن عملية التطهير العرقي التي حصلت في فلسطين عام 1948 بأيدي الحركة الصهيونيّة والتي أدّت لأن يخسر الشعب الفلسطيني وطنه حتّى يومنا هذا، شملت مجازر عديدة في القرى والمدن الفلسطينيّة لترهيب السّكان للنزوح. عرفنا عن هذه المجازر من خلال الذاكرة الشفويّة الفلسطينيّة التي تحدث بها من شهد على تلك المجازر ونجا منها، إن كان في المخيمات أو داخل الوطن. كما وثّقت الأمم المتحدة بعضها (مجزرة عيلبون مثلًا) ولاحقًا عملت مؤسسات فلسطينيّة وغيرها على توثيق هذه المجازر التي تعمل دولة إسرائيل على اخفائها والتنصل من المسؤولية التاريخيّة تجاهها.
لكن ما لم تتوقعه إسرائيل هو خروج أصوات من داخل مجتمعها تتحدث عن تلك المجازر وتسعى للكشف عنها بعد أكثر من سبعين عامًا. هذا ما يكشفه لنا الفيلم الوثائقي الإسرائيلي “طنطورة” (2022) الذي يحكي عن المجزرة التي حصلت في القرية الساحليّة الطنطورة بتاريخ 23 نيسان/ أبريل 1948 على أيدي قوات لواء ألكسندروني الصهيوني بعد احتلال القرية واستسلام أهلها.
يتتبع مخرج الفيلم ألون شفارتس قصّة الناشط الإسرائيلي تيدي كاتس الذي قدّم رسالة ماجستير حول مجزرة الطنطورة في جامعة حيفا عام 1988 وحصل على تفوّق، حيث جمع مئات الشهادات الصوتيّة المسجلة من المقاتلين في لواء ألكسندروني بالإضافة لفلسطينيين مهجّرين من الطنطورة يقطنون اليوم في قرية الفريديس المحاذية. إلا أن تفوّق كاتس الأكاديمي سرعان ما سيتحول إلى كابوس يلاحقه بعد أن خرج الموضوع للإعلام الإسرائيلي وقيام أفراد من لواء ألكسندروني برفع دعوى قضائية ضده بتهمة التشهير ونشر معلومات كاذبة، رافق كل ذلك حملات تحريض وترهيب ضد كاتس على أكثر من صعيد وصلت لأن تتراجع جامعة حيفا عن قبول رسالة الماجستير هذه والتنصل منها، الأمر الذي دفع كاتس حينها للاعتذار تحت الضغوطات التي واجهها “من دولة كاملة” كما يقول في الفيلم ليصرّح مكرهًا أن المعلومات التي نشرها عن مجزرة الطنطورة غير صحيحة.
يندم كاتس لسنوات طويلة على تراجعه عمّا نشره معتبرًا هذا التراجع “أكبر خطأ في حياتي لا أسامح نفسي عليه” كما صرّح مؤخرًا في عرض للفيلم في مهرجان المثلث للأفلام بمدينة الطيبة، فيقرر العودة لفتح قضيّة المجزرة من خلال فيلم شفارتس الوثائقي الذي سلّمه أشرطة مقابلات رسالة الماجستير التي تحدث مقاتلو ألكسندروني فيها عن المجزرة التي طالت قرابة 300 شخص أعزل.
مشاهدة الفيلم ليست بالسهلة لما تتضمنه الشهادات من قصص قتل واغتصاب ونهب من على لسان مرتكبيها، ما زال بعضهم حيًا حتّى اليوم يظهرون في الفيلم لينكروا المجزرة أو ليتفاخر بعضهم بمهمة قتل العرب التي كان يتولّاها. يكشف الفيلم كيف عملت إسرائيل بكافة أذرعها لإسكات كاتس وطمس قصّة المجزرة واخفائها عن الجمهور. ولعل هذا الفيلم صفعة أمام هذه المحاولات ولجيل إسرائيلي كامل علم عمّا جرى عام 48 وعاش في حالة إنكارٍ دائمة، ودعوة للأجيال الإسرائيليّة الحاليّة للاستيقاظ من حالة تجاهل النكبة والاعتراف بالمسؤولية والسماح بإحياء وتخليد الذكرى.
تكمن أهمية الفيلم في أنّه يخرج من داخل المجتمع الإسرائيلي نفسه، وإن كان مخرجه محسوب على اليسار الإسرائيلي المؤمن بحل الدولتين وتحقيق العودة إلى أراضي عام 1967، فآراؤه السياسيّة ونقاشها لا تعنينا كثيرًا بقدر ما يعنينا هذا العمل المهني والجريء الذي وصلت به الجرأة في تشبيه ممارسات حصلت عام 1948 بحق الفلسطينيين بتلك التي حصلت بحق اليهود في ألمانيا النازيّة، وهذا من المحرّمات الإسرائيليّة، ليكون شهادة جديدة ضد جرائم إسرائيل ومن داخلها تُوضع أمام المشاهد الإسرائيلي الذي يزور الطنطورة في أيّامنا للاستجمام حيث المقبرة الجماعيّة تقع تحت مصف السيارات كما يُظهر الفيلم.
يؤخذ على الفيلم تجاهله للروايات الفلسطينيّة التي تحدثت عن المجزرة قبل مجهود تيدي كاتس بالإضافة لتجاهله مناسبات إحياء ذكرى النكبة في قرية الطنطورة سنويًا، وعدم ظهور مشاهد الأعلام الفلسطينيّة في الطنطورة عند الحديث عن إحياء الذكرى وتخليدها، ويبدو أن خيار المخرج في ذلك سياسي كي لا “يستفز” مخيلة جمهور الهدف في الفيلم وهو الجمهور الإسرائيلي أكثر مما هي مستفزة التي دفعت البعض للخروج من قاعات العروض والتحريض ضده، لما تحمله الأعلام الفلسطينيّة في الطنطورة من دعوة لعودة المهجّرين للقرية الأمر الذي لا يؤيده المخرج كحل “للصراع” كما قال في الندوة الحواريّة في جمعيّة تشرين الشهر الماضي.
يُذكر أنه كُشف مؤخرًا عن دفن 80 جنديًا من قوات فرقة كوماندوز مصريّة في قبر جماعي في كيبوتس “نحشون” في منطقة دير اللطرون شمالي القدس، استشهدوا خلال معارك حرب حزيران/ يونيو عام 1967، وأقيم على القبر الجماعي كرم أشجار اللوز، ولاحقا، في العام 2000، جرى بناء الموقع السياحي “إسرائيل الصغرى”.
عن ضفة ثالثة