صناعة القرار الفلسطيني بين التكيّف والفردية
خاص ملتقى فلسطي
يشكل القرار السياسي وسيلة القوى السياسية والسلطات السياسية في كل مرحلة تاريخية وفي كل ظرف تاريخي، للوصول إلى أهدافها. وإذا كانت الدول تختلف وتتفاوت قراراتها السياسية حسب الأهداف التي تسعى للحصول عليها وللمتغيرات الاجتماعية التي تسعى إلى استحداثها في هذه المجتمعات، فإن هدف حركات التحرر كان واضحاً وهو الاستقلال، ولم يتغير هذا الهدف رغم تغير أدوات الصراع بين تجربة وأخرى، وقد بقي الهدف ثابتاً طوال صراع حركات التحرر مع الدول المِستعمرة. وكانت وظيفة القرار السياسي للقائمين على هذه الحركات هو إدارة الصراع للحصول على الاستقلال في أقرب وقت ممكن وبأفضل الوسائل، ففي كل هذه التجارب كان الهدف ثابتاً، وكانت الوسائل في كيفية الوصول إليه تختلف، حسب ظرف حركة التحرر هذه أو تلك، دون المس بالهدف الأساسي الثابت، وهو الاستقلال ورحيل الاستعمار.
كان ثبات هدف الاستقلال الوطني، هو السمة التي جمعت كل تجارب حركات التحرر تقريباً، والتي خضعت لاستعمار تقليدي، أو استعمار استيطاني لم يستكمل مشروعه على الأراضي التي استوطنها مثل النموذجين: الأميركي والأسترالي. كما كان للاستعمار الاستيطاني دولة أم يعود إليها المستوطنون الذين يعيشون في هذه البلدان، نموذج الجزائر.
اختلفت التجربة الفلسطينية عن تجارب حركات التحرر الأخرى في ثبات الهدف، رغم طبيعتها كمشكلة تحرر وطني. فطوال التجربة الفلسطينية الحديثة تغير الهدف النهائي عدة مرات، فلم يكن هناك ثبات في الهدف الذي تسعى لتحقيقه، وكان هذا واحد من أعقد المشكلات البنيوية في الساحة الفلسطينية، فقد كان على القرار السياسي الذي يجب أن يخدم ثبات الهدف النهائي في التجارب الأخرى من حركات التحرر، أن يخدم ويبرر تغيرات الهدف الرئيسي في التجربة الفلسطينية.
فتجربة العمل المسلح التي بدأت في الساحة الفلسطينية في العام 1965 كان المطروح عليها تحرير فلسطين الواقعة تحت «الاحتلال الصهيوني» فعند انطلاقة هذا العمل لم تكن قد ولدت بعد مشكلة احتلال العام 1967. فقد كان المطروح على الفصائل الفلسطينية العمل على تحرير فلسطين التي استولت عليها العصابات الصهيونية في العام 1948، أو توريط الدول العربية في حرب مع هذا «الكيان» من أجل تحرير فلسطين، فقد ولدت المشكلة الفلسطينية أصلاً جراء استيلاء العصابات الصهيونية على الأرض الفلسطينية وطرد سكانها، الذين تحولوا إلى لاجئين في الدول العربية المجاورة. إن هذا الهدف من تحرر فلسطين «من النهر إلى البحر» كما كان يُقال هو الهدف الذي طرحته ذات القيادة التي بقيت على رأس منظمة التحرير على رأس الفصائل الفلسطينية لعقود لاحقة على انطلاقة العمل الفلسطيني المسلح الذي تفاوتت انطلاقات فصائله بين منتصف الستينات مع فتح ونهايتها مع الجبهة الديمقراطية.
مع هزيمة 1967 والظروف التي تلت هذه الهزيمة والوقائع الجديدة التي فرضتها على الصراع، كان على القيادة الفلسطينية خلال عقدي السبعينات والثمانينات أن تدير السياسة الفلسطينية والقرار السياسي الفلسطيني من هدف نهائي تمثل في السابق بـ«تحرير كامل التراب الوطني الفلسطيني» إلى «إقامة الدولة الفلسطينية في الضفة والقطاع» من الرفض المطلق في نهاية الستينات للتعامل مع القضية الفلسطينية بوصفها «قضية لاجئين» والرفض المطلق للقرار 242 بوصفة يتعامل مع القضية الفلسطينية على هذا الأساس، إلى اعتباره أساس الحل مع إسرائيل في أية تسوية على الصعيد الفلسطيني. وبناء على هذه التغيرات في الهدف الاستراتيجي كان على القرار السياسي، أن يبحث عن مبررات هذه التحولات من أهداف كانت مرفوضة من قبل ذات القوى وعلى رأسها ذات الأشخاص لتتحول إلى مطالب وأهداف مقبولة، ولتتحول من حلول خيانية واستسلامية وتصفوية إلى حلول وطنية. وأخذ الانتقال من هدف نهائي إلى هدف نهائي آخر يعتبر تحولات في الفكر السياسي الفلسطيني، أو تعبير عن نضوج فلسطيني بالتحول إلى الواقعية والعقلانية.
لم تكن هذه التحولات تفسر سياسياً على قاعدة أنها استمرار للمطالب الفلسطينية السابقة، بقدر ما كانت تفسر كممر إجباري للحركة الفلسطينية لحمايتها من التصفية، وكانت القيادة الفلسطينية تعبر عن ذلك، بأنها هي ذاتها ليس مع هذه التحولات في حقيقة الأمر، ولكن الظروف تجبرها على ذلك. حتى أن هذه التحولات التي اعتبرت تحولات باتجاه الواقعية والعقلانية عند البعض وصنفوها بوصفها تعامل إيجابي مع واقع متغير. تصنيفها لم يتطابق مع تصنيف الأغلبية الفلسطينية في كل أماكن تجمعها والتي اعتبرت طوال الوقت الذي احتاجته هذه المتغيرات أنه تطورات سلبية وليست ايجابية، وكان ينظر إلى هذا التحولات بوصفها توجه نحو الاستسلام والتخلي عن الحقوق الوطنية للفلسطينيين في فلسطين. وحتى دعاة العقلانية والواقعية في الساحة الفلسطينية لم يقدموا تصورهم بوصفه الحل الأفضل، بقدر ما قدموه على أنه أفضل الحلول الممكنة في ظل المعطيات القائمة، وتصرفوا وكأن الدعوة إلى التسوية قباحة يرغمون عليها إرغاماً. حتى أن المعارضة الفلسطينية للتنازلات الفلسطينية كانت تبرر مواقفها السياسية الجديدة التي كانت ترفضها سابقاً، بأنها مجبرة عليها، وأنها تؤيدها كـ«مشاريع اعتراضية» على تنازلات «القيادة اليمينية» لمنظمة التحرير. ولكن في نهاية الثمانينات، كانت كل الفصائل الفلسطينية توافق على حلول كانت تعتبر في السنوات الأولى لانطلاقة العمل الفلسطيني المسلح المعادل الموضوعي للخيانة.
في سنوات السيطرة الأولى للفصائل المسلحة على منظمة التحرير، كان جزءاً أساسياً من أهدافها ليس السيطرة على القرار السياسي الفلسطيني فحسب، بل ومنع تشكل أية قيادة أخرى يمكن أن تكون مرجعية سياسية محلية. وعلى هذا الأساس حاربت على كل الجبهات وجود قيادات فلسطينية محلية، خاصة في الأراضي المحتلة العام 1967، حيث كانت ترى في أي قيادة محلية، قيادة بديلة لها. وقد بقي ذات السلوك قائماً بمنع وجود قيادة فلسطينية محلية في الضفة والقطاع حتى بعد أن تكرست منظمة التحرير ممثلاً شرعياً وحيداً. وليس أدل على ذلك من التعامل المذل والمهين، الذي اعتمدته قيادة المنظمة مع الوفد المفاوض الفلسطيني في إطار الوفد الأردني إلى مفاوضات مدريد ومن ثم واشنطن 1991.
والتأييد العارم الفلسطيني والعربي الذي شهدته حركة المقاومة الفلسطينية في نهاية الستينات والشلل الذي أصاب الأنظمة العربية أعطى إحساس وهمي بالقوة والقدرة تتجاوز القدرات الفلسطينية. وباتت الفصائل الفلسطينية تتعامل مع الساحة العربية بوصفها مجالاً رحباً ومستجيباً لقراراتها. وليس أدل على ذلك الإحساس الوهمي بالقوة والقدرة على التأثير في العالم العربي من القرارات التي جاءت بها أول دورة استثنائية للمجلس الوطني الفلسطيني في 27 آب 1970 قبل شهر واحد من الحرب التي شهدتها الأردن وأدت إلى خروج فصائل المقاومة من موقع ثقلها الرئيسي. فقد أعلنت تلك الدورة أنه «لا يكفي في هذا المجال أن تعتبر الحركات الشعبية العربية التقدمية مجرد حركات مدعمة للثورة الفلسطينية، بل علينا أن نلتحم في جبهة شعبية عربية ثورية واحدة». والأهم من ذلك في سياق هذا الشطط في الطموحات قرر المجلس تكليف اللجنة المركزية بتشكيل هيئة قيادية شعبية عربية تمثل شعبنا العربي وتقوده في نضاله ضد الإمبريالية والصهيونية والعملاء. هذا النوع من القرارات يعكس العقلية التي كانت سائدة أثناء الوجود الفلسطيني المسلح في الأردن، وكان هذا الشطط السياسي وهذا الإحساس الوهمي بالقوة والقدرة على التأثير واحدة من العوامل التي دفعت إلى الهزيمة التي منيت بها الفصائل في الصراع مع النظام الأردني.
من السقوف العالية جداً، بدأت رحلة التحولات السياسية الفلسطينية التي كان على القيادة الفلسطينية أن تكرسها بقرارات عبر مؤسسات منظمة التحرير. بدأت الرحلة من أقل الحلول خلافاً وهو مطلب «الدولة الفلسطينية الديمقراطية» كصيغة للتعايش اليهودي الفلسطيني داخل فلسطين المحررة. ومنها كان الانتقال في العام 1974 إلى برنامج «السلطة الوطنية» وهو التحول الذي ارتبط مع حرب 1973 ولم يكن الطريق سهلاً في الوصول إلى «برنامج النقاط العشر»، فقد شق هذا البرنامج الساحة الفلسطينية إلى فريقين أطلق عليهما، فريق «الرفض» وفريق «القبول». وقد جمدت الجبهة الشعبية على أثر إقرار البرنامج في المجلس الوطني عضويتها في المنظمة وشكلت ما عُرف وقتها «جبهة الرفض للحلول الاستسلامية». وقد افتتح البرنامج المرحلي مرحلة طويلة من التحولات والتراجعات الفلسطينية وصلت في النهاية إلى الإقرار بقرار مجلس الأمن 242 كأساس وحيد للتسوية مع إسرائيل. فقد تمثل الدور الذي لعبه هذا البرنامج «في أمرين: إقرار فكرة المرحلية برضى الجميع؛ والدعوة إلى الكفاح من أجل إنشاء سلطة وطنية فلسطينية على أي جزء يتحرر من الاحتلال الإسرائيلي من ارض فلسطين. وبإقرار المرحلية والتوجه إلى القبول بسلطة على جزء من ارض فلسطين، طوى برنامج النقاط العشر هذا جملة من الثوابت السابقة، طوى بعضها صراحة وطوى بعضها ضمناً، وانفتح الباب أمام طيِّ ثوابت أخرى في المستقبل وفق المستجدات اللاحقة وفي برامج وطنية لاحقة صادقت عليها الهيئات الفلسطينية الشرعية إما بالإجماع أو بالأغلبية الساحقة.
وعادت الساحة الفلسطينية للتوحد في «برنامج المجلس الوطني لسنة 1977، المعروف ببرنامج النقاط الخمس عشرة، لم يرد ذكر لسلطة الشعب الوطنية المقاتلة، وحلت محلها «دولة وطنية مستقلة فوق التراب الوطني.» وقد بقي مكان هذه الدولة غير واضح المعالم. وهذا البرنامج شكل نقطة الوسط الاجماعية التي نقلت نقلتها الأخيرة في المجلس الوطني في دورته التاسعة عشر في الجزائر 1988، والتي جاءت بالموافقة الصريحة والإجماعية، رغم تحفظات البعض، على أن قراري مجلس الأمن 242 و338 كأساس لمشاركة منظمة التحرير في المؤتمر الدولي، بعد ربطها بحق تقرير المصير للشعب الفلسطيني. وجاء النص واضحاً على ضرورة انعقاد المؤتمر الدولي الفعال الخاص بقضية الشرق الأوسط وجوهرها القضية الفلسطينية… وباعتبار أن المؤتمر الدولي ينعقد على قاعدة قراري مجلس الأمن رقم 242 و338 وضمان الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني وحقه في تقرير مصيره… وباتخاذ القرار بمرجعية 242 و338 تكون منظمة التحرير قد استكملت التحولات التكيفية التي شرعت فيها منذ مطلع السبعينات، لنقل القضية الفلسطينية من القضية الأساس إلى قضية الاحتلال الإسرائيلي لأراضي الضفة والقطاع، وبذلك أيضاً تكون قد استكملت نهائياً تغيرات الهدف النهائي من تحرير «كامل التراب الوطني الفلسطيني» إلى إقامة الدولة الفلسطينية وفق «قرارات الشرعية الدولية». وقد كانت هذه التحولات تعبر أيضاً عن التكيف مع السياق العربي باعتبار المنظمة باتت جزءاً من النظام الرسمي العربي بعد الاعتراف بها كممثل شرعي ووحيد من قبل الجامعة العربية، وليس غربياً أن يتزامن هذا الاعتراف تقريباً مع إقرار البرنامج المرحلي في العام 1974 والذي كان البداية الواضحة للتكيف الفلسطيني مع متطلبات النظام الرسمي العربي التي باتت جزءاً منه.
لقد قاد كل هذه التحولات التكيفية فصيل فلسطيني واحد هيمن على مؤسسات منظمة التحرير منذ دخول الفصائل إلى إطار المنظمة، وإذا كانت هذه القيادة في عقد السبعينات قد حاولت أن تصور قراراتها بوصفها قرارات اجماعية فلسطينية، عبر اجماعات منظمة التحرير، فإنها قد تخلت عن ذلك وكشفت عن حقيقة العلاقات داخل المنظمة عندما عقدت وحدها دورة المجلس الوطني الفلسطيني السابعة عشرة في عمان، تاركة الآخرين خارج إطار المنظمة ومعلنة بشكل لا يقبل مجالاً للشك، بهيمنتها المطلقة على مؤسسات منظمة التحرير وبالتالي على القرار الوطني الفلسطيني. وقد تكرر هذا التفرد على شكل مهزلة، في دورة المجلس الوطني ال 21 التي عقدت في غزة، وعرفت بدورة «تغيير الميثاق» والتي كان عقدها كاريكاتورياً ولمهمة واحدة بعد التهميش الذي تعرضت له كل مؤسسات منظمة التحرير بعد توقيع اتفاقات أوسلو من الإسرائيليين.
لقد حاولت القيادة الفلسطينية إبقاء الخطاب السياسي الفلسطيني متسماً بالغموض، يقول كل شيء ولا يقول شيئاً، أو يقول المواقف السياسية المتناقضة في ذات الوقت، وهي السياسية التي عرفت في نهاية السبعينات وبداية الثمانينات بسياسية الـ«لعم» التي تحاول أن ترضي الجميع داخلياً وخارجياً دون أن ترضي أحد فعلياً. وكان لهذه السياسة أسبابها التي جعلت تحكم الساحة الفلسطينية فترة من الزمن، فلم تكن القيادة الفلسطينية قادرة على الانقلاب بالسرعة الكبيرة على شعاراتها الأولى، وكان هذا يحتاج إلى وقت لتمرير، وكانت في سياق تكيفها مع النظام الرسمي العربي تقع فريسة مطلبين لاصطفافين متناقضين في النظام العربي، مطلب الدول المتشددة، ومطلب الدول المحافظ، وكان خطاب الـ«لعم» يحاول إرضاء الطرفين. كما كان هذا الخطاب يحاول إرضاء قوى المعارضة داخل إطار منظمة التحرير، ويحافظ في ذات الوقت على مساحة للمناورة بين الجميع، وهو ما عُرف بـ«اللعب على التناقضات العربية ـ العربية».
لقد أمسك عدد محدود من الأشخاص آلية القرارات الفلسطينية في ظل غياب المؤسسات، وكانت الفردية هي العنوان للممارسة السياسية التي استقرت عليها آلية صنع القرار الفلسطيني منذ النصف الثاني من السبعينات، وبفقدان آليات المحاسبة والمساءلة التي تتيح للشعب مساءلة قيادته، في كل مرحلة، فقد تمت الهيمنة على القرار السياسي الفلسطيني، وبهيمنة القيادة الفلسطينية على الإطار السياسي الفلسطيني ـ منظمة التحريرـ وجدت نفسها تهيمن على التجمعات الفلسطينية، دون أن تملك هذه التجمعات القدرة على محاسبتها، فكانت القيادة الفلسطينية تمارس السياسة من موقع بطرياركي / أبوي، دون مسؤوليات تجاه الشعب ذاته، ولأن الشعب الفلسطيني موزع على عدة دول فقد عنت هذه الممارسة نوع من الفوضى السياسية، وعنت، وهذا الأهم، عدم وجود استراتيجية سياسية فلسطينية مدروسة تتحرك القيادة السياسية من خلالها، وتبنى السياسة اليومية على أساسها، وبذلك لا تتحول السياسات اليومية إلى إستراتيجيات، ويتم التلاعب بتضحيات الشعب الذي لم يتأخر يوماً عن تقديمها. ولا يختلف ما يجري اليوم في الساحة الفلسطينية، سوى أن هناك ممارسة كاريكاتورية من قبل القيادة الفلسطينية وفي ظروف أخطر.