صدمة الضحايا لإنقاذ المستعمِر

يعتبر يورام يوفال شخصية اكاديمية مرموقة في مجالات بحثية وبالذات علوم الدماغ. وهو محسوب سياسيا على معارضي الاحتلال وعلى جناح “اليسار” الصهيوني. كما يعتبر خبيرا في صناعة الرأي العام وهندسته. وقد نشر في هارتس  (6/10/2022) مقالا بعنوان: “400 حافلة ومدينة خيام واحدة – هكذا سيتم طرد 200 ألف من عرب اسرائيل خلال يومين”.

يقدّم الكاتب مشهد رعب متكامل ابطاله هم بن غفير وزيراً للقضاء وسموطريتسش وزيرا للأمن والجنرال فوغل في دور وزير الأمن الداخلي، ويسرد المشهد تسلسل احدث يومية تبدأ في شهر تشرين ثانٍ نوفمبر هذا العام، وتمتدّ على شهرين يتم خلالها وفي عملية عسكرية مباغِتة تحميل مائتي ألف عربي فلسطيني من الداخل ونقلهم في مائتي حافلة الى مدينة خيام تقام في الضفة الغربية ولا تُتاح لهم العودة فيما بعد بل الهجرة الى المنافي، ويتمّم العملية بترهيب الباقين من الفلسطينيين العرب وتحويل مواطنتهم الى حالة رعب دائم. وينهي المشهد بالتنويه الى أنه مشهد قد يحصل وقد لا يحصل، إلا أنّه قابل للتطبيق في الحالة الاسرائيلية وفي الذهنية المسيطرة.

يتراود السؤال لماذا يكتب هكذا مقال، ففي السياسة لا يعتبر يورام يوفال شخصية مرموقة كما في مجالات علوم النفس والدماغ؟ كما أنه لا ينتمي الى المجموعات اليهودية المناهضة للصهيونية والاحتلال والتي تشتبك مع جنود الاحتلال أسبوعبا الى جانب المقاومة الشعبية الفلسطينية في الضفة الغربية والقدس، فهل هو لإخافة الفلسطينيين في الداخل وخلق حالة هلع قد يندفعوا بسببها الى صناديق الاقتراع وتكون المعادلة المطروحة أمامهم إما حافلات تهجير أو حافلات لنقل المصوتين الى صناديق الاقتراع للكنيست لصالح لبيد وغانتس وساعر ليعيدوا تشكيل ما أطلقوا عليه حكومة تغيير او حكومة الأحلام؟  أم كي يعيش هذا الجمهور صدمة وييأسوا ولا يخرجوا للاقتراع. أم انه يريد من هذا الجمهور ان يتحمل وزر صعود نجم ايتمار بن غفير وحزبه الفاشي وريث حركة كاخ التاريخية بقيادة مئير كهانا، وإمكانية سيطرته مستقبلا على مقاليد الحكم الاسرائيلي. لا يسعى يوفال مثلاً الى إخافة مصوتي حزب العمل او ميرتس او لبيد بل المصوتين العرب الفلسطينيين. ولا يسعى الى توجيه “الصدمة” الى سكان أحياء شمال تل ابيب التي تدعم أحزاب المركز العلمانية الصهيونية، ولا يتحدث الى ما يطلقون عليه الضمير اليهودي. إنه ليس نبي الغضب كما جده يشعياهو ليبوفيتش الذي ربط ازمة اسرائيل بالاحتلال عام 1967 مباشرة بعد حدوثه (وللحقيقة وللتاريخ إنه ليس الوحيد وليس الأول)، بل يصبو يوفال الى تغيير الضحايا وسلوكهم. حتى إنه يرى بضحايا مجتمعه ودولته ملجأ حماية سياسية. إنه لا يدعو مثلا الى جبهة ضد الفاشية ولمناهضتها ميدانياً ولإسقاطها بالمظاهرات والاحتجاجات والصدامات. بل يبدو المقال جزء من الحملة لدفع فلسطينيي ال48 الى التصويت ومن ضمن الحملات الممولة بالمال الامريكي اليهودي وغير اليهودي، وهدفه كما الامريكان وكما السلطة الفلسطينية والاردن في ان لا يعود نتنياهو الى الحكم، كلٌّ حسب مصالحه واعتباراته. لكن وللأسف هناك إجماع صمت في هذه المسألة بين الاحزاب العربية التي تخوض المعركة الانتخابية وهو نهج يعود الى اواخر سنوات التسعين ولا يزال يتعمّق لتشجيع دمج الفلسطينيين العرب في قواعد اللعبة الاسرائيلية وللمدى البعيد في خلق نخب تسير في هذا الاتجاه.

بن غفير وحزبه الفاشي هما مائة بالمائة نتاج اسرائيل وعنصريتها واحتلالها ومنظومتها، ونتاج التحولات العميقة الحاصلة في مجتمع الحرديم الآخذ بالتصهين. ما يسعى اليه التيار العلماني الصهيوني وبقيادة لبيد اليوم، وهو صهينة التيار الحريدي وتجنيده للخدمة العسكرية إنما يقدم سياسياً، وعلى طبقٍ من فضة، هذا الجمهور الى بن غفير الذي يخاطب يهوديته. والذين يشكل هذا الاخير بالنسبة لقياداتهم التقليدية التهديد الأكبر. ولا يستطيع احد سواء كان من اتباع الوصائية على العرب او من اقصى اليمين أن يدّعي ان سطوع نجم بن غفير وبالذات بين الشباب الاسرائيلي من كل أوساطه هو نتاج السلوك السياسي العربي الفلسطيني في الداخل، اسوةً بما كان يدعيه زعيمهم الروحي شمعون بيرس بما معناه أن دور العرب هو إسقاط اليمين (الليكود) وتنصيب شمعون بيرس رئيسا لحكومة اسرائيل، وحين خسر الانتخابات عام 1996 أمام نتنياهو وبعد اغتيال رابين، اتهم الشعب الفلسطيني ضحايا احتلاله بالمسؤولية، وحمّل الجماهير العربية الفلسطينية مسؤولية سقوطه وصعود نتنياهو، و”لم تهتزّ له قصبة” تجاه مجزرة مدرسة قانا التي شكّل فيها مجرم الحرب المناوب في عدوان “عناقيد الغضب” من العام ذاته.

لا يصدّر يوفال الصدمة الى جمهوره بل الى جمهورِضحايا جمهوره، لا يقول للاسرائيليين لا تكونوا عنصريين ولا تتيحوا تطهيرا عرقيا للعرب تتحملّون مسؤوليته باعتباره أعمال أبادة وجريمة ضد الانسانية، بل يدعو العرب ان يشاركوا في قواعد لعبة الاسرائيليين، وبالذات في قواعد لعبة “اليسار” الصهيوني المندثر ممثلا بحزب العمل وميرتس. حزب العمل وحزب العمال الموحد المبام والذي اندمج في ميرتس وهما التيار المركزي في إحداث النكبة ونقل السكان والتطهير العرقي والذين لم يستخدموا “400 حافلة “بقدر ما استخدموا السفن لطرد أهل المدن الساحلية او للطرد الجماعي في الشمال والمركز والجنوب وليتدبّر المطرودون أمرهم نحو استدامة الاقتلاع واللجوء.

لقد تحرر  العرب من الوصائية وخانة “الاحتياطي” التي سعى إلى فرضها حزب العمل في عام النكبة، وذلك بنضالاتهم الوطنية والمدنية لاسقاط الحكم العسكري وفي مواجهة تهويد الجليل والنقب ومناهج التعليم وحتى اليوم، وبالامكان اعتبار يوم الارض والانتخابات التي تلته في العام 1977 حدثا مفصليا في هذا الصدد حين حصلت الجبهة الدمقراطية للسلام والمساواة حديثة النشأة ولأول مرة على غالبية لأصوات العربية وتقهقرت الاحزاب الصهيونية. وهي الانتخابات التي سقط فيها حزب العمل وتبوّا الليكود مقاليد الحكم، إلا أن هذا التيار (العمل) بات لديه حتى وهو يتلاشى اسرئيلياً حبّ الانتقام من العرب الذين رأى بهم أتباعا ورعايا له لا اكثر. وحمّالي عدّة إنقاذه من الغرق. 

ربما يكون في مقالة يورام يوفال تسليم منه بأنه لا أمل في المجتمع الاسرائيلي وقدرته على التغيير او وقف المد الفاشي العنصري المتصاعد. واعتراف منه بأن الجماهير العربية الفلسطينية هي القوة الدمقراطية الحقيقية الوازنة القادرة على التغيير في المجتمع الاسرائيلي وفرض وزنها، بينما في امتحان الواقع فإنّ فائض الرهان على فلسطينيي ال48 بأن يتحمّلوا مسؤولية إسقاط احتمالية حكومة نتنياهو فيه غبن لهذا الجمهور. ففي القضايا الأكثر جوهرية فإن نتنياهو ولبيد وغانتس متوافقون على استمرار الاحتلال وتعميقه وعلى العدوان وعلى شرعنة عنصرية النظام، وتدعمهم في ذلك المحكمة العليا والاعلام والراي العام. في المستوى الحزبي السياسي فإن احتمالية ان ينضم غانتس وحزبه الى ائتلاف بقيادة نتنياهو واردة أيضا بصفته بديلا عن تحالف بن غفير-سموطريتش، وهناك أصوات دولية وامريكية معنيّة بهكذا ائتلاف لصالح مصالحها ولصالح شرعية اسرائيل ذاتها وللحيلولة دون تعميق اعتبارها نظاما عنصريا.

يناضل الفلسطينيون العرب في اسرائيل من اجل حقوقهم وحقوق شعب فلسطين، وفي مواجهة العدوان والعنصرية البنيوية ومن اجل التطور وتعزيز وضعيتهم، إنهم ليسوا قوة احتياط لـ”يسار”الصهيوني بل انهم جزء حي وقوة كفاحية من شعبهم وفي وطنهم.

About The Author

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *