صدمة السؤال غير المتوقع في امتحان مادة التاريخ!
قرأنا كتاب التاريخ المقرر بنهم. توقفنا عند أحداثه المهمة جداً وحفظناها عن ظهر قلب.
أول وأهم تلك الدروس، نابليون وحملته على مصر، من أهدافها إلى مسارها، وما تخلله من مواجهات، وصولاً الى نتائجها، التي اختلف كبار المفكرين على تقييمها.
ثم محمد علي في مصر، وقضاؤه على المماليك في مذبحة القلعة الشهيرة، وغزواته خارجها، وماذا كانت مآربه من تلك الغزوات، حتى نهاية عهد سلالته التي امتدت حتى العام 1952.
قبل انتهاء الوقت المحدد للامتحان، دخل على قاعتنا مدير المراقبين، وراح يتساءل:
مطولين ياشباب؟ وهو سؤال على غير العادة. ماخبرناه وعرفناه، أن المراقبين يطلبون من الطلاب الذين أنهوا كتابة الأجوبة، مراجعة أوراقهم للتأكد من أجوبتهم، وهم يشيرون إلى ضرورة استثمار الوقت المخصص للامتحان حتى منتهاه. يومها، ونحن نجيب عن أسئلة مادة التاريخ، كرر المراقبون نداءهم لنا بأن نسرع.
سر هذا الطلب انكشف لنا عندما غادرنا مركز الامتحانات. صوت الراديو، الذي تستمع اليه جمهرة من الناس، يلعلع، والجمهرة تصفق بحرارة، وتبين لنا أنها الحرب المنتظرة.
سبق وصفقنا عند سماعنا خبر إغلاق مصر لمضائق تيران بوجه الملاحة الإسرائيلية. وصفقنا أكثر بطلب عبد الناصر انسحاب قوات الطوارئ الدولية من كامل الحدود المصرية- الإسرائيلية. واعتبرنا القرارين دليلا على ” قرب ساعة التحرير”.
كان ” حبيبنا” أحمد سعيد، بصوته المميز ولهجته المؤثرة، قائدنا في الحرب. ورحنا نحسب عدد الطائرات التي سقطت في إذاعة القاهرة، فكان تعدادها 76 طائرة حتى عصر الخامس من حزيران 1967.
في الحادية عشرة، تقريباً، أعلنت إذاعة دمشق أن الجيش السوري دخل “المعركة القومية” إلى جانب الشقيقة الكبرى مصر. البعض منا قال إن مصر لوحدها تحسم المعركة ولاقيمة لدخول الجيش السوري . البعض الآخر”العقلاني والموضوعي” ارتأى في دخول سوريا مايساعد على سرعة هزيمة إسرائيل. وراحت طائرات إسرائيل تتساقط” كالذباب” حسب تعبير مذيع الراديو في محطة دمشق . وتجرأ أحد زملائنا في الإبداع، فذهب ليشير إلى أن الطيران السوري له دور مهم، ذلك أن وزير دفاع سوريا ” حافظ أسد” كان ضابطاً في سلاح الجو.
كان التهييج في بيانات دمشق وبرامجها أكثر حرارة، فدائما يستبقون البيانات العسكرية بنداء” انتظروا بياناً هاماً”. ونستمر نحن في حساب عدد الطائرات. ويستمر الإعلامي والشاعر يوسف الخطيب في إلقاء قصائد النصر، وتستمر الإذاعة في تبشير الفلسطينيين بعودتهم إلى بلادهم. وكانت المغنية” لودي شامية” تشحن الطاقات وتلهم الإرادات بأغنيات عنترية وشوفينية ساقطة معدة على عجل.
أصدرت الحكومة السورية قرارا بوقف الامتحانات حتى إشعار آخر. لم نتساءل عن العلاقة بين” الإشعار الآخر” ودعاية تحرير فلسطين السريع. ابتهجنا بوقف الامتحانات، فالشهادات لامعنى لها أو قيمة عندما تتحرر فلسطين.
حتى أن أبو محمد الدهان الحيفاوي، تراجع عن تهديده لزميله بعد مشادة على لعبة ورق وقعت قبل الحرب، وطمأنه أنه سيشاركه بالورشات التي سيستلمها في حيفا عند عودتنا، بعد أن كان قد هدده بمنعه من استلام أي ورشة قبل الحرب بأسبوعين.
أصدقاؤنا من الشباب السوريين، ابتهجوا لاقتراب عودتنا وهنؤونا، وأضافوا لكننا سنفتقدكم ونشتاق لكم. نرد عليهم بأننا سنستضيفهم في بلادنا بعد عودتنا مباشرة.
صاحب محل بيع الأقمشة بالتقسيط المريح، هارون بنبهجي، يهودي الديانة، أغلق محله عصر يوم الإثنين، وهو يرى في عيون الآخرين نظرات انتقام وثأر وتهديد.
صاحب البيت الذي كنا نسكنه بالإيجار، وعدنا وحلف أغلظ الأيمان، أنه لن يأخذ أجرة شهر حزيران إذا عدنا لفلسطين قبل رأس الشهر.
كان السؤال بين نشرة أخبار والتي تليها: ” أديش صاروا”؟ وإن أجاب أحدنا بتعداد للطائرات المسقطة أقل من التعداد الذي أعلنته إذاعتا دمشق والقاهرة، يتعرض لهجوم وتوبيخ باعتباره “مقصرا” في قول الحقيقة. وتلقى عليه التهمة بأنه يستمع لإذاعتي لندن وإسرائيل، ولا يتابع القائد” أحمد سعيد” وبيانات الراديو في مصر.
اثنان من رجال البلدة” كفرسوسة” كانت ردود فعلهما، على بيانات تساقط الطائرات، وعلى ابتهاجنا العارم بالحرب، باردة ولا تنسجم معنا. الأول هو القهوجي، حين يصغي لأحاديثنا النارية المبتهجة، يبقى صامتا، وملامحه لا تدل على مشاركتنا البهجة، فيذهب إلى الوجاق ليحقن بابور الكاز تحت سماور الماء، وكأنه يريد أن يصم آذانه عن الراديو وعن أصواتنا التي تتطاير إلى أوسع فضاء. والثاني، صاحب دكان” سمَان”، فلسطيني الأصل، خدم في البوليس البريطاني أيام الانتداب. كان يسمعنا ويبتسم، ولا يدلي بأي تصريح، يكتفي بالقول: ” انشالله تكون الأخبار صحيحة”.
النساء الفلسطينيات، المقيمات مع عائلاتهن في كفرسوسة، كنَ يتحاورن ويتشاورن ويخططن للطريق الأفضل للعودة. هل من طريق الجولان والحمة، أم من طريق الجسر الأردني نحو الضفة، أم من لبنان. ويبلغن بعضهن عن الأغراض التي سيحملونها معهن وهن يغادرن سوريا إلى فلسطين. كلهن نذرن ان يعدن بثيابهن فقط. وتواعدن على زيارات متبادلة مباشرة بعد وصولهن إلى بلداتهن في فلسطين. لم تخل أحاديثهن في هذا الخصوص، من دعوات لبعضهن البعض، بمرافقة واحدة للثانية إلى بلدتها أولاً لتبيت عندها ثم تتابع إلى قريتها، وغالبا ولا واحدة منهن تقبل ذلك، لكنهن يتواعدن على زيارة سريعة” بس نرجع عالبلاد”.
عشنا الحرب في الراديو، ومرة واحدة سمعنا دوي قريب، علمنا أن غارة جوية إسرائيلية دمرت مطار المزة. ولم نتأكد من صحة أغنية إذاعة دمشق” ميراج طيارك هرب”. ولمواكبة ثقافة الحرب، شرعنا بالنقاش حول أيهم أقوى طائرات إسرائيل أم طائرات مصر وسوريا، استنتجنا أن ” الميغ 21″ حديثة الخدمة في الجيشين المصري والسوري هي الأفضل. أما طيارونا فهم الأشجع والأجدر، لأن “الطيار الإسرائيلي الجبان” يربطونه إلى مقعد الطائرة حتى لا يستطيع القفز والهروب.
زد على ذلك أننا كنا نتشوق لبدء صواريخ ” الظافر والقاهر” المصريين الدخول إلى المعركة حتى لا تطول كثيرا، ونسرع بالعودة إلى بلادنا. كنا نتساءل عن سبب تأخر انطلاق تلك الصواريخ، فتأتي الردود ” أن عبد الناصر يعد لمفاجأة”.
الطابور الخامس، صار مصطلحاً ننزله على من يشك، ولو بتساؤل، عن خبر من هيئة أركان الإذاعات العربية، وعلى الفور تلصق به تهمة” الاستماع لاذاعة لندن وإسرائيل”.
في مناخات النصر المؤكد والمؤزر، صدَق أبو محروس، الفلاح الذي زرع أرضه كلها بالملوخية، أن النصر حليف العرب، وسيعود الفلسطينيون إلى ديارهم. وتسربت عنه شكوى من خسارته للموسم إذا عاد الفلسطينيون إلى بلادهم قبل قطاف الملوخبة، و لا ينسى إعلان تمنياته بعودتهم لكن لو بعد الموسم، فلا أحد يستهلكها مثلهم. وفي النتيجة كان أبو محروس محظوظا من وصول النازحين، اعتبارا من التاسع من حزيران، فهم يستهلكون الملوخية ويدمنونها، فارتفع سعرها، وكانت هزيمة الجيشين، المصري والسوري، من حظ ملوخية أبو محروس، دون أن يتمنى ذلك. جل ماتمناه تأخير النصر وعودة الفلسطينيين، لما بعد انتهاء قطاف الموسم وتسويقه.
في العاشر من حزيران كانت صدمة العرب بإعلان عبد الناصر خسارته للحرب وتقديم استقالته. وفي اليوم ذاته وصل أنور، المجند الإلزامي بالجيش السوري، عائداً من الجبهة بقدمين متورمتين، متحررا من كل عهدته. وبعد انتهاء الحرب، غرَمته هيئة الأركان السورية ثمن حذاء ومطرة وحزام وسط وقميص بدلته العسكرية، وأفصح عن شكواه كيف طلبوا منا الانسحاب الكيفي، ثم غرَموني ثمن الحذاء وبقية العهدة.
في أيام الحرب سمعنا باسم موشي دايان، وبعد وقت قصير شاهدنا صورته. ولم نكن نتوقع أنه هو صاحب السؤال الأهم من كل أسئلة امتحان مادة التاريخ المدرسية. ومن يومها انشغلنا بالإجابة عن ذلك السؤال، وكلما اعتقدنا أننا امتلكنا الجواب الكامل والصحيح نعود لنكتشف أخطاء مريرة في أجوبتنا.
وما زال امتحان التاريخ لنا بسؤاله المفاجئ، الذي طرحه علينا” الأعور- كما كنا نتلذذ بتسميته، موشي دايان، يحتاج اكتمال الجواب.