عام 1988، ذهبتُ إلى موسكو لعلاج قدمي المصابة برصاص جنود الاحتلال الإسرائيلي، والتي لم تشفَ حتى الآن، رغم مرور ما يزيد عن نصف قرن (منذ 5 حزيران يونيو 1969)، لأن شظايا الرصاص المتفجر “دمدم”، قد استوطنتها.
وأنا ذاهب إلى موسكو، لم أكن أعرف فيها إلا ابن عمي وصديقي العزيز الدكتور زكريا جابر، لكني غادرتها ولديَّ باقة من الأصدقاء الرائعين، اهتموا بي، تبادلت وإياهم الأخوّة والمشاعر الإنسانية الراقية، قضيت وإياهم وقتاً ممتعاً، وسهرنا وغنينا معاً في غرفهم، في السكن الطلابي قرب مستشفى رقم (29) في موسكو، حتى أن بعضهم أعطاني مفتاح غرفته حتى أستحم وأرتاح هناك.
كنت أُثبت حضوري في المستشفى نهاراً، وفي الليل أنام عند أصدقائي الطلاب، فقد كرهت المستشفى بعد أن أصبح وجودي فيه بلا طائل، بعد قرار الأطباء أن قدمي لا تتحمل عملية جراحية أخرى بعد 14عملية جراحية أُجريت لها، في عدة دول. طلبت من الرفاق السوفييت أن أغادر، لكنهم قرروا أنني أحتاج إلى حذاء طبي، ولم تقبل إدارة المستشفى رفضي لهذا الحذاء، وأصبح واضحاً إن مغادرتي لموسكو مربوطة بهذا الحذاء، الذي استغرق صنعه 3 أشهر!
كانت ليلة وداع أصدقائي لي مؤثرة. سهرنا وغنينا في غرفة الطالب الفلسطيني حسن أبو بكر من يعبد، كان معنا الطالب فادي اللبناني الذي يعزف على الغيتار، وطالب كردي مدهش ذو قلب شفاف ويعشق الشعر.
أثناء السهرة، بكى حسن، وقال أنني أذكِّره بشقيقه الأسير. بكى بحرقة حتى أحزننا جميعاً. قلت له حتى أخفف حزنه وأفتح نافذة للأمل:
– بسيطة يا حسن .. إن شاء الله تشوفني في الخليل، وأشوفك في يعبد.
أجابني بعصبية وهو يبكي:
– لكن مش تموت، بلعن (…) إذا بتموت!
يا الله، لأول مرة أقابل شخصاً يحبني هذا الحب ويطلب مني ألا أموت حتى نلتقي!
حقاً إنها بديهية بسيطة تستدعي التأمل والحزن: إن الشرط الأول للقائك مع شخص تحبه هو أن تبقيا على قيد الحياة.
فيا أيها الأصدقاء والصديقات الأعزاء المشردون.. والمنفيون.. والمنتشرون في أربع رياح الأرض، الذين لا ألتقي بكم بفعل الاحتلال.. والاستبداد.. والغربة.. ونكد الدنيا، والكورونا، أرجوكم ابقوا على قيد الحياة حتى نلتقي..
وأنت أيها الموت الذي لا يخجل ولا يمل، لا تضع أصدقائي في رأس قائمتك..
أجل، أيها الموت، إبعد عني وعن أصدقائي، حتى نلتقي!