صقر الأسى والحلم
«أَنتَ المُعَلَّقُ فوق صُبَّار البراري من يديكْ
وعليكَ صَقْرٌ من مخاوِفنا عليكْ
وعليك أَن تَرِث السماء من السماءْ
وعليكَ أَرضٌ مثل جلد الروح تثقُبُهُ زهورُ الهِنْدباءْ
وعليكَ أَن تختار فَأْسَكَ من بنادقهمْ عليكْ».
في هذا المقطع الشعري المستل من قصيدة محمود درويش «ربِّ الأيائل يا أبي»، تلخيص لمجموعة من المشاعر المتناقضة التي تجتاحني، في هذا البرزخ العربي.
ماذا أتى بصقر الخوف إلى بيروت؟ وما علاقة صبّار البراري بالبحر؟
الصقر جاء إلى ليلي ليظلل خوفي في مطلع العام الجديد، ويأخذني إلى عالم يرسمه البيان، وتلونه الرؤيا.
لماذا يعود الشعر إلى إيقاعات دمنا من دون إرادتنا؟ وكيف استطاعت كلمات الشعراء أن تتحول من تجربة شخصية عاشها كاتبها، إلى تجربة يعيشها قارئها بعد سنوات لا تحصى.
هذا هو السر.
كنت أشرب نخب العام الجديد، حين انبثق السهرَوَرْدي المقتول ليهمس في قلبي:
«رقّ الزجاجُ وراقتِ الخمرُ
وتشابها فتشاكلَ الأمرُ
فكأنما خمرٌ ولا كأسٌ
وكأنما كأس ولا خمرُ».
وبدلاً من أن أمضي مع السهروردي في شطحاته الصوفية الآسرة، وجدتني أمام «صبار البراري» مع درويش. كأن شاعر «لا تعتذر عما فعلت»، لم يكتب هذه القصيدة لوالده بل كتبها لزكريا الزبيدي ورفاقه، الذين حفروا للحرية نفقاً في جلبوع، فتحول نفقهم إلى التجدي الأكبر الذي تواجهه الكلمات.
كيف نحفر نفقاً للكلمات وبها.
حين قلت إن الشعر انبثق من حيث لا أدري، لم أقل الحقيقة بل قلت أختها. لم أكذب، فالأدب لا يكذب إلا ليقول الحقيقة، لكن حقيقته مختلفة، فهو لا يصور الواقع، بل يصنع احتمالاته.
لذا كان الأدب والفن وسيكونان، أمكنة الروح. هنا في أنفاق حرية الكلمات تولد حقيقة جديدة، نرنو إليها، لأنها تأخذنا إلى أماكن لا يراها إلا من جعل الكلمة سفينة تتمرد على اليمّ وتروّض الألم.
كنت أتحاور مع الكأس وأستعيد شعراء العرب الذين حولوا الخمر إلى احتفاء بالحياة، أتمايل مع الأعشى وأطرب لأبي نواس وأرى نفسي في مرايا الأخطل الصغير (بشارة الخوري) وأنحني أمام ابن الفارض والسهروردي، حين انبثق صقر محمود درويش، ورأيت نفسي أردد أبياته الشعرية التي رأيتها تتحاور مع قصيدة لأنسي الحاج تضع النقاط على المعاني:
«أنا الموقع اسمي أدناه/ أسمعُ المطرَ ينزل جافاً على الإسفلت/ ومما قلتُ الآنَ وقبل الآن/ لن تذكروا كلمة/ لكن فمي ارتوى قليلا/ وهو يروي لمن يريد/ ماضي الأيام الآتية».
يروي الراوي من أجل أن يرتوي، لكنه يدلنا على حاضرنا بصفته الماضي الذي سيكون. كان محمود درويش يتكلم عن ماضي والده المصلوب على صبّار التهجير والمنافي، لكنني قرأت قصيدته مرتين: المرة الأولى في حكاية محمود ومحمد العارضة وزكريا الزبيدي وأيهم كممجي ومناضل نفيعات، وهم يصعدون من النفق إلى صليب الصبّار.
وفي المرة الثانية بدت القصيدة وكأنها تلملم جراح أرواحنا في بيروت. فالمدينة المصنوعة «من ذهبٍ ومن تعب وأندلسٍ وشامْ»، بدت وكأنها تمد يديها على صليب البحر. وفي البحر لا نجد صباراً ولا محاراً ولا سمكاً. في البحر نرى أشلاء الضحايا، فنكون كمن صُلب على شاهدة قبر شاسع أزرق. تحمل القراءة في داخلها قدرة عجيبة على التأويل، وإعادة صوغ المعاني، لكن ماذا يحصل حين نقرأ في ذاكرتنا وليس في نص مكتوب. فأنا لم أعد إلى كتابَي درويش والحاج كي أقرأ هذين المقطعين من قصيدتيهما. انبثق الشعر من ذاكرتي، أي أتى من مكان خفي في داخلي، كي يسمح لي بالتعبير عن أيام لم يرها الشاعران، لكنهما كتباها. فصارت أيامي وكأنها من كلمات.
أن يشعر من يعيش هنا في بيروت أو هناك في نابلس وجنين أنه معلّق على شوك صبار البراري، حيث لا براري، بل غابة من إسمنت المخيم، أو قباب من أقواس المدينة أو بحر شاسع اسودّ أزرقه، فهذا يعني أن أنسي الحاج أعطى لدرويش ماضي الأيام الآتية من دون أن يدري، ودرويش أعاد صوغها من دون أن يدري أنها ستصير وعاء لألم حاضرنا، وحلمه بأن نأخذ فأسنا من البنادق المصوبة إلينا.
تاريخ الأدب حافل بهذا النوع الخارق من التداعي، ألم يأت الشعر العربي القديم إلى مائدة المتنبي الذي أعاد صوغه؟ ألم يستلّ أبو العلاء دعوته لنا كي لا نسير على الأرض من «معجز أحمد»:
«سر إن اسطعت في الهواء رويدا/ لا اختيالا على رفات العباد». كأن الشاعر الأعمى استعاد بيتين من شعر المتنبي: «نعد المشرفية والعوالي/ وتقتلنا المنون بلا قتال/ يدفّن بعضنا بعضاً وتمشي/ أواخرنا على هام الأوالي».
ذاكرة «صبار» درويش نجحت في إزاحة ذاكرة «كأس» السهروردي في ليلة رأس السنة، وهذا لا يحمل أي حكم قيمة، بل يشير إلى الكيفية التي تولد عبرها المعاني في لحظة ما. أخذني «الصبار» إلى «ماضي الأيام الآتية»، كي يعلمني أن بلاغة الأدب تكمن في قدرته على مخاطبة الأحياء من خلف حجاب الموت. فالسر الأكبر الذي يختزنه الأدب هو أنه أرض لقاء بين الأحياء والأموات.
هكذا قضيت ليلة رأس السنة مع صقر مخاوف الشعر الذي يظلل قراءه، ويمدّ لهم عتبة الخروج من الأسى إلى الحلم.