صدع جديد في حائط المبكى

يجدر وضع استدراكيْن قبل الشروع في هذه المقاربة المتعلقة بتداعيات الانقلاب السياسي الإسرائيلي، الناجم عن انتخابات الكنيست أخيراً: أنّ استخدام مصطلح حائط المبكى لا يعني التسليم مطلقاً بالرواية اليهودية الزائفة عن الهيكل المزعوم، الذي يسمّيه العرب والمسلمون حائط البراق، حيث الحائط الغربي لصحن المسجد الأقصى. وأنّ من المبكّر التسرّع في استخلاص الأحكام القطعية، والتبشير مثلاً بقرب انهيار ذلك “الحائط”، فالنتائج المرجوّة لا تزال معلّقة بسيرورة التفكّك التدريجي من الداخل، التي تكتسب، مع مرور الوقت، قوة زخمٍ ذاتي، ليس لنا يد طويلة فيه.
ومع أنّ هناك تصدّعات في حائط المبكى، حدثت في مناسبات كثيرة سابقة، كان بعضها جلياً، وبعضها الآخر طفيفاً لا يُرى بالعين، إلّا أنّ ما جرى ويجري تباعاً في أحشاء المجتمع الإسرائيلي في هذه الآونة، من تصدّعٍ ظاهر للعيان، يتّخذ هيئة خط شاقولي متعرّج، يبدأ من أعلى مداميك الحائط ويمتد إلى قاعدته الحجرية السفلى، هو الصدع الأكبر على الإطلاق منذ زراعة هذه الشجرة السامة في بلادنا العربية، نظراً إلى ما يشي به هذا التحوّل من مضاعفات سياسية وأمنية واجتماعية تلوح في أفق قريب، بعد أن سقط القناع عن القناع، وباتت العورة البنيوية الشاذّة واضحة لكلّ ذي بصيرة.
بكلام آخر، ضرب هذا الصدع غير المسبوق ثلاثة أعمدة تقوم عليها الخيمة الإسرائيلية المشدودة إلى عدة أوتاد قوية، الأول ماثل في الصورة التي روّجتها، بنجاح ظاهر، ماكينة إعلامية هائلة وحاذقة، عن “الدولة الديمقراطية الوحيدة في صحراء الشرق الأوسط” إذ أدّى انتقال القوى الفاشية من الهامش إلى مركز صنع القرار، إلى ضعضغة العمود الوسط في تلك الخيمة، وزعزعة إحدى أهم الميزات النسبية، التي سحرت ألباب قادة الرأي العام الغربي، وتفوقت بها الدولة العبرية، التي نزعت قناعها الليبرالي المزيف، وباتت بعد هذا الانقلاب دولة دينية أصولية عنصرية على رؤوس الأشهاد، وصار من الممكن محاصرتها أخلاقياً ونبذها سياسياً، كما أصبح نزع الشرعية عنها أيسر من ذي قبل.
وهناك عمود إسناد أصغر، إلى جانب عمود الوسط، الذي أصابه هذا الصدع، ونعني به المنظومة القضائية، ومنها المحكمة العليا، التي ظلت طوال الوقت تستعمل المساحيق الرخيصة، للتغطية على الاحتلال، وهي جزءٌ من منظومته الأشمل، إذ تمخّضت التعديلات القانونية المصاحبة للاتفاقيات الائتلافية بين اليمينَين، المتطرّف والفاشي، عن انكشاف الصورة الحقيقية لدولة ثيوقراطية رجعية.
أما العمود الثاني الذي مسّه ضرر فقد يتفاقم مستقبلاً، فهو الذراع الأمنية الطويلة لدولة الاحتلال والاستيطان، جرّاء إسناد أجزاء من مؤسسة الأمن إلى أشقياء وزعران ومطلوبين للقضاء، قد يتحوّل بعضها إلى تشكيلاتٍ عسكرية موازية، في دولة عمادُها وسرّ وجودها الجيش والاستخبارات، وهو ما يشير إلى أشدّ مضاعفات هذا الانقلاب، الذي أثار حفيظة الجنرالات ورؤساء الأركان والضباط المتقاعدين، الذين راحوا يحذّرون، بصوت مسموع، من مغبّة اللعب في الحيّز الممنوع، بترضية من جرى وصفهم بالنص الحرفي “بلطجية ومجانين ولصوصا” ليسوا مؤهلين لتولّي مسؤوليات ثقيلة الوزن، من أمثال بن غفير وسموترتش ودرعي وغيرهم من الملاحقين جنائياً.
العمود الثالث الذي اهتز بقوة، ولا يزال يواصل اهتزازه على وقع هذا الانقلاب المدوّي، شاخص في الصدع الضارب في مبنى العلاقة العضوية الوجودية بين دولة الاحتلال والجالية اليهودية ذات النفوذ الواسع داخل أوساط النخب الأميركية، إذ تغصّ وسائل الإعلام الغربية بأخبار ومواقف وعرائض كثيرة محذّرة من وطأة التداعيات المحتملة لهذا التحوّل الانقلابي في المشهد الإسرائيلي، وهو أمر وجد صداه في ردهات الإدارة الأميركية المتوجّسة من عقابيل خروج الموقف في الأراضي الفلسطينية المحتلة عن السيطرة، وانفجار أزمة إقليمية ليست واشنطن في حاجة لها الآن.
هذه هي أهم أعمدة استمرار الوجود الإسرائيلي، وحجر أساس بقائه على قيد الحياة، وها قد ضربها تحوّل تدريجي متراكم في البنية السياسية لمجتمع استيطاني يتبتّل في محراب القوة العسكرية، كان يواصل الانجراف حثيثاً نحو اليمين والأصولية الدينية، ثم أخذ يغذّ الخُطا نحو العنصرية والفاشية، إلّا أنّ حصيلة هذه المضاعفات قد تتبدّد إن لم يجرِ تسريع وتائرها بمقاومة شعبية متصاعدة، ورفدها بقوة إسناد عربية فعّالة، تعرف كيف تنال من دولة الاحتلال، تضعفها أكثر، تُحاصرها وتعمل على إسقاط روايتها، وإنزالها من فوق القانون الدولي إلى تحته.

عن العربي الجديد

About The Author

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *